لماذا لم يناصر أهل الحجاز والمدينة أمير المؤمنين (ع) وكان أكثر أنصاره من الكوفة؟

السؤال: جاء في موقعٍ: أنّ الذين ناصروا الامام علي (ع) هم جمع غفير من أهل الكوفة، وأما الصحابة وأهل الحجاز وأهل المدينة فقد نشأوا على موالاة الخلفاء الراشدين! ما سبب هذا الميل عن الإمام رغم أنّ الرسول كان فيهم، وذكر عشرات الأحاديث على الأقل بفضل عليّ وولايته؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هناك حالة من التناقض يشعر بها البعضُ عندما يرى النصوص الدالّة على أحقيّة أمير المؤمنين (ع) بالخلافة، ومن ثَمّ يرى التاريخ الإسلاميّ قد انحرف عنه كثيراً وعمل على استبعاده ومحاربته.

والذي يبدو أنّ هذا التناقض ناتج عن التصوّر المثاليّ للمجتمع الإسلاميّ الأوّل، فمعظم الدراسات المهتمّة بالأحداث التاريخيّة استبعدت التحليل النفسيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، فمن غير المسموح به الحديث جرحاً أو تعديلاً عن رعيل الصحابة وكبار التابعين!

والسبب في ذلك هو النظرة المقدّسة للإنسان الذي كان يعيش في العصر الأوّل للرسالة، فالباحث عندما يرتكز في تحليله على رؤية تمنح إنسان التاريخ وصفاً يخرجه عن الإطار الطبيعيّ للإنسان، فلابدّ حينها أن يفتقد الباحث كلّ الشروط الموضوعيّة التي تمكّنه من فهم حقيقة ما وقع في التاريخ.

والإسلام وإنْ أحدث تغيّراً كبيراً في إنسان الجزيرة العربيّة، ولكنه ليس التغيّر الذي يسمح لنا بإسقاط بشريّته عندما نحاول فهمه، فالإنسان هو ذاته الإنسان الذي يعيش اليوم أو الذي عاش في ذلك الظرف التاريخيّ، له ميوله ورغباته ومصالحه، وبالتالي هو متفاعل سلباً أو إيجاباً مع المحيط الذي فيه.

وقد لا نجد مَن يختلف معنا في هذا التصوّر على المستوى النظريّ، إلاّ أنّه على المستوى العمليّ نجد الأكثريّة تتملّص من تطبيق ذلك على تاريخ الصحابة. بل قد يتطرّف البعض فتجده يوسّع تلك الرؤية المقدّسة لتشمل التاريخ الأمويّ والعباسيّ، فالهجوم الكبير الذي تعرّض له الأصفهانيّ في كتابه (الأغاني) كان يهدف ترميم تلك الصورة المثاليّة التي عمل الأصفهانيّ على تهشيمها، ونحن هنا لا ندافع عن الأصفهانيّ إذْ كان حوله ملاحظات منهجيّة وموضوعيّة، ولكنّنا لا نتفهّم الهجوم الذي ينطلق من القول أنّ تلك المجتمعات لا يمكن أن تفعل تلك المخازي والانحرافات، فما المانع من حدوثها طالما هم بشر قد وفّرت لهم الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة حدوثها؟

فمثلاً: إذا رجعنا الى انعكاسات ما يسمّى بالفتنة الكبرى، ووقفنا على تداعياتها على الوضع الإسلاميّ، نجد أنّ انعكاساتها السلبيّة لم تنحصر على المستوى السياسيّ، وإنَّما اتّسعت لتحقّق تغيّراً كبيراً في بنية المجتمع الإسلاميّ، فتحوّلَ المشروع الإسلاميّ الإلهيّ إلى مشروع إسلاميّ دنيويّ، يُستغَلّ الدينُ لتحقيق السلطة والهيمنة والمال من أجل الملذّات، فما حدث في التاريخ يجعلنا نشكّ في نوايا أكثر مَن شارك في ذلك الصراع السياسيّ.

فالذين خرجوا على عثمان لم يكن دافع جميعهم دينيّاً بحتاً، وإنَّما كانت هناك حاجات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة، والقليل جداً مَنْ كانت تُحرّكه أهداف دينيّة، من أمثال أبي ذر الغفاري الذي كان زاهداً مطالباً بحقوق الآخرين، وأمّا عائشة والزبير وطلحة فقد كان تحريضهم على عثمان من أجل تحقيق أهداف خاصّة سياسيّة واقتصاديّة، والدليل على ذلك: خروجهم على الإمام عليّ (عليه السلام) بعد أنْ بايعوه، فشنّوا عليه حرباً ضارية عندما لم يحقّق لهم ما طمعوا في تحقيقه، كما أنَّ تمسّك عثمان بالسلطة ليس لأنّ السلطة قميص ألبسه الله له، وإنّما لأنّ التخلي عنها أمرٌ عسير كما هو معلوم من حال البشر.

فإذا ما أخذنا عائشة زوج النبيّ (ص) كشخصيّة فاعلة في التاريخ، وأردنا أنْ نحلّل موقفها من أمير المؤمنين (ع)، نجد أنّ الكثير إمّا يمنع ذلك، وإمّا أنّه يجعل زواجها من النبيّ (ص) حاضراً ليغطّي على الأسباب الحقيقيّة التي دفعتها لحرب الإمام عليّ (ع).

والعجيب أنّ بعض الباحثين عندما يقف على واقعة الجمل، لا يدرس الواقعة كواقعة، وإنّما يحرص على حشد كلّ ما جاء في حقّ عائشة من فضائل، فكأنّما هذه الفضائل هي صكّ ضمان لكلّ ما تقوم به من أفعال مستقبليّة!

فلو سلّمنا جداً ما لعائشة من درجة رفيعة، إلّا أنّ ذلك لا يجعلنا أنْ نُسلّم بأنّ خروجها كان صحيحاً، وبالتالي ليس مُداناً.

وإذا صحّ ما نقول، يجب حينها معرفة الأسباب التي قادتها لذلك الخروج، ولا يمكن أنْ نستبعد كونها أسباباً سياسيّةً، فمجرّد الحرب فعل سياسيّ، وما يمكن أنْ يترتّب على ذلك الحرب سياسيّ أيضاً، فهي حاربت الإمام علي (ع) حتّى تقتله، أو على الأقل حتّى تنحّيه عن الخلافة، وإذا أسقطت خلافته لا بدّ أن يكون عندها بديلاً مقترحاً ينوب عنه، وكلّ ذلك - كما هو واضح - سياسيّ بامتياز، لا دين فيه.

ومن هنا، لا يمكن أنْ نجزم بأنَّ خروجها كان في رضا الله؛ لأنّ الله لم يأمرها بذلك، بل على العكس عندما قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، فلم يسمح لها بمغادرة البيت إلّا لضرورة شرعيّة، وخروجها على الإمام عليّ (عليه السلام) ليس فيه ضرورة شرعيّة، بل لا يوجد حتّى شبهة يمكن أنْ تصوّر لها الخروج في إطار الرضا الإلهيّ، فهي بالقطع ليست في رضا الله طالما حكمنا بكونها كانت خاطئة في خيار الحرب.

وبالتالي تكون مسؤولة شرعاً وقانوناً وأخلاقاً عن الدماء التي سُفكت، وعن عدم الاستقرار الذي أحدثته في الدولة الإسلاميّة، وعن كلّ الأموال التي هُدرت بسبب الحرب، وكذلك هي مسؤولة عن الأيتام والأرامل والعوائل التي تشرّدت وفقدت مصدر رزقها، وتستمرّ المسؤولية للآثار بعيدة المدى التي تلازم الجرحى من إعاقات وأمراض نفسيّة.

والمسؤوليّة الكبرى هي ما حدث من انحرافات ثقافيّة ودينيّة تسبّبت في انقسام المسلمين وتمذهبهم وتشتّتهم الى اليوم.

فهل كلّ هذا يُهمل ويُستبعد لا لشيء سوى كونها زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله)؟!!

فالمجتمع الذي وجدتْ فيه عائشةُ أنصاراً يخرجون معها ويقاتلون بين يديها، ووجد فيه معاوية مَنْ يقاتلون معه أميرَ المؤمنين (ع)، ووجد فيه يزيدُ بن معاوية مَنْ يقتل سبط رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة، فإنّ هذا المجتمع لا يمكن أنْ يكون مجتمعاً مثاليّاً تحكمه ميول وأهداف وتوجّهات ثقافيّة ودينيّة متساوية.

بل حتّى الذين وقفوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يمكن الجزم بأنّهم على مستوى واحد من النضج الرساليّ، بل كان فيهم مَن حملته الظروف القبليّة والسياسيّة والمصلحيّة من الوقوف مع أمير المؤمنين (ع)، وبالتالي هو مجتمع متقلّب يميل مع كلّ ناعق كما يقول الإمام الحسين (ع): « إنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ‏، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانونَ » [بحار الأنوار ج44 ص382].

والنخبة الرساليّة في ذلك المجتمع هي الفئة القليلة التي يجب البحث عنها، وتصيّدها من بين الجموع الغفيرة، سواء كانت تلك النخبة من أهل الحجاز والمدينة، أم كانت من أهل العراق والكوفة، فلا يمكننا القول أنّ مجتمعاً بأكمله كان موالياً لأمير المؤمنين (ع)، أو معادياً له، فأهل الإيمان والبصيرة وحدهم هم مَن يجب البحث عنهم وتقديرهم.

فالذي يجب التأكيد عليه هو أنّ المجتمع الإسلاميّ قد تغيّر كثيراً، أخلاقيّاً وفكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، ومن الطبيعيّ حدوث مثل هذا التغيّر؛ لأنّ الإنسان له القدرة على التكيّف مع الوقائع المتجدّدة، فكلّ مرحلة لها استعداداتها النفسيّة والثقافيّة، والتي تساهم بدورها في تكوين رؤية الإنسان في تحديد خياراته الحياتيّة.

فدراسة الإنسان ضمن المحيط التاريخيّ الذي وُجِدَ فيه تقرّبنا من معرفة توجّهاته السياسيّة والعوامل المؤثّرة فيه، وعليه، إذا انسجمت هذه الرؤية مع الطبيعة البشريّة، فمن الضروريّ التوقّف عند الدوافع الأساسيّة التي حرّكت الأحداث السياسيّة في التاريخ، هل هي دوافع دينيّة بحتة أو هي دوافع أملَتْها الظروف الحاكمة على طبيعة المصالح في تلك الفترة، فالذين ثاروا على عثمان، مثلاً هل يخرجون عليه لو كان لهم نصيب من عطايا عثمان؟ إنّ ملاحقة الأحداث التاريخيّة بمثل هذه الأسئلة سوف يكشف لنا النوايا الحقيقيّة لكلّ ما حدث.

وعليه يمكننا أنْ نقول: مع وجود كلّ تلك النصوص الدالّة قطعاً ويقيناً على أحقيّة أمير المؤمنين (ع) بالخلافة بعد رسول الله (ص)، إلا أنّ مطامع القوم في الخلافة أحدثت كلّ هذا الصراع في التاريخ الإسلاميّ، ولم تأتِ الخلافة إلى الإمام عليّ (عليه السلام) إلّا بعد الثورة الكبرى على عثمان بن عفان، وبالتالي كانت بيعته قراراً ثوريّاً من عامّة الناس الذين خرجوا على عثمان.

ولو لم يكن القرار ثوريّاً يتناسب مع الظرف الثوريّ الذي أطاح بالحكومة السابقة لَمَا آلت الأمور للإمام عليّ (ع) البتّة؛ وذلك لأنّ النخبة السياسيّة وقيادات الصفّ الأول هي مَنْ تتحكّم – في العادة - في الخيارات السياسيّة الكبرى، ولو سنحت لها الفرصة، واتّسع لها الوقت لكانت وجَّهت الجماهير التي تدافعت على الإمام علي (عليه السلام) إلى وجهة أخرى. وعندما وُضعت هذه القيادات أمام الأمر الواقع بايعوا أمير المؤمنين (ع)، ولكن سرعان ما نكثوا بيعتهم، ثمّ ألّبوا الجموع البعيدة، وساروا بها إلى حرب الإمام (عليه السلام) في الجمل وصفين.

فأمير المؤمنين (عليه السلام) أصبح خليفة عندما كانت المبادرة في يد عامّة الناس، في حين أنّه عندما كانت المبادرة في يد قيادات قريش نجد أنَّهم منعوه من الخلافة ثلاث مرّات: بعد وفاة رسول الله (ص)، وبعد وفاة ابي بكر، وبعد مقتل عمر، ولو استمرّ لهم الأمر لمنعوه منها بعد مقتل عثمان أيضاً.

وقد وصف أمير المؤمنين اجتماع الناس لبيعته بقوله: « فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ اليَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جانب حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَان وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأمر نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ، كأنهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الله سبحانه يَقُولُ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. بَلَى وَالله، لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا..».