ما الذي جعل الحسين يحتل هذه المنزلة عندكم؟

سؤال للرافضة: ما الذي جعل الحسين يحتلّ هذه المنزلة عندكم؟ لَـم نرى الحسين نقل للدين، ولا كان له يد في جمع القرآن، ولا فتح بلداً، ولا نقل السنة ولا نشر الإسلام، فبأي مسوّغ نال الحسين هذه المنزلة عندكم؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

أوّلاً: ليس الرافضة (أعزّهم الله) وحدهم مَنْ يعرف فضل الإمام الحسين (عليه السلام) ومكانته، وإنّما جميع المسلمين إلّا النواصب منهم ومن تشيّع لبني سفيان، فعلى مدار التاريخ الإسلاميّ وعند جميع الفرق والمذاهب لم نسمع بمَن شكّك في منزلة الحسين (عليه السلام) ومكانته؛ بل يعدّ عند الجميع الأعظم منزلةً، والأعلى مكانةً، والأرفع درجةً، حتّى أضحى عندهم القدوة والمثال والرمز، فقبل أن يوجّه هذا السؤال للرافضة ينبغي أوّلاً توجيهه لجميع المسلمين وإلى أهل السنّة منهم بالخصوص، لترى كيف يعظّمونه ويوقّرونه ويفتخرون بمناقبه ومآثره.

والأكثر من ذلك، لَـم نرَ أحداً من أهل النصب والعداء سجّل في حقّه منقصةً أو طعناً أو عيباً، بل حتّى المعروفين منهم بالكذب لم يتمكّنوا من وضع منقصة في حقّه ولو كذباً، وقد قال الأستاذ العقّاد في ذلك: (وقد عاش الحسين سبعاً وخمسين سنة بالحساب الهجريّ، وله من الأعداء مَن يصدُقون ومَن يكذبون، فلم يَعِبْهُ أحدٌ منهم بمعابَةٍ، ولم يملك أحدٌ منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتّى‏ حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحسين له، واقترحوا عليه أن يكتب إليه بما يصغره في نفسه، فقال إنّه كان يجد ما يقوله في عليّ، ولكن لا يجد ما يقوله في حسين) [أبو الشهداء الحسين بن علي ص39].

كما تحدّث الأستاذ العلايلي عن احترام وتقدير الرعيل الأوّل من الصحابة والتابعين للإمام الحسين، وكيف أنّهم كانوا يظهرون له التواضع والخشوع، فإنّه قال: (وممّا لا اختلاف فيه بين الرواة: أنّ الحسين (عليه السلام) كان محبّباً إلى‏ كلّ نفس، مصطفىً بين كلّ قبيل. وزادت به جاذبيّته إلى‏ الناس، أنّهم غدوا يقدّسونه تقديساً، وينظرون إليه بالنظر الذي هو فوق اعتبارات الناس. ومن جملة ملامح خضوع الناس لشخصيّة الإمام الحسين (عليه السلام) هو تواضع عبد الله بن عبّاس له، فابن عباس من بني هاشم وهو ابن عمِّ النبيّ ومن رجالات الإسلام وهو أكبر سنّاً من الحسين (عليه السلام) ومشهور بالعلم والمعرفة بين النّاس ومن الرواة المعروفين وحملة حديث النبيّ (صلى الله عليه و آله) وكان أبو بكر وعمر يقيمان له وزناً إبّان خلافتهما، وكان عُمَر يشاوره في كثير من الأمور، وفي زمن خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) كان من كبار صحابة عليّ وتلامذته، ومع كلّ ذلك، وكما يقول ابن سعد في الطّبقات: إنَّ ابن عباس كان يُمسك بزمام راحلة الحسن والحسين (عليهما السلام) ليركبا وكان يقول: « هُما ابْنا رَسولِ اللهِ »

وكان عمر بن الخطّاب يلتزم بإظهار الاحترام وتعظيم مقام الحسين (عليه السلام) وكان يقول له: « إنَّما أنْبَتَ في ما تَرى‏ في رؤوسنا اللّهُ ثُمَّ أنتُم » أي إنَّ كلَّ ما لدينا من عزَّة وفخر ودين ودنيا هو ببركة الله وبركتكم.

وكان عبد الله بن عمر جالساً في ظلّ الكعبة فقَدِم أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، فقال ابن عمر: « هذا أحبُّ أهلِ الأرض إلى‏ أهلِ السماءِ اليوم ».

وكان أبو بكر يحاول التشبّه برسول الله (صلى الله عليه و آله)، فكان يُركِب الحسنَ والحسين على‏ كتفيه.

وكان أبو هريرة يطلب من الحسين (عليه السلام) أن يسمح له بتقبيل سُرّته.

وكان الحسن البصريّ يقول: « الحسين سيّد، زاهدٌ، صالحٌ، يحبّ الخير للمسلمين، حَسن الخُلق ».

وخطب عبد الله بن الزبير في المسجد الحرام بعد مقتل الحسين (عليه السلام)، فقال: « لقد اختار الحسين الميتة الكريمة على‏ الحياة الذميمة، فرحم الله حسيناً، وأخزى‏ قاتلَ الحسين، فلعمري لقد كان من خلافهم إيّاه وعصيناهم ما كان في مثله واعظ وناهٍ عنهم، و لكنّه ما حمَّ نازل، وإذا أراد الله أمراً لن يُدفع. أ فبعد الحسين (عليه السلام) نطمئن إلى‏ هؤلاء القوم ونصدّق قولهم ونقبل لهم عهداً؟ لا، ولا نَراهُم لذلك أهلاً، أما والله لقد قتلوا طويلاً بالليل قيامُه، كثيراً في النهار صيامُه، أحقَّ بما هم فيه منهم، وأولى‏ به في الدين والفضل، أما والله ما كان يُبدل بالقرآنِ الغناءَ، ولا بالبكاء من خشية الله الحُداءَ، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركضَ في تطلاب الصيد - يعرِّض بيزيد -، قتلوه فسوف يلقون غيّاً، ألا لعنة الله على الظالمين ») [الإمام الحسين، للعلايلي، ص118].

وقال ابنُ عبد البرّ: (وكان الحسين فاضلاً، ديِّناً، كثيرَ الصومِ والصلاةِ والحجِّ) [الاستيعاب ج1 ص377].

وقال فيه الذهبيُّ: (الإمام الشريفُ الكاملُ، سِبطُ رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -، ورَيْحانتُه من الدنيا ومَحبوبُه، أبو عبدالله الحسين ابن أمير المؤمنين، أبي الحسن عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم ابن عبد مَناف بن قُصَي القرشي الهاشمي) [سير أعلام النبلاء ج3 ص280].

ولو تتّبعنا كلمات العلماء في الإمام الحسين (عليه السلام) لضاقت المجلدات الضخمة.

ثانياً: يكفي في بيان منزلة الإمام الحسين (ع) ومكانته في الإسلام ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فليس فوق شهادة الله ورسوله شهادة، وقد تواترت الأخبار بفضله وعلو منزلته، وذخرت بمناقبه أهمّ مصادر المسلمين سنّة وشيعة.

فقبل أنْ يُسأل الرافضة: بأيّ حقّ منحوا الإمام الحسين (ع) هذه المنزلة؟ كان من الواجب أن يُوجّه السؤال إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحينها سيُعلم أنّ منزلته في السماء أعظم من منزلته في الأرض، كما جاء في الحديث عن الإمام الحسين عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: « دخلت على رسول الله (ص) وعنده أبي بن كعب فقال لي رسول الله (ص): مرحباً بك يا أبا عبد الله، يا زين السماوات والأرضين، قال له أبي: وكيف يكون - يا رسول الله (ص) - زين السماوات والأرضين أحدٌ غيرك؟ قال : يا أبي، والذي بعثني بالحق نبيّاً، إنّ الحسين بن عليّ في السماء أكبر منه في الأرض، وإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله عزّ وجلّ: مصباح هدى وسفينة نجاة وإمام خير ويُمن وعزّ وفخر وعلم وذخر » [عيون أخبار الرضا ج1 ص63].

ويكفي في هذا المقام أن نحتجّ بالحديث المتّفق على صحته عند السنّة والشيعة: وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): « حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، الحسين سبط من الأسباط »، وقد رواه أحمد والترمذيّ وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيّ والألبانيّ.

وهنا نسأل السائل: لماذا جعل رسول الله (ص) حبّ الله مرهون بحبّ الإمام الحسين (ع)؟ بحيث لا يمكن لأحد أن يطمع في محبّة الله له، أو لا يمكن أن يدّعي أحدٌ محبّته لله ما لم يسكن حبّ الحسين أوّلاً في قلبه.

فهل يحقّ له أن يعترض على الله ورسوله بالقول: لم نرَ الحسين نقل للدين، ولا كان له يد في جمع القرآن، ولا فتح بلداً، ولا نقل السنة، ولا نشر الإسلام، فلماذا يا رسول الله تمنحه هذه المنزلة؟

فإنْ لم يكن من حقّه الاعتراض على الله ورسوله بذلك وإلّا يكون قد خرج عن دائرة الإسلام، كذلك بنفس الاعتبار لا يجوز له الاعتراض على الرافضة لأنّهم لم يفعلوا أكثر ممّا أمر به الله ورسوله.

ثالثاً: إنّ الإسلام الذي أراد للإنسان أن يكون متمحّضاً ومسلّماً لله عزّ وجلّ حتّى تكون كلّ سكناته وحركاته لله تعالى، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإنّ هذا المستوى من الذوبان في الحقّ لا يفهمه الإنسان ولا يستوعبه إلّا من خلال نماذج عاشت تلك التجربة.

ومن هنا كانت كربلاء وعاشوراء الإمام الحسين (ع) هي الحدّ الفاصل بين الإسلام في صورته المزيّفة التي سُخِّرَ فيها الدّين من أجل الأنا والمصلحة الذاتيّة، وبين الإسلام الحقيقيّ الذي سَخّر الإنسانُ فيه كلَّ ما يملك من أجل الله عزّ وجلّ، فعاشوراءُ الإمام الحسين (ع) بكلّ تفاصيلها الدامية صورٌ حيّة لكلّ القيم التي جاء من أجلها الإسلام.

ولا نريد هنا استعراض تلك الصور المعبّرة عن حقيقة الدين، حتّى أصبحت واضحة للعيان من خلال كربلاء، وإنما نؤكّد على أنّ الإسلام الذي ولد من رحم السلطة حاول أن يُسَخِّرَ كلّ الدين من أجل الحاكم، فكانت عاشوراء إعادة الدين إلى مساره الطبيعيّ، وهو تسخير كلّ شيء وجعله يدور حول الله عزّ وجلّ، ولولا ذلك الحدّ الفاصل الذي رسمه الإمام الحسين (ع) بدمه في كربلاء لم يبقَ للدّين حقيقة، وبذلك أصبحت عاشوراء الحسين عليه السلام رمزاً للإسلام المحمديّ الأصيل، يقف عندها المؤمنون ليعيدوا انتماءهم لله عزّ وجلّ عبر الحسين (عليه السلام)، ومن هنا صدق مَن قال: إنّ الإسلام محمّدي الوجود، علويّ الصّمود، حسينيّ البقاء.

فتمسّكُ الشيعة بالحسين (ع) علامة إيمانيّة وحالة إيجابيّة، تحسب لهم لا عليهم؛ لأنّها تعبّر عن وضوح الرؤية وتكامل الفهم، فلو لَـم ينتمِ الشيعة للإمام الحسين (ع)، ولم يملؤوا الدنيا ضجيجاً ونواحاً بدماء الحسين، لكان في أصل إسلامهم إشكالٌ، فهل للإسلام حقيقة وجوهر غير التوحيد؟ وهل للتوحيد حقيقة دون رفض الطاغوت والكفر به؟ فأيّ رفض كرفض كربلاء؟ وأيّ تسليم كتسليم الحسين (ع) في عاشوراء؟ فحضور الحسين (ع) في أيّ دين هو دليل استقامةٍ على الصراط، ومن هنا كان اسم الحسين (ع) هو الشعار الذي يرفعه السائرين على نهج الصالحين والمفارقين لسبيل الظالمين.

رابعاً: أمّا قوله: (لم نرَ الحسين نقلٌ للدين)، فإنّ هذا القول يدلّ على أنّ صاحبه ليس من أهل العلم، بل قد يدلّ على أنّه ليس من أهل الإسلام من الأساس، فالإمام الحسين (عليه السلام) كان مقصد الصحابة والتابعين لمعرفة معالم دينهم، وكانوا يلتفون حول مجلسه في مسجد جدّه رسول الله (ص) ليأخذوا عنه ما يُلقيه عليهم من الأدب والحكمة، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّه (صلّى الله عليه وآله)، وعندما سألَ رجلٌ من قريش معاوية أين يجدُ الحسين، قال له: « إذا دخلت مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فرأيت حلقة فيها قوم، كأنّ على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله » [تاريخ دمشق ج4 ص222].

ويقول المؤرّخون: « إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحتفون به، وكأنّ على رؤوسهم الطير، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق » [الحقائق في الجوامع والفوارق ص105].

ويقول العلائليّ: (كان مجلسه مهوى الأفئدة، ومتراوح الأملاك، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا، وصنيعة الدنيا، تمتدّ أسبابها برهبته وجلاله وروعته، بل في حضرة طفاح بالسكينة، كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو) [الإمام الحسين، للعلايلي، ص83].

وقد ذكر الزهريّ في كتاب (المغازي): أنّ البخاريّ روى عن الحسين أحاديث كثيرة، وفيها باب تحريض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على قيام الليل، كما روى عنه الترمذي في كتاب (الشمائل النبويّة) أحاديث كثيرة، وقد نقلها عنه سفيان بن وكيع.

ولولا خوفنا من إطالة الإجابة أكثر ممّا هي عليه لتتبّعنا مَن روى عن الإمام الحسين (ع) من الصحابة والتابعين، ولحشدنا عشرات الآيات والروايات التي تكشف عن عظيم مقامه (سلام الله عليه)، ولكن حسبنا في ذلك إجماع الأمّة قاطبة على عظيم مكانته وعلوّ درجته في الإسلام، أمّا النواصب فمهما جمعنا لهم من الفضائل فإنّها لا تزيدهم إلّا نصباً وعداوةً، أو كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): « إنّ لنا محبين لو قطعناهم إرباً إرباً ما ازدادوا لنا إلّا حبّاً، ولنا مبغضين لو ألعقنا لهم العسل ما ازدادوا لنا إلّا بغضاً » [نوادر المعجزات ص62].