هل خالف الامام علي (ع) الخلفاء الذين قبله؟

السؤال: هل غيّر الامام عليّ عليه السلام من الأحكام التي حكم بها الخلفاء من قبله؟ هل هناك أمثلة على ذلك؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يجب أنْ نشير أوّلاً إلى أنّ أمير المؤمنين (ع) رفضَ بشكل قاطع قبول مبايعته بعد مقتل عمر بن الخطاب، وذلك بعدما شرطوا عليه السير على سنّة الخلفاء من قبله، فعندما جاء إليه عبد الرحمن بن عوف وطلب أن يبايعه الناس على كتاب الله وسنّة نبيّه (ص) وسيرة الشيخين، رفض أمير المؤمنين (ع) سيرة الشيخين وقَبِلَ البيعة منهم فقط على كتاب الله وسنّة رسوله، وفي ذلك معارضة واضحة، وعدم اعتراف بسنّة مَنْ كان قبله من الخلفاء.

ففي تاريخ الطبري قال عبد الرحمن: « إنّي قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا عليّاً فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أنْ أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعليّ، قال: نعم، فبايعه، فقال عليّ: صبوته صبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، واللهِ ما ولّيتَ عثمان إلّا ليرد الأمر إليك ». [تاريخ الطبري ج3 ص297].

وكان بإمكان أمير المؤمنين (ع) أن يقبل هذا الشرط على سبيل التورية والمداراة كما هو حال جميع السياسيّين، أو كما فعل عثمان نفسه عندما قبل هذا الشرط ثمّ لَـم يلتزم بشيء من سيرة الشيخين، إلّا أنّ شخصيّة الإمام عليّ (ع) المبدئيّة وإيمانه الراسخ بالقيم الدينيّة حالت بينه وبين اتّخاذ الباطل وسيلة حتّى وإنْ كانت الغاية نبيلة، ونـتـيـجـة لهذا الإصرار القاطع والموقف الحازم الذي لم يتزعزع أمام المُلك والخلافة، بويع عثمان وحصل ما حصل في أمر خلافته حتّى انتهى الأمر إلى ما سجّله التاريخ من محن وكوارث مازالت آثارها إلى اليوم.

وبعد مقتل عثمان واجتماع الأمة على مبايعة أمير المؤمنين (ع) حذّرهم قبل قبول البيعة منهم فقال: «وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ»، أي أنّه سيحكم فيهم بحكم رسول الله (ص)، الأمر الذي قد لا يحتمله القوم لمخالفته لكثيرٍ ممّا اعتادوا عليه في زمن الخلفاء، وقد حصل ما حذّر منه أمير المؤمنين (ع)، فما أن تمّت له البيعة ونهض بالأمر حتّى نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون، وقد عبّر أمير المؤمنين (ع) عن ذلك بقوله: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون، كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها. أما والذي فلق الحبّة وبرئ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقرّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز » [الاحتجاج للطبرسي ج١ ص٢٨٨].

نَفَرَ الناسُ من سياسات أمير المؤمنين (ع) لأنّها تهدّد مصالحهم وتبدّد مكاسبهم، فأوّل ما قام به أمير المؤمنين (ع) هو نزع الأراضي والأملاك التي أخذها بعضُهم بغير حقّ، فقد كان الخلفاء - لاسيّما عثمان - يُحابون بعض المقرّبين إليهم والداعمين لسياساتهم ببعض المخصّصات من بيت مال المسلمين، فلم يصبر أمير المؤمنين (ع) حتّى يستتبّ له الأمر، وإنّما خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: « ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدتُه وقد تزوّج به النساء، وفرّق في البلدان، لرددتُه إلى حاله، فإنّ في العدل سعةً، ومَن ضاق عنه الحقّ فالجور عليه أضيق ».

يقول ابن ابي الحديد: « فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها » [شرح نهج البلاغة ج1 ص270].

وما ذُكر في التاريخ من مخالفة أمير المؤمنين (ع) لسياسات الخلفاء طويلٌ، والنماذج التي تدلّ على ذلك كثيرة، فكلّ الحروب التي دارت في عهد خلافته ما كانت لتكون لو عمل أمير المؤمنين (ع) على إرضاء الناس وكسب ودّهم كما فعل الذين قبله، وما نراه من انحراف عن خطّ أمير المؤمنين ومحاولات التشويه المستمرّة إلى اليوم على شيعته هي نتاجٌ لموقفه (سلام الله عليه) من الخلفاء وبعض الصحابة، وقد واصل شيعة أهل البيت (ع) رفضهم لهذا الواقع التاريخيّ، وخاضوا من أجل ذلك الحروب، وقدّموا الأضاحي والقرابين في سبيل إعادة الأمر الى أهله كما يعتقدون، وقد وصل هذا الصراع قمّته في حادثة كربلاء، التي تكشف عن حجم الاختلاف والانحراف الذي حدث، عندما استحلّت السلطة الحاكمة دماء الحسين وأهل بيته (صلوت الله عليهم أجميعن)، ولم تراعِ حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حفيده وأحبّ الناس الى قلبه، ممّا يكشف عن حجم المفارقة بين إسلام السلطة التي تحكّمت في شؤون المسلمين، وبين إسلام المعارضة المتجسّد في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، وشهادة الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه أسقطت آخر الأقنعة التي كان يتستّر بها الإسلام الذي احتكر السلطة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن الشواهد التي تؤكّد تعصّب الأمّة لسنّة الخلفاء قديماً وحديثاً هو إصرار الأمّة على صلاة التراويح في شهر رمضان جماعةً، فمع أنّها كانت بدعة لم يأمر بها رسول الله ولم يُصَلّها جماعة، إلّا أنّ الأمّة اعترضت على أمير المؤمنين (ع) في أيّام خلافته عندما نهى عنها، يقول ابن أبي الحديد: «رويَ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لـمّا اجتمعوا إليه بالكوفة، فسألوه أن ينصّب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ـ أي التراويح ـ، زجرهم وعرّفهم: أنّ ذلك خلاف السنة، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم، وقدّموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام)، فدخل عليهم المسجد، ومعه الدرّة، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب و صاحو: وا عمراه » [شرح نهج البلاغة ج12 ص283].

وقد أشار أمير المؤمنين (ع) لهذه الحادثة في خطاب له، عدّد فيه الكثير من النماذج التي خالف فيها الخلفاءُ سنّةَ رسول الله (ص)، وكيف أنّ الناس قد عارضوه عندما أراد أن يرجع الأمر إلى ما كان عليه في عهد رسول الله (ص)، حيث قال: « .. قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللهِ (ص) مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ، نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ، مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِهِ، وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (ص) لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي، أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)... - ثمّ يعدّد بعض النماذج بقوله: -

أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَمَرْتُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السَّلام) فَرَدَدْتُهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللهِ (ص)، وَرَدَدْتُ فَدَكاً إِلَى وَرَثَةِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، وَرَدَدْتُ صَاعَ رَسُولِ اللهِ (ص) كَمَا كَانَ، وَأَمْضَيْتُ قَطَائِعَ أَقْطَعَهَا رَسُولُ اللهِ (ص) لِأَقْوَامٍ لَمْ تُمْضَ لَهُمْ وَلَمْ تُنْفَذْ، وَرَدَدْتُ دَارَ جَعْفَرٍ إِلَى وَرَثَتِهِ وَهَدَمْتُهَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَرَدَدْتُ قَضَايَا مِنَ الْجَوْرِ قُضِيَ بِهَا، وَنَزَعْتُ نِسَاءً تَحْتَ رِجَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَرَدَدْتُهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَاسْتَقْبَلْتُ بِهِنَّ الْحُكْمَ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَحْكَامِ، وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّ بَنِي تَغْلِبَ، وَرَدَدْتُ مَا قُسِمَ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَمَحَوْتُ دَوَاوِينَ الْعَطَايَا، وَأَعْطَيْتُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) يُعْطِي بِالسَّوِيَّةِ، وَلَمْ أَجْعَلْهَا دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَأَلْقَيْتُ الْمَسَاحَةَ، وَسَوَّيْتُ بَيْنَ الْمَنَاكِحِ، وَأَنْفَذْتُ خُمُسَ الرَّسُولِ كَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفَرَضَهُ، وَرَدَدْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ (ص) إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَسَدَدْتُ مَا فُتِحَ فِيهِ مِنَ الْأَبْوَابِ، وَفَتَحْتُ مَا سُدَّ مِنْهُ، وَحَرَّمْتُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَحَدَدْتُ عَلَى النَّبِيذِ، وَأَمَرْتُ بِإِحْلَالِ الْمُتْعَتَيْنِ، وَأَمَرْتُ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وَأَلْزَمْتُ النَّاسَ الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَخْرَجْتُ مَنْ أُدْخِلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ (ص) فِي مَسْجِدِهِ مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) أَخْرَجَهُ، وَأَدْخَلْتُ مَنْ أُخْرِجَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (ص) مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ (ص) أَدْخَلَهُ، وَحَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى الطَّلَاقِ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَخَذْتُ الصَّدَقَاتِ عَلَى أَصْنَافِهَا وَحُدُودِهَا، وَرَدَدْتُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا وَشَرَائِعِهَا وَمَوَاضِعِهَا، وَرَدَدْتُ أَهْلَ نَجْرَانَ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ، وَرَدَدْتُ سَبَايَا فَارِسَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (ص)، إِذاً لَتَفَرَّقُوا عَنِّي.

وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ، وَأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ، فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ... إلى آخر الخطبة » [الكافي للكلينيّ ج8 ص58].