هل أثنى الإمام الباقر (ع) على أبي بكر؟
السؤال: ذكر الفضل بن روزبهان أن الأئمّة الكرام كانوا يثنون على الصحابة والخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ بما هم أهله من ذكر المناقب والمزايا. وقد ذكر الشيخ عليّ بن عيسى الإربلي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » ـ واتّفق جميع الإمامية أنّ عليّ بن عيسى من عظمائهم، والأوحدي النحرير من جملة علمائهم، لا يشقّ غباره، ولا يبتدر آثاره، وهو المعتمد المأمون في النقلـ وما ذكره هو في الكتاب المذكور نقلا عن كتب الشيعة، لا عن كتب علماء السنّة: أنّ الإمام أبا جعفر محمّدا الباقر رضي الله عنه سئل عن حلية السيف، هل يجوز؟ فقال: نعم [ يجوز ]، قد حلّى أبو بكر الصدّيق سيفه [ بالفضّة ]. قال الراوي: فقال السائل: أتقول هكذا؟! فوثب الإمام من مكانه وقال: نعم ... الصدّيق، فمن لم يقل له: « الصدّيق » فلا صدّقه الله في الدنيا والآخرة. هذه عبارة « كشف الغمّة » وهو كتاب مشهور معتمد عند الإمامية..
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه الشبهة التي ذكرها ابن روزبهان في غاية الركّة والسذاجة، ومن المضحكات الاستدلال بمثل هذا الحديث الذي يظهر الجواب عنه بمجرّد مراجعة كتاب الإربليّ وملاحظة إسناده، ونوضح الجواب ببيان أمور:
الأوّل: الحديث عاميّ وليس شيعيّاً:
إنّ هذا الحديث وإنْ نقله العلّامة الإربليّ في [كشف الغمة ج2 ص360] وهو من علماء الإماميّة الأجلّاء، إلّا أنّه لَـم ينقله من كتب الإماميّة ولا من طرقهم، بل من كتب المخالفين؛ وذلك أنّه قال في [ج2 ص359]: « وقال الشيخ أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ بن محمد بن الجوزيّ في كتاب « صفة الصفوة »: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.. – وساق نسبه -»، ثـمّ نقل سبع روايات، من ضمنها: عن عروة بن عبد الله عنه في تحلية أبي بكر سيفه – وهو الذي وقع السؤال عنه -، ثمّ قال: « قال المصنّف: أسند أبو جعفر - عليه السلام - عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة وابن عبّاس وأنس والحسن والحسين، وروى عن سعيد بن المسيب وغيره من التابعين، ومات في سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: أربع عشرة، وهو ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وخمسين، وأوصى أن يكفّن في قميصه الذي كان يصلّي فيه، آخر كلام ابن الجوزي في هذا الباب ».
فيتبيّن من ذلك: أنّ هذه الروايات نقلها العلّامة الإربليّ من كتاب « صفة الصفوة » للعلّامة ابن الجوزيّ – وهو من كبار علماء المخالفين-؛ وذلك أنّه ابتدأ قبل ذكر الروايات بكلامه ثمّ ختمه بكلامه.
وكتاب ابن الجوزيّ متداول مطبوع، ففي [صفة الصفوة ج1 ص361] ذكر ترجمة الإمام الباقر (عليه السلام)، وذكر اسمه ونسبه – كما نقله الإربليّ -، ثمّ ساق رواياتٍ، ومن جملتها الروايات التي نقلها الإربليّ بنفس الترتيب، وجاء في آخر الترجمة: « أسند أبو جعفر عن جابر بن عبد الله... – إلى أن قال – قميصه الذي كان يصلّي فيه – رضي الله عنه وأرضاه -».
إذن: الحديث عاميّ، وليس إماميّاً، والعلّامة الإربليّ إنّما نقله من مصادر العامّة، لا مصادر الشيعة كما تبيّن.
أضف لذلك: أنّ عمدة ما نقله العلّامة الإربليّ في كتابه إنّما هو من مصادر المخالفين، لا من مصادر الإماميّة، مصرِّحاً بذلك في مقدّمة [كشف الغمة ج1 ص4] بقوله: (واعتمدتُ في الغالب النقلَ من كتب الجمهور، ليكون أدعى إلى تلقيه بالقبول... ونقلتُ من كتب أصحابنا ما لَـم يتعرّض الجمهور لذكره)، وهذا الحديث قد حفلت به غير واحد من المصادر الأصليّة للمخالفين..
فقد أخرجه القطيعيّ في زوائد [فضائل الصحابة ج1 ص419]، والدارقطنيّ في [فضائل الصحابة ص85]، وأبو نعيم الأصفهانيّ في [حلية الأولياء ج3 ص184]، وابن عساكر في من [تاريخ دمشق ج54 ص283]، وغيرهم.
إذن: الحديث عاميّ وليس شيعيّاً حتّى يصحّ الاحتجاج بمثله على الشيعة.
الثاني: إسناد الحديث غير معتبر عند الإماميّة:
لو افترضنا أنّ الحديث أخرجه العلّامة الإربليّ من مصادر الإماميّة، فنقول:
ورد الحديث في كتاب الإربليّ هكذا: « وعن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن عليّ - عليهما السلام -عن حلية السيوف.. »، ولَـم يرد في مصدرٍ آخر من مصادر الإماميّة، والإربليّ من علماء القرن السابع الهجريّ إذ توفي سنة (693هـ)، في حين أنّ عروة بن عبد الله من أصحاب الباقر (عليه السلام) المتوفى سنة (114هـ)، فالفاصلة الزمانيّة بينهما كبيرة جداً، فلابدّ من وجود وسائط كثيرة لا نعلم مدى وثاقتهم وجهالتهم، مع أنّ عروة بن عبد الله هذا مجهول الحال عندنا.
إذن: إسناد هذا الحديث مرسلٌ مجهول، فهو ضعيفٌ عندنا.
الثالث: إسناد الحديث غير معتبر عند المخالفين:
إسناد هذا الحديث غير معتبر عند المخالفين أيضاً، وذلك لأنّ مدار طرقه على أبي عبد الله عمرو بن شمر الجعفيّ، وحاله معروف عند أهل الرجال، إذ تكاد تطبق كلمات النقّاد على تضعيفه، قال ابن معين: (ضعيف، لا يكتب حديثه، ليس بشيء)، وقال البخاريّ: (منكر الحديث)، وقال أبو حاتم: (منكر الحديث، ضعيف جداً، لا يُشتغل به، تركوه)، وقال النسائيّ والدارقطنيّ: (متروك الحديث)، وقال ابن سعد: (كان ضعيفاً جداً، متروك الحديث).
إذن: إسناد الحديث ضعيفٌ عند المخالفين.
الرابع: الحديث معارَض بالضرورة:
لو افترضنا صحّة إسناد الحديث عندنا، فلا يمكن البناء على أنّ ظاهرَه الدالّ على مدح الخليفة الأوّل مقصودٌ؛ وذلك لأنّه معارَض بالضرورة المذهبيّة والسيرة العمليّة والأحاديث المتواترة القائمة على أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو البراءة، ولا يعقل صدور عبارة تدلّ على المدح بهذه المثابة من المعصوم وتكون مقصودة ومرادة جداً له، فلابدّ من حمله على التقيّة.
وعروة بن عبد الله هو ابن قشير - أو بشير – الجعفيّ، الذي ينقل الحديث والمحاورة مع الإمام الباقر (عليه السلام)، لَـم يثبت أنّه من الشيعة، في حين أنّه مذكور في جملة كبيرة من مصادر المخالفين، وقد وثّقه أبو زرعة الرازيّ وابن حبّان، فالظاهر أنّه عاميّ، وقوله – لـمّا سمع من الإمام ذكر لفظ الصدّيق -: « أتقول هكذا؟! » متعجّباً من إطلاق الإمام، يشير لأمرين: الأول: كونه عامياً. الثاني: شيوع وتظافر براءة أهل البيت من أبي بكر، ويشهد لهذا هو أنّ علماء المخالفين يعمدون في ترجمة أهل البيت إلى ذكر روايات منسوبة لهم في مدح الخلفاء، وليس هذا إلّا لشيوع براءتهم من الخلفاء، فجيء بهذه الروايات لتخفيف وطأة تلك الشهرة.
قال المحقّق الماحوزيّ: « هذا ويحتمل أن يكون مراده (عليه السلام) بـ « الصدّيق » عليّاً (عليه السلام)؛ لأنّه الصدّيق حقيقةً - كما تقدّم بيانه -، واستفاضت به الأخبار من طرقهم، ولـمّا توّهم الراوي أنّه أراد أبا بكر لشيوع إطلاق « الصدّيق » عليه زاد لفظ « أبي بكر »، فهو من الحكاية لا المحكي، ومثل هذا يقع كثيراً في الحكايات والمحاورات.
ثمّ إنّه بناءً على التوهّم المذكور استبعد ذلك الإطلاق منه (عليه السلام)؛ لمنافرة شعارهم (عليهم السلام)، وما هو معلوم ضرورة من مذهبهم، فقال: « تقول الصدّيق »، فأجابه (عليه السلام) بقوله « نعم » إلى آخر كلامه، مريداً به عليّاً (عليه السلام)، وهو تورية حسنة لطيفة، وسلوك هذا السبيل من التورية في كلامهم (عليهم السلام) أكثر من أن يحصى ».
ثـمّ قال: « هذا مع أنه لا ضرورة لنا إلى تأويله؛ لأنّه من روايات ابن الجوزي الحنبليّ، وهو بل أكثر أهل الخلاف لا يتحاشون عن الكذب واختلاق الأخبار » [كتاب الأربعين ص325].
ويشهد لِـما تقدّم أيضاً: أنّ مفاد الحديث هو: أنّ الإمام (عليه السلام) استدلّ على حكمٍ شرعيّ – وهو حكم تحلية السيف بالفضّة – بفعل أبي بكر بن أبي قحافة، وهذا غريب عجيب؛ إذ لا يخفى أنّ أبا بكر ليس معصوماً ليكون فعلُه حجّة شرعيّة، في حين أنّ الثابت – عند الفريقين – أنّ سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت محلّاة بالفضّة، وكذلك سيف أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد روى أبو داود والترمذيّ والنسائيّ بأسانيدهم عن أنس بن مالك: « كانت قبيعة سيف رسول الله (ص) فضة » [سنن أبي داود ج1 ص582، سنن الترمذي ج3 ص118، سنن النسائي ج8 ص219]، وروى الكلينيّ بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام): « أنّ حلية سيف رسول الله (ص) كانت فضّة كلها قائمته وقباعه » [الكافي ج6 ص475]، فكيف يستدلّ الإمام الباقر (عليه السلام) على هذا الحكم الشرعيّ بفعل أبي بكر وهو غير معصوم، ويترك الاحتجاج بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكلاهما معصوم؟! فيدور حال الحديث بين أن يكون محرَّفاً بزيادة اسم « أبي بكر » وإنّما أُريد بـ« الصدّيق » أمير المؤمنين – كما تقدّم -، وبين أن يكون صادراً تقيّة، وبين أن يكون موضوعاً مكذوباً.
ويمكن مراجعة ما ذكره بعض العلماء فيما يخصّ الحديث، كالشهيد التستريّ في [الصوارم المهرقة ص235، وإحقاق الحقّ ج1 ص66]، والمحقّق سراب التنكابنيّ في [سفينة النجاة ص391]، وغيرهم.
الحاصل: الحديث عاميّ وليس شيعياً، وإسناده ضعيف عند الشيعة والسنة، ولو فُرض صحّته فيمكن توجيهه بأنّه صدر على سبيل التورية.
اترك تعليق