المعصوم ومدى معرفته بالمنافقين

السؤال: الإمام الرضا (ع) قال: «وَإِنَّا لنعرف الرّجُلَ إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وَحَقيقة النفاق»، هذا الحديث يخالف القرآن لأنّ الله تعالى قال لنبيّه (ص): {وَمِنَ النَّاس مَن يُعْجبك قوله فِي الحياةِ الدُّنْيَا وَيُشهد الله على ما في قلبهِ وَهُوَ ألدّ الخصام}، وقال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يخفى أنّ الله تعالى يُعلِّم واسطتَه إلى خلقه بأشياء غائبة عنهم، ويعرّفهم بأمور لا تصل لها مدركاتهم، وأوضح شاهد على ذلك: هو الوحي الإلهيّ، فإنّ الوحي من جملة الأمور الغائبة عن الخلق، وقد خصَّ الله تعالى بها نبيّه وحجّته على خلقه، لتبليغها إلى الناس. فأصل معرفة حجّة الله تعالى بالغيب، إنّما يكون بتعليمٍ من الله جلّ وعلا، وهو ثابتٌ بالضرورة، وأمّـا مقدار ذلك العلم وحدوده فيحتاج إلى دليل يُوضّحه، وقد دلّت الأدلّة على أنّ الله تبارك وتعالى أكرم نبيّه الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) بمعرفة المؤمنين والمنافقين إذا رأوهم، إذْ وردت في ذلك روايات كثيرة، عقد لها العلّامة المجلسيّ باباً بعنوان: «باب: أنّهم (عليهم السلام) يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وبحقيقة النفاق، وعندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء شيعتهم وأعدائهم، وأنّه لا يزيلهم خبر مخبر عمّا يعلمون من أحوالهم»، وأدرج فيه أربعين حديثاً. [ينظر: بحار الأنوار ج26 ص117].

ومن جملة تلك الأحاديث، ما رواه الشيخان الصفّار والكلينيّ بإسناد صحيح إلى عبد الله بن جندب: أنّه كتب إليه الرضا (عليه السلام): «أمّا بعد، فإنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) كان أمين الله في خلقه، فلمّا قُبض (صلّى الله عليه وآله) كنّا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا، وأنساب العرب، ومولد الإسلام، وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وإنّ شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم». [بصائر الدرجات ص139، الكافي ج1 ص224].

إذنْ: فمعرفة المعصومين (عليهم السلام) بالمؤمنين والكافرين أمرٌ ثابت، وأمّـا كيفيّة علمهم بالمؤمنين والمنافقين، فهناك قنوات عديدة عندهم، وبيّنت الرواية المتقدّمة طريقين:

أحدهما: رؤية الوجوه، إذْ يقول (عليه السلام): « وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق»، فمعرفة حقيقة إيمان الآخرين وحقيقة نفاقهم مترتّبة على رؤيتهم، وهذا يمكن أنْ يكون باعتبار أنّ الله تعالى عرض أرواح المؤمنين عليهم في عالم الأرواح والطينة، وعرّفهم أبدانهم، فيعرفون مَنْ يرونه بأنّه من المؤمنين أو الكافرين. [ينظر: بصائر الدرجات ص25]، ويمكن أنْ يكون باعتبار أنّ الله تعالى جعلهم المتوسّمين من عباده، ينظرون لظاهر الناس فيعرفون باطنهم؛ وذلك لِـمَا في الظاهر من الدلالات والإشارات على الباطن. [ينظر: شرح أصول الكافي ج7 ص137].

والطريق الآخر: معرفة الأسماء، إذْ يقول (عليه السلام): «وإنّ شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم»، فمعرفة حقيقة إيمان الآخرين ونفاقهم مترتّبة على وجدان أسمائهم في الصحيفة التي فيها أسماء أهل الجنّة والصحيفة التي فيها أسماء أهل النار.

ثـمّ إنّ المعصومين (عليهم السلام) وإنْ كانوا يعرفون حقائق الناس وبواطنهم - سواءٌ برؤية وجوههم أم بأسمائهم أم بغير ذلك - فإنّهم لَـم يرتّبوا الأثر عليها، إلّا في موارد معيّنة؛ ذلك بأنّهم (عليهم السلام) كانوا يعيشون حياتهم ويديرون شؤونهم بالطرق الاعتياديّة التي يسلكها الناس عامّة، ولا يلجؤون إلى الطرق غير الاعتياديّة، إلّا في موارد محدودة، على حسب ما تقتضيه المصلحة، ومن ذلك أنّهم كانوا يتعاملون مع الناس وَفْقاً لظاهر حالهم، وليس لباطنهم.

وأمّـا الادّعاء بأنّ معرفة المعصومين (عليهم السلام) المؤمنين والمنافقين مخالفٌ للقرآن، فهو باطلٌ، ولا أساس له من الصحّة؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم لا ينفي معرفة حجج الله تعالى بذلك، وإنّما يثبت أنّهم يعلمون الغيب بتعليمٍ من الله تعالى، ونفس الوحي الإلهيّ من الغيب. ومن الشواهد على ذلك: علم الخضر (عليه السلام)، فإنّه كان يعلم أشياء واقعيّة غائبة عن الناس، ومخالفة لِـمَا يقتضيه ظاهر الحال، وقد كان تكليفه أنْ يعمل بحسب الواقع، في حين أنّ تكليف النبيّ موسى (عليه السلام) هو العمل وَفْقاً لظاهر الحال.

وأمّـا قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [سورة البقرة: 204]:

فهي في مقام بيان وجود منافقين حول النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ وذلك لأنّ هؤلاء إنّما هم مقابل الذين ذكرهم بعد ذلك بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة البقرة: 207]، فالآية ليست في مقام بيان عدم معرفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بحقيقة المنافقين، بل في مقام بيان وجود منافقين حول النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، يراعون في أقوالهم جانب الحقّ ويعتنون بصلاح الخلق وتقديم الدين، في حين أنّهم في الواقع على نقيض ذلك.

والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يتعامل مع الناس – كما قدّمنا – وفق ظواهرهم من الصلاح والطلاح، فلَـم يكن يتعامل مع المنافقين بحسب واقع حالهم وباطن سريرتهم، ويستفاد من الآية الكريمة: أنّ بعضَ مَن كان يتظاهر بالصلاح عند النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويُظهِر النبيّ (ص) الإعجاب بكلامه – باعتبار أنّه نطق ما يؤيّد الحقّ -، لا يعني أنّه مؤمن حقيقةً وواقعاً، بل هو منافق لا يتطابق فعله ونيّته مع قوله، وقد ذكرت الآيات اللاحقة علامات تدلّ على باطن هؤلاء المنافقين، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة البقرة: 205-206]، أي أنّه يُعلَمُ شيءٌ من حقيقة باطنه من خلال الآثار، وهو كونه أشدّ الخصام، وإذا تولّى سعى في الأرض فساداً، وإذا أُمِرَ بتقوى الله أخذته العزّة الظاهرية بالإثم والنفاق.

إذنْ: فهذه الآية الكريمة تدلّ على وجود منافقين حول النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولا تدلّ على عدم معرفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بهم.

وأمّـا قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [سورة التوبة: 101]:

فيدلّ على وجود منافقين من الأعراب، وعلى وجود منافقين متمرّسين في النفاق من أهل المدينة، وقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا يدلّ على عدم معرفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بحقيقة جميع المنافقين، وإنّما يدلّ على عدم معرفته بـ(الذين مردوا على النفاق) – لو سلّمنا ذلك -، ومن الواضح أنّ هؤلاء فئة من المنافقين وليسوا جميعهم، فهذه الآية لا تنافي الأدلّة الدالّة على معرفة المعصومين (عليهم السلام) بحقيقة المنافقين؛ لأنّها تدلّ على معرفتهم بالمنافقين بالعموم أو الإطلاق، والعموم يمكن تخصيصه بالآية وكذلك يمكن تقييد الإطلاق بها.

ولا غضاضة في ذلك؛ إذْ إنّ حجج الله تعالى إنّما يعلمون الغيب بتعليمٍ من الله تبارك وتعالى، والله تعالى له أن يحجب عنهم العلم في بعض الحالات لمصلحةٍ معيّنة، ومن الواضح أنّ الله تعالى إذا لَـم يشأ تعليمهم شيئاً فإنّهم لا يعلمونه، فقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أي أنّ الله تعالى لَـم يُعرّفك حالهم ولَـم يفضْ عليك العلم بهم بعد. وقد ورد عن عبد الله بن عبّاس – بخصوص الآية الكريمة -: «قام النبيّ (ص) خطيباً يوم جمعة فقال: يا فلان، ٱخرجْ فإنّك منافق. يا فلان، ٱخرجْ فإنّك منافق، فأخرجهم بأسمائهم، ففضحهم» [تفسير ابن أبي حاتم ج6 ص1870]، وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى عرّف نبيَّه (صلّى الله عليه وآله) أسماء هؤلاء المنافقين وحقيقتهم.

هذا كلّه لو سلّمنا أنّ المعنيَّ بالخطاب في {لَا تَعْلَمُهُمْ} هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ إذْ يمكن أن يكون المعنيّ به هم المسلمون وإنْ كان الخطاب متوجّهاً للنبيّ (ص)، وذلك من باب (إيّاك أعني وٱسمعي يا جارة)، فالخطاب وإنْ كان للنبيّ (ص) لكن المقصود هو الأمّة، وقد وردت آيات كثيرة خاطب فيها الله تعالى نبيَّه وأراد أمّته، إذْ ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة» [الكافي ج2 ص631]، وعن عبد الله بن عبّاس: «نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة» [عصمة الأنبياء للرازيّ ص112]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما عاتب الله نبيّه فهو يعني به مَن قد مضى في القرآن، مثل قوله: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} عنى بذلك غيره» [تفسير العيّاشيّ ج1 ص10].

أضف إلى ذلك: أنّ قوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ} وإنْ سلّمنا أنّه أراد به النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ولكن يمكن أن لا يكون على ظاهره من نفي العلم، وإنّما استُعمل بقصد التهويل من نفاق هؤلاء المنافقين المتمرّسين على النفاق والمحترفين في ستر باطنهم، فإنّ هؤلاء المنافقين يتميّزون بشدّة حذرهم وتمرّسهم في النفاق، فيريد الله تعالى أن ينبّه نبيَّه (صلّى الله عليه وآله) على شدّة نفاق هؤلاء، وأنّه تعالى أعرف بهم فيقول: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} للتهويل عليه، كما تقول لشخص: (أنت لا تعرف زيداً كيف يحسن، أنا أعرفه)، تقصد بذلك أنّك تعرف كثرة إحسانه أكثر من المخاطب، ولا تقصد أنّ المخاطب لا علم له بإحسان زيد أصلاً، أو تقول لشخصٍ: (أنت لا تعرف زيداً، أنا أعرفه) تقصد بذلك أنّك تعرف زيداً أكثر منه، لا أنّه لا يعرف زيداً أصلاً.