هل يصحُّ تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبيّة وتوحيد ألوهيّة؟

السؤال: يقول الوهابية: إنّ التوحيد نوعان: توحيد الربوبيّة وهو الذي أقرّ به المشركون، وتوحيد الألوهيّة وهو الذي أقرّ به الموحدّون وهو الذي يدخلك في دين الإسلام. وأما توحيد الربوبيّة فلا يكفي.. فهل يجوز التقسيم والفصل في التوحيد كما يقول هؤلاء؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ليس هناك مشكلة في اصطلاح بعض التقسيمات لتقريب وتوضيح كثير من المطالب والمسائل الاعتقادية، بشرط أن لا يتعارض هذه الاصطلاح مع النصوص الدينيّة أو الضرورات العقليّة، فكلمة الربّ في القرآن يمكن دراستها وتصنيفها ضمن مصطلح (توحيد الربوبيّة)، وكلمة الخالق ضمن مصطلح (توحيد الخالقيّة)، وكلمة العبادة ضمن مصطلح (توحيد العبادة)، وجميع الصفات ضمن مصطلح (توحيد الصفات) وغير ذلك من المصطلحات، فمن حيث المبدأ لا إشكال في ذلك، والاعتراض الذي نبديه على تقسيمات محمّد بن عبد الوهّاب لها علاقة بتفسيراته الخاطئة لكملة الربّ وكلمة الله في القرآن الكريم، وانعكاس كلّ ذلك على الواقع العمليّ للمسلمين، فبناءً على هذا التقسيم حكم ابن عبد الوهاب على معظم المسلمين بالشرك ولم يسلم منهم إلّا من كان على طريقته في التوحيد.

يبدأ ابن عبد الوهاب الحديث عن التوحيد بقوله: (.. وهو نوعان: توحيد الربوبيّة وتوحيد الألوهيّة، أما توحيد الربوبيّة فيقرّ به الكافر والمسلم، وأمّا توحيد الألوهيّة فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكلّ مسلم أن يميّز بين هذا وهذا ويعرف أنّ الكفار لا ينكرون أنّ الله هو الخالق الرازق المدبّر، قال الله تعالى: ﴿قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتّقون﴾ الآية: ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخّر الشمس ليقولنّ الله﴾ الآية. فإنْ ثبت لك أنّ الكفّار يقرّون بذلك، عرفت أنّ قولك لا يخلق ولا يرزق إلّا الله، ولا يدبّر الأمر إلّا الله، لا يصيّرك مسلماً..). [ في عقائد الإسلام ، من رسائل الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب ص38].

وبهذا المفهوم الساذج البسيط الذي لا ينمّ إلّا عن جهل بحكمة الله وآياته، يُكفّر كلَّ المجتمع بعد أن يصل إلى مراده بقوله: (إنّ مشركي زماننا ـ أي المسلمين ـ أشدُّ شركاً من الأوّلين، لأنّ أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون). [محمّد بن عبد الوهاب رسالة أربع قواعد ص4].

وقد ناقشنا في اجوبة سابقة مفهوم ومناط العبادة وبينّا الخطأ الذي وقع فيه الوهّابيّة، ونكتفي هنا ببيان خطأ هذا الاصطلاح وعدم انسجامه مع آيات القرآن التي تحدّثت عن الربوبيّة والألوهيّة.

أوّلاً: توحيد الربوبيّة: فتفسير الربّ بمعنى الخالق، بعيد عن مراد القرآن. فمعنى الربّ في اللغة والقرآن الكريم لا يخرج عن معنى من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرّف، وقد ينطبق هذا المعنى الكلّيّ على مصاديق متعدّدة مثل التربية والإصلاح والحاكميّة والمالكيّة والصاحبيّة، ولا يمكن حمل الربّ على معنى الخالقيّة كما ذهبت إليه الوهّابيّة التي بنت على أساسه أهرامات من الأفكار المنحرفة. ولكي يثبت هذا الخطأ بجلاء نتدبّر في بعض الآيات التي اشتملت على كلمة (ربّ).

قال تعالى: ﴿يا أيّها الناس ٱعبدوا ربّكم الذي خلقكم﴾ البقرة/21.

وقال تعالى: ﴿بل ربّكم ربُّ السموات والأرض الذي فطرهنّ﴾ الأنبياء/56.

فلو كان الربّ بمعنى الخالق لم يكن هناك حاجة لذكر (الذي خلقكم) أو (الذي فطرهم) مرّة أخرى، وإلّا أصبح تكراراً من غير معنى، فإذا وضعنا بدل الربّ في الآيتين (الخالق)، لم يكن هناك حاجة لقوله (الذي خلقكم) (الذي فطرهن) بخلاف ما إذا قلنا: إنّ معنى الربّ هو المدبّر، المتصرّف، إذْ تكون الحاجة إلى الجملة الأخيرة متحقّقة، فيكون معنى الآية الأولى: إنّ الذي خلقكم هو مدبرّكم، وفي الآية الثانية: إنّ خالق السماوات والأرض هو المتصرّف فيها المالك لتدبيرهما، والشواهد على ذلك كثيرة لا يتّسع المجال للتفصيل فيها.

وعلى ذلك: فإنّ القول: إنّ توحيد الربوبيّة يقرّ به الكافر والمسلم كلام لا وجه له وتخالفه النصوص القرآنيّة الصريحة، قال تعالى: ﴿قل أغير الله أبغي ربّاً وهو ربّ كلّ شيء﴾ الأنعام /164، فهذا خطاب من الله سبحانه إلى رسول (ص)، ليقول لقومه، أتأمرونّي أنْ أتّخِذَ ربّاً أقرّ له بالربوبيّة والتدبير غير الله الذي لا مدبّر سواه، كما تتّخذون أنتم أصنامكم وأوثانكم وتقرّون لها بالتدبير، وإذا كان الكفّار يقرّون بالربوبيّة لله وحده، كما يزعم ابن عبد الوهّاب لما كان لهذه الآية معنى، بل تكون زائدة ونازلة عبثاً ـ والعياذ بالله ـ ومثل هذه الآية ما نزل في مؤمن آل فرعون، قال تعالى: ﴿.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم﴾ غافر/28.

وعشرات الآيات التي تؤكّد أنّ الربّ لا يعني الخالق، وإنّما يعني المدبّر الذي بيده تدبير الأمور، والربّ بهذا المعنى كما تؤكّد الآيات لم يكن موضع ٱتّفاق بين البشر، ولم يكن ابن عبد الوهّاب إلّا تلميذاً مقلّداً لابن تيميّة. فقد نقل منه هذه الفكرة من غير تدبّر فيها فكان خطره على المسلمين أعظم، لانّ ابن تيميّة لم يخرج هذه الفكرة من إطار الاصطلاح والمنهج العلميّ، بخلاف ابن عبد الوهّاب الذي ساعدته الظروف على ممارسة هذه الفكرة على الواقع العمليّ وتطبيقها على المسلمين، فكانت نتيجتها تكفيرهم ما عدا الوهّابيّة.

ثانياً: توحيد الألوهيّة: إذْ يقصد الوهابيّة من توحيد الألوهيّة صرف العبادة لله سبحانه وتعالى، وألّا يُشرك في عبادته غيره، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله تعالى الأنبياء والرسل (عليهم السلام) من أجله.

وهذا المفهوم لا إشكال ولا غبار عليه أوّل وهلةٍ، ولكنْ هناك إشكالٌ على نفس الاصطلاح، لأنّ الله في القرآن لا يعني المعبود، إذْ يمكننا أنْ نُسمّيَ هذا التوحيد بتوحيد العبادة، قد أجمع المسلمون على وجوب اجتناب عبادة غير الله، وأنْ يُفرد الله تعالى وحده بالعبادة، والخلاف مع الوهابيّة في هذا الباب له علاقة بتحديد معنى العبادة وهو المكان الذي زلّت فيه أقدام الوهابيّة، فإذا قلنا: إنّ التوحيد الخالص هو صرف العبادة لله تعالى، لا يكون له معنى إن لم نحدّد مفهوم العبوديّة، ونعرف حدودها وضوابطها، حتّى يكون لنا معيار ثابت نعرف به الموحِّد من المشرك، فمثلاً الذي يتوسّل، ويزور مقابر الأولياء ويعظّمهم، هل يعدُّ مشركاً أم موحِّداً؟

إذِ العبادة في القرآن الكريم تعني الخضوع اللّفظيّ والعمليّ عن اعتقادٍ بألوهيّة المعبود أو ربوبيّته أو الاعتقاد باستقلاله في فعله أو بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته على وجه الاستقلال.

فكلُّ عمل مصحوب بهذا الاعتقاد يعدُّ شركاً بالله عزّ وجلّ، وهذا ما نجده في مشركي الجاهليّة الذين كانوا يعتقدون بألوهيّة معبوداتهم، وقد صرّح القرآن بذلك، قال تعالى: ﴿وٱتّخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزّاً) [مريم: 81 ]. أي كان هؤلاء يعتقدون بألوهيّة معبوداتهم.

قال الله تعالى: ﴿الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون﴾ [الحجر 69].

فهذه الآيات تردُّ الوهابيّة على أعقابهم، إذْ تصرّح أنّ الشرك الذي كان يقع فيه الوثنيّيون هو من باب اعتقادهم بألوهيّة معبوداتهم، وقد نصّ الله سبحانه على هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون﴾ [الحجر 94ـ96].

فهذه الآيات - كما ترى - تحدّد الملاك الأساسي في قضيّة الشرك، وهو الاعتقاد بألوهيّة المعبود، ولذلك استنكروا واستكبروا على عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسول (ص)، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾[الصافّات: 35].

ولذلك كانت دعوة الأنبياء (ع) لهم محاربة اعتقادهم بإله غير الله سبحانه وتعالى، إذْ يمتنع عقلاً عبادة من لا يعتقد بألوهيّته، فيعتقد أوّلاً ثمّ يعبد ثانياً.

قال تعالى: ﴿يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره﴾ [الأعراف 59].

فيبيّن القرآن الكريم بذلك انحرافهم عن الإله الحقيقيّ.

فإذنْ: المناط في الشرك هو الخضوع المقترن بالاعتقاد بالألوهيّة، وقد يكون الشرك ناتجاً من الاعتقاد بربوبيّة المعبود، أو بالاعتقاد بأنّه مالكُ أمرٍ من أمور خلقه ورزقه وحياته ومماته، أو غير ذلك من أمور الشفاعة والمغفرة بشكل مستقلٍّ عن الله تعالى، فالذي يخضع لشيء معتقداً بربوبيّته يكون عابداً له، ولذلك جاءت الآيات القرآنيّة تدعوا الكفّار والمشركين لعبادة الربّ الحقّ، قال تعالى: ﴿وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم﴾ [المائدة 72].