نعلم أن الله خلقنا ولكن لا نعلم لماذا خلقنا؟
س: اغلب الشباب يؤمنون بوجود الله ولكن لم يجدو من جواب شافي لهذا السؤال: لماذا خلقنا الله ولماذا علينا طاعته؟ وفي جواب السؤال لماذا علينا طاعته؟ قد يتبادر إلى الذهن أنه انعم علينا بالوجود، ولكن كيف يمكن ان نعتبر أن ايجادنا نعمة ونحن لم نطلب خلقنا؟
الإجابة:
المتأمل في حقيقة الخلق، وما أوجده الله في هذا الكون، يجد فيه حالة من الانسجام والتكامل والترابط فيما بينه، وهذه الحقيقة البديهية تكشف عن ضرورة وجود محور لهذا الانسجام، وبعبارة أخرى لا يمكن أن نتصور أن هذا النظام الكوني وجد بدون هدف أو غاية، وبما أن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد الذي يعي الحِكمة من وجوده ويعي الحِكمة من وجود الاشياء، فلابد حينها أن يكون الإنسان هو المخلوق الاجدر بهذا النظام الكوني، فالفهم أو الوعي الذي يحققه الإنسان العاقل، هو ذاته الفهم والوعي الذي يعي حقائق الوجود، ويجعل من وجودها محوراً لذاته؛ فمجرد الحديث عن حِكمة الوجود، هو حديث عن الإنسان، لأنه الموجود الوحيد الذي يجد للحِكمةِ معنى ويجدُ لوجوده حِكمة، ومن هنا فإن ما يصطلح عليه القرآن من تسخير الكون للإنسان، هو في الواقع تعبير دقيق عن محورية الإنسان لهذا الكون. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً).
وتسخير الكون هو عنوان آخر لحقيقة التكامل عند الإنسان؛ فلو لم يكن مسخَّراً لكان معوِّقاً لحركة الإنسان وتقدمه، إذ كيف يتكامل وكل شيء ممتنع أمامه؟ وبهذا نقترب من فلسفة الخلق الذي وجد لكي يفسح الطريق لانطلاقة الإنسان وتكامله بحيث لا يكون لتكامله حد محدود.
وهذه الحقيقة هي الدافع لحركة الإنسان وتقدمه، فالإنسان بما هو إنسان، وبعيداً عن كل اعتبار، نجده ومنذ أن خطت قدماه في هذا الوجود وهو في حالة من الكدح الدائم لتطوير نفسه ومقدراته، وبناء حضارته، مستفيداً مما جُعل تحت تصرفه، وما تشهده البشرية من تقدم في شتى العلوم والمعارف، لخير دليل على إمكانية تكامل الإنسان وتطوره.
فالجمود والاستسلام والانطواء، مفاهيم تمثل الرؤية المعاكسة لفلسفة الخلق والوجود، ووقوف الإنسان ساكناً أمام ما هو متاح له من إمكانات، يمثل انحرافاً في طبيعة الإنسان الطامحة لكل كمال.
وبناءً على هذه الحقيقة الواضحة، فإنه لا يمكننا أن نجد تصوراً لفلسفة الرسالة، بعيداً عن واقع الإنسان الذي جُعل محوراً وهدفاً للخلق، وإلا تكون الرسالة – حينئذ – أجنبية عن طبيعة الإنسان وفطرته.
فلو تصورنا أن الإسلام جاء ليمنع الإنسان من التقدم والتكامل، أو أنه- على أقل تقدير- لا يحفز الإنسان ويشجعه، ولا يشرع له التشريعات التي تفتح الطريق أمام مسيرته، حينئذ لا يكون الدين مجرد دعوة لتخلف الإنسان فقط، وإنما دعوة لموته والقضاء عليه، لأن الحياة لا تعني أقل من القدرة على الاستمرار في المسير.
ومن هنا، جاز لنا أن نلخص حِكمة الرسالة الإسلامية بقوله عزّ وجلّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)، ففلسفة الرسالة هي الدعوة لحياة الإنسان، أي الدعوة التي تفتح الطريق أمام مسيرة الإنسان وتكامله.
وبالتالي رسالات السماء هي التي تخلق حالة التوازن في مسيرة الإنسان التكاملية، حيث تجعل لتكامل الإنسان هدفاً ومحوراً يدور هو الآخر حوله، فإذا كان الكون قد خلق من أجل الإنسان، فلا بد أن يكون للإنسان هدف خلق من أجله، وذاك هو السبيل الذي يضبط غرور الإنسان وتكبره، عندما يجد كل شيء متاحاً له.
فإذا كان الكون مسخَّراً للإنسان، وخطاب الإسلام يدور حول الإنسان، فأي محور يجب أن يدور حوله الإنسان؟
إن هذا السؤال، يقودنا- وبشكل مباشر- إلى فلسفة خلق الإنسان، وهي العبودية الكاشفة عن محورية الله لدى الإنسان، ونستشف هذا الأمر من قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، فهذه الآية إجابة صريحة على السؤال: لماذا خلق الله الإنسان؟ فالعبودية تمثل هدفاً سامياً وقيمة عليا للإنسان.
في البدء، لا يمكن أن تتضمن العبادة مفهوماً سلبياً، لا من جهة العبد ولا من جهة المعبود، أما جهة المعبود فإن الله غنيٌّ بذاته لذاته غير محتاج لعبادة خلقه؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ). فالله لا ينتفع بعبادة العبد، بل العباد هم الذين ينتفعون.
وكذلك لا يمكن أن تكون العبادة حالة سلبية بالنسبة للإنسان، فهي ليست جبراً أو مصادرة لحرية الإنسان، وإنما هي في الواقع تعبير عن مسؤولية الإنسان في بناء إنسانيته، فكون الإنسان حراً تعني أنه مسؤول عن اختياراته طالما كانت هذه الاختيارات نابعة عن إرادته، وبالتالي الحرية ليست شيئاً أخر غير مسؤولية الإنسان اتجاه إنسانيته وأداء دوره كمخلوق سخر له كل ما في الوجود، وهي امانة عظيمة تحملها الإنسان لا لشيء إلا لأن الله اكرمه بما لم يكرم به غيره من الخلائق، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).
وإذا كان الإنسان يمثل محور الخلق، وكان تكامل الخلق من أجل الإنسان، فلا بد أن يكون للإنسان تكامل خاص، وهذا سر دعاء الأنبياء والرسل للعبادة، لأنها الطريق الذي يحقق للإنسان تكامله، بعد ربطه بالله مصدر كل كمال.
فالعلم والعمل والتقدم والتطور والعدل والحرية والمسواة والتنمية وغير ذلك من قيم النهوض تمثل قيماً إسلامية لا تتم العبادة إلا بها، كما أن الضمير الأخلاقي الذي ينميه الدين في نفسية الأمة هو الضامن لحصانة الأمة من الانحراف، وتخلي الامة عن كل ذلك وتفسيرها المشوه للعبادة لا يتحمل مسؤوليته الإسلام.
وفي المحصلة فإن قيمة الإنسان فيما أراده الشارع للإنسان، وليس فيما أراده من الإنسان، حتى العبادة لا تكون عطاءً من الإنسان بقدر ما هي عطاءٌ للإنسان؛ لأن معناها حقيقةً ليس سلب شيء من الإنسان وإنما تحقيق قيمة له.
صحيح إن الإنسان حر في أن يكون عبداً أو لا يكون، ولكنه مسؤول، فالعبادة على مستوى التشريع، هي نوع من الاقرار العملي للإنسان بأنه مخلوق، والاعتراف بالمخلوقية هو بداية الطريق الذي يسلكه الإنسان نحو الخالق.
في رواية أن رجلاً سأل الإمام الصادق (ع) قال: لم خلق الله الخلق؟ فقال: (إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلفهم طاعته، فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعةً ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)(بحار الأنوار 5/314) وبالتالي خلق الله الإنسان وزوده بكل الطاقات لكي يكون عظيماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومع ذلك يعترض الإنسان بجهله على هذه الفرصة التي أتيحت له.
وإذا فهمنا مهمة الانبياء على أنها اثارة لعقل الإنسان وايقاظ ضميره الاخلاقي كما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته. ويذكروهم منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول"، فرسالات الأنبياء ليست شيئاً غير تذكير الإنسان بنقاط القوة فيه وتعزيزها، وتنبيهه عن نقاط ضعفه وتحذيره منها، وبالتالي لا يمكن أن نتصور طاعة الأنبياء على أنها تلزم الإنسان بما هو مخالف لفطرته أو مصادر لحريته، وإنما هي في الواقع دعوة للإنسان لكي يستثمر كل طاقاته من اجل تحقيق تكامله الروحي والمعنوي عبر القيم المثلى والاخلاق العليا، وإذا فهمنا الرسالة على هذا المعنى حينها لا تكون طاعة الله قضية تحتاج إلى تبرير طالما هي دعوة لمصلحة الإنسان في شوالآخرة.
أما قوله: (كيف يمكن ان نعتبر أن ايجادنا نعمة ونحن لم نطلب خلقنا؟)، قد فصلنا ذلك في اجابة سابقة ولكن بشكل مختصر يمكننا أن نقول: إن في حال المقارنة بين الوجود والعدم فإن الوجود هو الراجح عند كل العقلاء، ولا يمكن أن نجد من يجادل في كون الوجود خير محض، أما كون الإنسان لم يطلب وجوده، فطبيعي لا يمكنه طلب ذلك، إذ كيف يخير الإنسان بين الوجود والعدم وهو لم يخلق بعد؟ فالإنسان ليس مخيراً في اصل الوجود ولكنه مخير في وجوده بعد إيجاده، وهذا هو فلسفة وجود الإنسان وابتلائه، فإما أن يختار لنفسه أن يكون إنساناً وإما أن يختار أن يكون كالأنعام أو اضل سبيلا منها
اترك تعليق