هل الدين ضرورة للإنسان المعاصر؟
السؤال: الأديان ليست ضروريّة لإنسان القرن العشرين الذي شبّ عن الطوق المعرفيّ وأصبح يعلم كلّ قوانين الطبيعة ويستطيع تفسير كلّ ما تلقيه الطبيعة نحوه. فإنسان اليوم لا يحتاج إلى دين سماويّ أو دين فلسفيّ. والأديان، كالحضارة، عمليّة تكامليّة، لا ينفرد بها شعب أو قبيلة أو جنس دون الآخرين. فكلّ دين أخذ ممّا وجده قبله. فالديانة اليونانيّة تشبعّت بالأفكار الفارسوهنديّة، واليهوديّة تشبعّت من العقائد البابليّة ومن الديانات المصريّة القديمة، ثمّ جاءت المسيحيّة تكملةً لليهوديّة وبنفس لغتها الآراميّة، وجاء الإسلام وتعكّز على اليهوديّة واستلف من المسيحيّة بعض تشريعاتها وميثالوجيّتها. فالمصدر واحد وإن تشعّبت الفروع..
الجواب:
هذا النصّ مقتطع من مقال منشور في موقع الحوار المتمدّن تحت عنوان (نقد الأديان والتعصّب) لكمال النجّار، وقد وقفنا في إجابة سابقة مع هذا الكاتب في نصّ مشابه تمّ نقله لنا للتعليق عليه، وفي مقدّمة تلك الإجابة أشرنا إلى بعض الخلفيّات النفسيّة التي دفعته لتبنّي هذا الموقف الحاد من الأديان، والذي يجب التذكير به هنا هو ابتعاد الرجل عن الموضوعيّة العلميّة في طرحه للأفكار، فالرجل لم يفكّر في المسائل الدينيّة، فقاده ذلك التفكير إلى الإلحاد، وإنّما ألحد أوّلاً - نتيجة أسباب نفسيّة وتجربة شخصيّة عاشها في الغرب - ثمّ بدأ يبحث عمّا يسوّق له إلحاده، فهو لم يفكّر ثمّ ألحد وإنما ألحد ثمّ فكّر، وهذا النوع من الكُتّاب يميل في العادة إلى إطلاق الادّعاءات وتصدير الأحكام الكليّة من دون أدلّة واضحة أو استقراء تامّ، فهم يبحثون عن إرضاء ذواتهم أكثر من بحثهم عن الفكر أو الحقيقة، والدليل على ذلك أنّ ما جاء في هذا النصّ هو مجرّد ادّعاءات، وسوف يتّضح ذلك عندما نقوم بتحليله.
إذْ في بداية كلامه أصدر حكماً كلّيّاً وهو عدم حاجة الإنسان المعاصر للأديان، فقال: (الأديان ليست ضروريّة لإنسان القرن العشرين)، ثمّ برّر هذا الحكم الكلّيّ بحكم كلّيّ آخر وهو معرفة الإنسان المعاصر بكلّ القوانين الطبيعيّة فقال: (أصبح يعلم كلّ قوانين الطبيعة ويستطيع تفسير كلّ ما تلقيه الطبيعة نحوه).
ولو صحّ مثل هذا التفكير الساذج لصحّ أن يقال في نقضه: إنّ الأديان ضرورة لإنسان القرن العشرين، لأنّ الإنسان لا يزال يجهل الكثير من قوانين الطبيعة، وهذه حقيقة يسلّم بها جميع العلماء، ومع ذلك لا نرتضي لأنفسنا مجاراته بهذا المستوى الساذج من التفكير؛ لأنّنا لا نسلّم من الأساس بوجود رابط بين الحاجة إلى الأديان وبين علم الإنسان أو جهله بالقوانين الطبيعة، فحتّى لو افتراضنا تمكّن العلوم من الإجابة عن كلّ الأسئلة فإنّ ذلك لا علاقة له بالإيمان بالله وبعبادته، وقد بيّنا في إجابات سابقة بأنّ العلوم الطبيعيّة لا تتحرّك في نفس المسار الذي تتحرّك فيه الضرورة الدينيّة، فمعرفة الأسباب المباشرة للظواهر الطبيعيّة لا يغني الإنسان عن معرفة الله الخالق لتلك الظواهر، وهذا ما صرّح به الفيلسوف ريتشارد سوينبرن بقوله: عندما أتحدّث عن الإله، فإنّني لا أطرح إلهاً ليسدّ الثغرات التي لم يجب عنها العلم حتّى الآن، فأنّا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير. ولكنّني أطرح الوجود الإلهيّ لأفسّر لماذا صار العالم قادراً على التفسير؟ (عمرو الشريف، خرافة الإلحاد، ص 70).
إذنْ: فمهما كان علم الإنسان بالأسباب الطبيعيّة فإنّ ذلك لا يغنيه عن الارتباط بالغيب والبحث عن المطلق، فاضطرار الإنسان إلى معرفة من أوجده من جهة، وحاجته إلى الكمال من جهة أخرى، وتطلّعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتّم عليه التطلّع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادّة، وهذا النوع من الوعي المتساميّ عن المادّة والمترفّع عن الحسّ، يمثّل جانب الإشراق في الإنسان، ولا يعني ذلك أن يهمل الإنسان تكامله المادّي، وإنّما يحتاج إلى الدين لتحقيق ذلك التوازن بين جانبه المادّي وجانبه الروحيّ، فالإنسان بجانبه المادّي مضطرّ للتفاعل مع الطبيعة، وبجانبه الروحيّ مضطرّ للبحث عن المعنى وعن الكمال، فتفاعل الإنسان مع عالم المادّة وتسخيرها في ضمن شروطها الطبيعية يعدُّ خطوة ضروريّة للتكامل المادّي للإنسان، ومن الجانب الآخر فإنّ تكامله الروحيّ وعروجه إلى المعاني السامية والقيم الكلّيّة لا يكون إلّا بانفتاحه على الغيب، فلا التجربة المادّية تحقّق للإنسان ما يصبو له روحيّاً، ولا الغيب والتأمّل في المطلق يحقّق له ما يحتاجه مادّياً، يقول شاشاوان: مهما يكن تقدّمنا العجيب في العصر الحاضر... علميّاً، وصناعيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العمليّة، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإنّ عقلنا في أوقات السكون والهدوء – عظاماً كنّا أو متواضعين، خياراً كنّا أو أشراراً - يعود إلى التأمّل في هذه المسائل الأزليّة: لما وكيف كان وجودنا ووجود هذا العالم؟ وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا؟) (عبد الله دراز ص 83). وينقل عبد الله دراز أيضاً ما كتبه بارتيلمي سانت هيلير: هذا اللّغز العظيم الذي يستحثّ عقولنا: ما العالم؟ ما الإِنسان؟ من أين جاء؟ مَنْ صنعهما؟ من يدبّرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بَدَءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أيّ مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة، لا توجد أمّة، ولا شعب، ولا مجتمع، إِلّا وضع لها حلولاً جيّدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحرّكة.
ولمن أراد التفصيل في هذه البحث يمكنه الرجوع إلى كتاب (الدين: بحوث ممهّدة لدراسة تاريخ الأديان، محمّد عبد الله دراز). ويمكن تنزليه من الرابط التالي https://www.hindawi.org/books/86148607/3.1/
وفي المحصّلة أنّ حاجات الإنسان ليست مادّية فقط وإنّما ايضاً روحيّة ومعنويّة، وحقيقة الإنسان في ضمن الإيمان بالله تعالى ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أيْ أنّ الإنسان أوجده الله عزّ وجلّ من عدم، وخلقه قبضة من طين ونفخة من روح، فانتما إلى الأرض من جهة الطينة، وانتما إلى السماء من جهة تلك النفخة، وبالتالي الإنسان يمكنه العيش على الأرض وهو يتطلّع إلى الله جلّ وعلا، ومن هنا لا يتحرّك الإنسان في اتّجاه واحد وإنّما ينجذب إلى الأرض كما يندفع الى الأعلى ليتسامى على المادّة.
أمّا قوله: (والأديان، كالحضارة، عمليّة تكامليّة، لا ينفرد بها شعب أو قبيلة أو جنس دون الآخرين) يدلّ على مدى تهافت أفكاره، فإذا كان الدين لا يمثّل ضرورة للإنسان ويمكن الاستغناء عنه، كيف جاز له تشبيهه بالحضارة ونحن نعلم أنّ البشريّة لا يمكن أن تستغني عن الحضارة في أيّ لحظة تاريخيّة؟
ومن ثمّ ما الحضارة في تعريفه؟ أليست الحضارة الإنسانيّة تستوعب كلّ تطلّعات الإنسان المادّية والروحيّة؟ فالتقدّم والتكنلوجيا والثقافة والدين أليست مكوّنات ضروريّة في كلّ الحضارات الإنسانيّة؟ وهل الحضارة الغارقة في المادّة والفارغة من كلّ معنى وروح هي ما تطمح إليه البشريّة؟ فالعقل والواقع والتاريخ يشهدان بأنّه لا يمكن الاستغناء عن الدين في أيّ حضارة تنشدها الإنسانيّة؛ وذلك لأن الدين يمثّل الضمير الأخلاقيّ لأيّ حضارة، والحضارة التي تتخلّى عن القيم والأخلاق حضارة ظالمة ووحش كاسر يفتك بكلّ ما هو إنسانيّ وحضاريّ.
والعجيب أنّه في بداية كلامه ينفي الحاجة إلى الدين ومن ثمّ يأتي ليؤكّد بأنّ الدين حقيقة موجودة وراسخة ومتكاملة مع تطوّر الإنسان، فيقول: الدين كالحضارة حقيقة متكاملة لا ينفرد بها شعب أو قبيلة أو جنس، فإذا كان الدين حقيقة موجودة ومتجذّرة بهذا الشكل في تاريخ الإنسان؛ فكيف يمكن التخلّص منه؟
ومن ثمّ ما الداعي ليذكر هنا تأثّر الأديان ببعضها، فإنْ صحّ ذلك أو لم يصحّ لا علاقة له بما يريد الوصول إليه وهو عدم حاجة الإنسان المعاصر للدين، فسواء كانت الأديان متأثّرة ببعضها أو لم تكن متأثّرة، فإنّ ذلك لا دخل له بما يريد الوصول إليه، وإنّما هو مجرّد حشو في الكلام لا يقدّم ولا يؤخّر.
اترك تعليق