أنواع الخلق عند الشيعة..

السؤال: ما هي أنواع الخلق عند الشيعة..؟.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم..., وبعد..

اعلم أخي السائل الكريم أنّ مسألة من مكنونات الغيب الإلهي فلا سبيل للوقوف عليها إلّا عن طريق النقل، وفي المقام ذكر صاحب البحار روايتين عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكما يلي:

إحداهما: نقلاً عن تفسير النعماني بإسناده عن الصادق "عليه السلام" قال:((سُئل أمير المؤمنين "عليه السلام" عن متشابه الخلق، فقال: هو على ثلاثة أوجه، فمنه خلق الاختراع كقوله سبحانه "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ" [الأعراف:54]، وخلق الاستحالة قوله تعالى: "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ"[الزمر:6]، وقوله: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.. الآية"[غافر:67] " وأما خلق التقدير فقوله لعيسى: "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ...الآية"[المائدة:110])) [بحار الأنوار للعلّامة المجلسي:ج57،ص333]

والرواية الأخرى: وقد جاءت هكذا: وسألوه عن متشابه الخلق فقال: ((هو على ثلاثة أوجه ورابع: فذكر الأوجه الثلاثة المتقدمة، وأضاف إليها قوله(ع): وأما خلق التغيير فقوله تعالى: "وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ"[النساء:119])) [المصدر السابق:ج90،ص17]

وأمّا المعنى من هاتين الروايتين فاعلم أن المتحصّل من كتب اللغة هو كون مفردة الخلق لفظاً مشتركاً موضوعاً لعدّة معانٍ، كما أنّ له عدّة استعمالات، ولابد من الوقوف على ذلك كلّه؛ لما له من الأهميّة في الوصول إلى المطلوب، حيث سيتّضح لنا معنى آخر للخلق لم تذكره الروايتان لنكتة تأتي في محلّها، كما سينكشف لنا خروج خلق التغيير عن معاني الخلق المذكورة لسبب وجيه جداً، وهَاكَ تفصيلَ ذلك كلّه:

1. المعنى الأوّل: يأتي الخلق لغة بمعنى الصُّنع، يقال: رجلُ خالق بمعنى صانع [لسان العرب:ج10،ص88]، وله استعمالان:

الاستعمال الأوّل: هو في "إيجاد الشيء من اللا شيء"، بأنّ لا يكون المصنوع مسبوقًا بمادة يُصنع منها، ولا بمثال يكون على طبقه، كما لا يكون مسبوقاً ولا مقروناً بالمُدّة أي بالزمان، وقد مثّلوا له بالعقول المجرّدة عن ذلك كلّه"[انظر مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة للنقويّ الخراساني:ج1،ص39]، وقيل بأنّ هذا النوع من الخلق يسمّى بالإبداع أو الابتداع.[نفس المصدر السابق]، لكنّه خلاف صريح القرآن والسنّة، فقد قال تعالى:" بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"[البقرة:117]، ومن الواضح اقتران خلق السماوات والأرض بالزمان، قال تعالى: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ" [الأعراف:54] ، كما أنّ خلقهما مسبوق بمادتهما، قال أمير المؤمنين(ع) حول خلق السماوات: ((وكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِه، وبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِه أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْه أَطْبَاقاً - فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا...))[نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ــــ الخطبة 211:ص328].

وكيف كان فقد دخل زنديق في مناظرة مع الصادق(ع) عن كيفيّة تعقّل "خلق شيء من لا شيء"، فأجاب (ع) بما حاصله: ((أنّ أوّل مخلوق لله تعالى لا يخلو إمّا أن يكون مخلوقاً من لا شيء فيثبت المطلوب، أو يكون من شيء سابق، وهذا السابق لا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو حادثاً، فعلى الأوّل يلزم تعدد القدماء، وهذا باطل..، وعلى الثاني يلزم الدّور أو التسلسل الباطلان بالضرورة.))[انظر تمام المناظرة في كتاب الإمام الصادق(ع) للشيخ محمد حسين المظفر:ج1،ص195]، هذا من حيث المعقول.

وأمّا من حيث العلم التجريبي، فإنّه لا يملك تفسيراً لهذا النوع من الخلق؛ وذلك لاندراجه تحت عنوان المعجزة الخارقة لقوانين الطبيعة وضوابط البحوث التجريبية، فإنّ المعجزة لا تنال المختبرات العلميّة لحقيقتها، ولا مفرّ للإنسان من الإيمان بها حتى وإن عجز عن فهم حقيقتها. كما أنّ مجرّد عجز العلم الحديث عن مثل هذا النوع من الخلق لا يشكل مبرِّراً للتكذيب به، قال في الكاشف: ((يستحيل على المادّي أن يُوجِدَ شيئاً من لا شيء، ولا يستحيل ذلك عَمَّن تنزّه عن المادّة، ومن هنا يتبين أنّ قياسَ الخالق على المخلوق الذي يعجز عن إيجاد شيء من لا شيء قياسٌ مع الفارق، وكيف يصحّ قياس الغني عن كلّ شيء، ويفتقر إليه كلّ شيء، ويقول للشيء كن فيكون، كيف يصح قياس هذا القادر على العاجز المفتقر إلى كلّ شيء..؟!)).[تفسير الكاشف للشيخ مغنية:ج1،ص395] ، وكيف كان فلعلّه لهذه الأسباب سكتت الروايتان عن هذا المعنى من الخلق ـــ والله العالم ـــ.

والاستعمال الآخر: أن يكون الصنع بمعنى "إيجاد الشيء من الشيء"[مفردات الراغب الأصفهاني ـــ مادة (خلق):ص296]، وأن يكون بلا مثال سابق، وهذا ما يسمّى بخلق الاختراع، ومثاله خلق السماوات والأرض كما في الروايتين محل البحث، ومن الواضح أنّ المصنوع بهذا المعنى يكون مسبوقًا بالمادة التي خُلقَ منها كما تقدّم، وأمّا سبقه بالزمان فبناءً على القول بقدم العالم زماناً كما عليه بعض الفلاسفة، فلا يكون كذلك، خلافاً للمتكلّمين المانعين من القدم الزماني للعالم. وكيفما كان فقد ظهر لك ممّا تقدّم أنّ الاختراع أو الإبداع أو الابتداع ليست إلّا الفاظاً مترادفةً لمعنى واحد، وهو "خلق الشيء من الشيء من دون مثال سابق".

2. المعنى الثاني: الخلق بمعنى التقدير، ففي الماديّات تقول: "خَلقتُ الأديمَ للسقاء" إذا قدّرته قبل القطع[الصحاح للجوهري:ج4،ص1470]، أي قِستَ الجلد فكوّنت عنه صورة ذهنيّة لتقطيعه وجعله سقاءً على طبقها، وأما في المعنويّات فالتقدير هو: (التفكّر في الأمر بحسب نظر العقل وبناء الأمر عليه)[رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين(ع) للسيد علي خان المدني الشيرازي:ص261]، وخلق التقدير إن كان بفعل الله تعالى لم يكن على مثال سابق؛ لأنّه تعالى غنيّ عن المثال، قال المدني: "ثمّ استعمل ـــ أي التقديرـــ في إيجاد الشيء وإنشائه على غير مثال سبق فقيل: خلق الله الأشياء خلقاً باعتبار الإيجاد على وفق التقدير الَّذي أوجبته الحكمة" [المصدر السابق:ص276]، بخلافه في خلق عيسى(ع) للطير حيث أخذ شيئاً من الطين فقدّره وصوّره بهيئة وصورة طير سابق؛ ولأنّه خلق تقدير بفعل غيره تعالى لم يكن طيراً حقيقة إلّا بإذنه تعالى وتدخّله، قال التبريزي:( وخلقُ عيسى من الطين كهيئة الطير هو خَلقُ تقديرٍ أيضاً، ومكوّنُ الطير وخالقُه في الحقيقة هو الله تعالى)[اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري:ص359].

بهذا نكون قد استفدنا ـــ بمعونة اللغة ـــ ثلاثة معانٍ شرعية مستعملة للخلق، وبقي لدينا معنيان هما: خلق الاستحالة وخلق التغيير، فأمّا الاستحالة فيراد بها هنا معناها الفقهي فإنّها: (عبارة عن انعدام الشيء ووجود شيء آخر، وبعبارة أخرى: الاستحالة هي: تبدّل الشيء عمّا كانت شيئيته به من الصورة النوعية فهي انعدام صورة نوعية ووجود صورة أُخرى، كاستحالة الكلب مِلحاً والخشبة المتنجسة رماداً) [تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (النجاسات وأحكامها)، للشيخ فاضل اللنكراني:196]، وأوضح مثال لها في المقام مراحل تكوين الجنين في بطن أمّه كما صرّحت به الروايتان محل البحث؛ إذ في كلّ مرحلة تنعدم صورة نوعيّة وتحصل أخرى، فالنطفة شيء والجنين الكامل شيء آخر مع أنّ كليهما مرحلتان له في الرحم؛ ولذا قال تعالى: (خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ).

وأمّا خلق التغيير فقد قيل بأنّ المراد به تغيير دين الله بتغيير فطرة التوحيد التي فُطِرَ الناسُ عليها ، وقيل بأنّه تغيير ظاهر خِلقة الإنسان، [ انظر مسالك الإفهام إلى آيات الأحكام للجواد الكاظمي:ج2،ص402] هذا.. ودمتم سالمين.