دلائل اختيار أهل الكساء للمباهلة
سؤال: لماذا خصّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) في مباهلة نصارى نجران دون غيرهم أرجو التوضيح؟
الجواب
بسم الرحمن الرحيم
لا يخفى على كلّ ذي فطنة أنَّ تعيين شخصيّات أهل العباءة للمباهلة دون غيرهم ليس حالة عفويّة من اجتهاد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما هو اختيار إلهيٌّ هادف، وقد أجمع علماء التفسير والحديث من الشيعة والسنة على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ أصحاب الكساء، ففي صحيح مسلم: (ولمّا نزلت هذه الآية: ﴿...فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ﴾ [سورة آل عمران: 61]. دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: " اللّهُمّ هؤلاء أهلي) [صحيح مسلم ج ص/1871، طبعة: دار إحياء التراث العربيّ/ بيروت].
فالرواية واضحة في أنَّ دعوة عليّ وزوجته فاطمة وأبنيهما (عليهم السلام) للمباهلة كانت منقبة وفضيلة لها دلالات كبيرة إلى درجةٍ عَـدّها سعد بن أبي وقاص أحبّ إليه من حمر النعم.
ونحن بحسب ما يسع المقام سنبيّن دلالات هذا الاختيار من عدّة وجوه:
الوجه الأوّل: اختيار الله تعالى لأكرم الناس وأعزّهم لنبيه (صلّى الله عليه وآله)، كان ذلك لبيان منزلتهم عنده كما جاء ذلك عن النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما سُئل عن هذا الاختيار فقال (صلّى الله عليه وآله): (لو علم الله تعالى أنّ في الأرض عباداً أكرم من عليّ وفاطمة والحسن والحسين، لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى) [تفسيرُ الحِبَرِيّ ص264].
ولما رأى أسقف نصارى نجران تلك الوجوه تيقّن أنّهم لو باهلوهم لنزل عليهم اللّعنة، فقال الأسقف أبو الحارثة: إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله بها، فلا تباهلوا، فلا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة [الكامل في التاريخ: ١ / ٦٤٦ السنة العاشرة ذكر وفد نجران].
ومِـمّا يؤيّد ذلك أنّهم خوطبوا في القرآن الكريم في هذا المورد بصيغة الجمع التي تقتضـي التعظيم والتفخيم لهم، إذْ عبّر عن (أنفسنا) لعليّ (عليه السلام) وعن (نسائنا) لفاطمة (عليها السلام) وعن (أبنائنا) للحسن والحسين (عليهما السلام). قال ابن فارس النحويّ (المتوفّى:٣٩٥هـ): «من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرّجل العظيم: انظروا في أمري» [الصاحبي في فقه اللغة ج1ص54].
الوجه الثاني: اختيار الله تعالى كان من أجل بيان العلقة الدائمة بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، ولهذا طلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مِنْ أهلِ العباءة (عليهم السلام) التأمين على دعائه كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): "إنْ أنا دعوت فأمّنوا" فمع أنّه مجاب الدعوة وأنّه (صلّى الله عليه وآله) لا يحتاج إلى كلمة آمين، لأنّ كلمته نافذة في السماوات والأرضين، أراد بهذا العمل المبارك أن يبيّن للناس أنّ شرط الإجابة قول أهل العباءة آمين دون غيرهم، ليغلب بهم النصارى كما في قوله: (أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى) [تفسيرُ الحِبَرِيّ ص264].
الوجه الثالث: لبيان خلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، إذْ بعد نزول الآية، وتعيين من كان مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في تلك الحادثة، استدلّ الشيعة الإماميّة بكلمة: (وَأَنْفُسَنَا)، على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك لأنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نزَّل عليّاً بمنزلة نفسه.
على أنّه ينبغي التنبيه على أنّ المراد بقوله: «وَأنْفُسَنَا»، هو ليس نفس النبيّ محمّد (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم)، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس في كلِّ شيء، وإنّما المراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك لا يقتضي الاستواء في جميع الوجوه حتّى النبوّة، وذلك لقيام الدلائل على أنّ محمّداً كان نبيّاً وما كان عليّ كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً كان أفضل من عليّ، فيبقى فيما وراءه معمولًا به وهو مقام الإمامة العظمى والفضل.
قال شيخ الشيعة المفيد: فمن ذلك أنّه صلّى الله عليه وآله وسلم لما دعا نصارى نجران إلى المباهلة، ليوضّح عن حقّه ، ويبرهن عن ثبوت نبوّته ، ويدلّ على عنادهم في مخالفتهم له بعد الذي أقامه من الحجّة عليهم ، جعل عليّاً عليه السلام في مرتبته، وحكم بأنّه عدله ، وقضى له بأنّه نفسه ، ولم يحططه عن مرتبته في الفضل، وساوى بينه وبينه ، فقال مخبراً عن ربّه عزّ وجلّ بما حكم به من ذلك وشهد وقضى ووكّد: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساء كم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ). فدعا الحسن والحسين عليهما السلام للمباهلة فكانا ابنيه في ظاهر اللفظ ، ودعا فاطمة سلام الله عليها وكانت المعبّر عنها بنسائه ، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان المحكوم له بأنّه نفسه وقد علمنا أنّه لم يرد بالنفس ما به قوام الجسد من الدم السائل والهواء ونحوه ، ولم يرد نفس ذاته ، إذْ كان لا يصحّ دعاء الانسان نفسه إلى نفسه ولا إلى غيره، فلم يبقَ إلّا أنّه أراد عليه وآله السلام بالعبارة عن النفس إفادة العدل والمثل والنظير ، ومن يحلّ منه في العزّ والإكرام والمودّة والصيانة والإيثار والإعظام والإجلال محلّ ذاته عند الله سبحانه، فيما فرض عليه من الاعتقاد بها وألزمه العباد ولو لم يدلّ من خارج - دليل على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام لقضـى هذا الاعتبار بالتساوي بينهما في الفضل والرتبة ، ولكن الدليل أخرج ذلك ، وبقي ما سواه بمقتضاه .[تفضيل أمير المؤمنين للمفيد ص21-23].
وقال العلّامة الحلّيّ:.. و (أنفسنا) إشارة إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهذه الآية أدلّ دليل على ثبوت الإمامة لعليّ (عليه السلام)، لأنّه تعالى قد جعله نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والاتّحاد محلّ، فينبغي المراد المساوي، وله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الولاية العامّة فكذا لمساويه [منهاج الكرامة ص 125].
ويمكن تأييد التنزيل لنفس عليٍّ (عليه السلام) منزلةَ نفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما رواه الحاكم النيسابوريّ في مستدركه بسنده عن عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله (ص) قال: ( …والذي نفسـي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتون الزكاة أو لأبعثنَّ عليكم رجلاً منّي أو كنفسي فليضـربنَّ أعناق مقاتليهم وليسبينَّ ذراريهم، قال: فرأى الناس أنَّه يعني أبا بكر أو عمر فأخذ بيد عليّ فقال: هذا ) [المستدرك على الصحيحين ج2ص120. ط دار المعرفة- بيروت لبنان]
والحمد لله أوّلا وآخراً
اترك تعليق