كيف يدعو الله تعالى اليهود والنصارى إلى إقامة التوراة والإنجيل مع أنّهما محرّفان؟

السؤال: هل كان التوراة والأنجيل محرّفين عندما أنزل الله قوله (يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم)، اذْ كيف يقيمونهما وهما محرّفان؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

اعلم أخي السائل الكريم أنّ هناك الكثير من الآيات القرآنيّة التي صرّحت بحصول التحريف في التوراة والإنجيل، لكنْ هذا لا يعني استبدالهما بالكلّيّة، وبمعنى آخر لم يضع اليهود والنصارى كتباً من عند أنفسهم بديلاً لما نزل على موسى وعيسى (عليهم السلام)، وإنّما زادوا أو نقصوا أو استبدلوا الكلمات بالشكل الذي يؤدّي إلى تغيير المعنى، وهذا المقدار من التحريف مسلّم بحصوله، وقد دلّت آيات القرآن عليه إمّا بشكل مباشر، وإمّا بذكر بعض النماذج التي وقع عليها التحريف، وقد استعرضنا تلك النماذج في إجابة سابقة تحت عنوان (هل القرآن يشهد بصحّة التوراة والإنجيل؟)

وعليه فإنّ التحريف الذي أصاب التوراة والإنجيل لا يعني عدم اشتمالهما على بعض الحقائق التي نزلت بالفعل على أنبياء الله تعالى، ولذا جاءت هذه الآية في مقام الاحتجاج على اليهود والنصارى بما جاء في كتبهم، وهذه الكتب وإنْ اشتملت على التحريف، فليس فيها ما يمنع من اتّباع النبيّ محمّد (ص)، بل فيها الكثير من المبشّرات التي تنبّأت بقدومه صلّى الله عليه وآله، فإقامة التوراة والإنجيل بعد نزول القرآن تكون بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير بمحمّد صلّى الله عليه وآله، فالآية تكشف مدى الزيف الذي عليه اليهود والنصارى حينما ادّعوا أنّهم متمسّكون بالتوراة والإنجيل، فهم في حقيقة الأمر من أبعد الناس عن هذه الكتب، ولذا طالبتهم الآية بإقامة التوراة والإنجيل بعد أن أكّدت أوّلاً أنّهم ليسوا على شيء منها، فإذا رجعنا لتمام الآية التي استدلّ بها السائل لوجدنا أنّها تؤكّد أوّلاً بأنّ اليهود والنصارى ليس لهم علاقة بالتوراة والإنجيل ومن ثمّ ثانياً تطالبهم بالتمسّك بما جاء فيها حتّى يتّضح لهم حقيقة ما أنزل على النبيّ محمّد (ص).

والآية بتمامها كالتالي يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)﴾، فالآية تنفي أن يكونوا متّصفين بشيء ممّا هو موجود في التوراة والإنجيل، وبذلك تكون الآية واجهت اليهود والنصارى بكلّ وضوح وصراحة وكشفت بأنّهم ليسوا على شيء أصلاً.

وقد أشار الشيخ ناصر مكارم في تفسيره الأمثل لذلك بقوله: " الآية تخاطب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائلة: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم.

وذلك لأنّ هذه الكتب - كما قلنا - صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة، ولما كان آخر هذه الكتب السماويّة أكملها وأجمعها فإنّه هو الأجدر بالعمل به، كما أن الكتب السابقة تحمل بشائر وإرشادات إلى آخر الكتب، وهو القرآن، فإذا كانوا - حسب زعمهم - يقبلون التوراة والإنجيل، وكانوا صادقين في زعمهم، فلا مندوحة لهم عن القبول بتلك البشائر أيضا، وإذا وجدوا تلك العلامات في القرآن، فإنّ عليهم أن يحنوا رؤوسهم خضوعا لها.

إذنْ: فهذه الآية تقول: إنّ الادّعاء لا يكفي، بل لا بدّ من اتّباع ما جاء في هذه الكتب السماويّة عمليّاً، ثمّ إنّ القضيّة ليست "كتابنا" و "كتابكم"، بل هي الكتب السماويّة وما أنزل من الله عزّ وجلّ، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب سماويّ؟

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريّتهم، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها، بل إنّهم - لما فيهم من روح العناد - يزدادون في طغيانهم وكفرهم وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغيانا وكفرا.

وهكذا يكون التأثير المعكوس للآيات الصادقة والقول المتّزن في النفوس المملوءة عنادا ولجاجاً.

وفي ختام الآية يخفّف الله من حزن رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إزاء تصلّب هذه الأكثريّة من المنحرفين وعنادهم، فيقول له: فلا تأس على القوم الكافرين.

وهذه الآية ليست مقصورة على اليهود - طبعا - فالمسلمون أيضا إذا اكتفوا بادّعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء، وخاصّة ما جاء في كتابهم السماويّ، فلن تكون لهم منزلة ومكانة عند الله، ولا في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة، بل سيظلّون دائما أذلّاء ومغلوبين على أمرهم" (الأمثل ج 4 ص 103).