هل كان الخضر "عليه السلام" أعلم من النبي موسى "عليه السلام"..؟"

السؤال: إذا كان موسى (عليه السلام) نبيّاً من أولي العزم، فهو يعني أنّه أعظمُ أهلِ زمانه، فكيف يحتاج لعلم الخضر وهو رجل صالح فقط..؟!.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم..، وبعد.. اعلم أخي السائل الكريم أنّ علماء الفريقين قد أجابوا عن هذا السؤال بعدّة إجابات، ونحن نذكر لك أهمّها، ثمّ نبيّن الراجح منها، مع دليل رجحانه إن شاء الله تعالى، ولكن بعد الوقوف على مقدّمة مهمّة في المقام، ولها أهمّية في تقويم جواب السؤال المذكور والتمهيد لفهمه، فنقول:

لا شكّ في أنّ الأنبياء والرسل (ع) يتفاوتون في المنزلة والتفضيل عند ربّهم (عزّ وجلّ)، فقد يخصُّ الله سبحانه وتعالى بعضَهم بمزيّة أو فضيلة دنيويّة أو أُخرويّة دون أن يعطيها لبعضهم الآخر، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في عدّة موارد ، كقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ... الآية}[البقرة:253]، وقوله جلّ شأنه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] إلى غير ذلك ، وهذا التفضيل لا يخرج عن نطاق الرحمة أو العدل أو الحكمة ؛ إذْ قد يكون رحمة وتفضّلاً منه تعالى فإنّه: ((يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))[آل عمران: 74] ، أو يكون للاستحقاق والأهليّة والاستعدادات التي يكون عليها نبيّ أو رسول دون آخر، وقد تكون مواهبه تعالى لبعضهم بسبب متطلّبات المرحلة والعصر والأمّة التي يكون فيها ؛ لما في ذلك من كمال للوظيفة التي كُلِّف بأدائها والتي لا تخرج عن حدِّ إصلاح حال الناس في شؤون ومجالات الدنيا والآخرة. ومن بين تلك المواهب الممنوحة للأنبياء والمرسلين موهبة العلم الذي زوّدهم به ؛ ليصلوا بعباده إلى كمالهم وصلاحهم الممكن وسعادتهم في النشأتين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الجمعة:2].

بل كان من الطبيعيّ جدّاً حصول التفاوت بين الأنبياء والرسل في مراتب الفضيلة الواحدة ، كما في فضيلة العلم نفسها فإنّ أفضل الأنبياء علماً على الإطلاق هم الرسل أولي العزم، وأفضلهم جميعاً الحبيب المصطفى "صلّى الله عليه وآله" إذْ جمع الله له ولأهل بيته (ع) علوم الأوّلين والآخرين وزادهم من فضله فإنّه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] ، وقد صار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك مدينةَ العلم الإلهي وصار أهل بيته (ع) أبوابها ، فكانوا بحقّ أعلم الأوّلين والآخرين بعد أن جمعوا بين أسباب التفضيل الثلاثة المتقدّمة، فهم المصطفَون الأبرار وأحبّ خلقه وأقربهم إليه وأخصّهم زلفة لديه عزّ وجلّ، وهم أكمل العباد على الإطلاق وأطوعهم له تعالى، ولأنّ دينهم يمثّل الرسالة الخاتمة التي كُتِب لها أن تُغيّر وجه العالم ووِجهَتِه إلى يوم القيامة فكان لابدّ أن يصبح أَتباعُها على درجة من الرقي والكمال الذي لم يَسبِق للبشريّة وصوله على الإطلاق. فإذا عرفت ذلك فإنّ في مقام الردّ على سؤالكم أجوبة عديدة،

أهمّها أربعة:

1- الجواب الأوّل: وهو يبتني على فرضيّة نبوّة الخضر(ع) التي قال بها غير واحد من علماء المسلمين، إذْ لمّا كان موسى والخضر "عليهما السلام" نبيّين، والتفاضل واقع بين الأنبياء كما عرفت ، فقد فضّل الله الخضر لخصوصية معيّنة بما لم يفضّل به موسى (ع) ، وهو العلم بالحوادث المرتبطة بإرادة الله التكونيّة وأسرارها ، وذلك ما يسمّى بعلم الباطن ، كما أنّه تعالى فضّل موسى (ع) بما لم يفضّل به الخضر وهو التكليم، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، فالمسالة مندرجة تحت عنوان التفاضل بين الأنبياء(ع). إلّا أنّ هذا الجواب فيه نظر من ثلاث جهات:

الجهة الأولى: أنّ نبوّة الخضر(ع) ليست محلّ وفاق بين علماء الأمّة، فضلاً عن اختلاف الروايات فيها بين النفي والإثبات.

الجهة الثانية: أنّ السؤال المذكور لا يتعلّق بكيفيّة رجوع نبيّ إلى نبيّ، بل هو عن كيفيّة رجوع رسولٍ من أولي العزم إلى مَن ليس منهم.

الجهة الثالثة: بناءً على القول بعالميّة رسالة النبيّ موسى (ع)، كما ذهب إليه صاحب تفسير الميزان [انظر ج10،ص380 منه]، فإنّ الواجب على الخضر أن يكون تابعاً لموسى (ع) كتبعيّة هارون (ع)، لا أن يصير متبوعاً، كما أنّ المرسَل برسالة عالميّة يجب أن يكون أعلمَ الناس مطلقاً؛ إذْ لا يجوز أن يكون في أمّة نبيٍّ مَن هو أعلم منه، لا مطلقاً ولا من وجه.

2- الجواب الثاني: ما ذكره شهاب الدين الآلوسيّ، فبعد أن استعرض الأحاديث المرويّة عن طريقهم في المقام ، أردف قائلاً: ((...، ثمّ إنّ الذي أميلُ إليه أنّ لموسى "عليه السلام" علماً بعلم الحقيقة المسمّى بالعلم الباطن والعلم اللّدنّي، إلّا أنّ الخضر أعلم به منه، وللخضر "عليه السلام" سواء كان نبيّاً أو رسولاً علماً بعلم الشريعة المسمّى بالعلم الظاهر إلّا أنّ موسى "عليه السلام" أعلم به منه، فكلٌّ منهما أعلم من صاحبه من وجه...)).[تفسير روح المعاني للآلوسي: ج15،ص332]. إذنْ: فخلاصة ما عند الآلوسيّ هو أنّ موسى والخضر لديهما نفس العلوم، وإنّما الاختلاف بينهما في السعة والضيق تبعاً لاختلاف مجالات تلك العلوم لا أكثر.

غير أنّ هذا الجواب إنّما يصحّ من جهة كون الخضر أقلّ مرتبة من موسى في العلم بالشريعة وأحكامها؛ فإنّ الخضر إنْ كان نبيّاً فالشريعة لموسى وليست له حتّى يكون أعلم بها منه، وإن كان وليّاً وعبداً صالحاً فقط فلا يُمكن أن يكون أعلم من النبيّ بشريعته، إذْ ورد في تفسير العياشيّ: ((عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال : كان موسى أعلم من الخضر))[تفسير العياشيّ:ج2،ص330] ، وعلّق عليه صاحب الأمثل بقوله: (( أي أعلم منه في علم الشرع ))[التفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي:ج9،ص341] ، كما لا يُعقل جهل الولي بأحكام الشرع مطلقاً، هذا من جهة الخضر(ع). وأمّا من جهة موسى(ع) وكونه عالماً بأسرار التكوين بدرجة أقلّ من علم الخضر؛ فلم يأتِ الآلوسي بدليل عليه، وليس هناك من الآيات ذات العلاقة ما تشير إليه، ولاسيّما بعد قول الخضر:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}[الكهف: 68] ، ويشهد لعدم امتلاك موسى (ع) لهذا النوع من العلم قول الإمام الصادق "عليه السلام: ((...وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسى في الألواح وكان موسى "صلّى الله عليه" يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في نبوّته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح))[الاختصاص للشيخ المفيد:ص258].

3- الجواب الثالث: هو للسيّد عليّ العاشور الذي ذهب إلى أنّ موسى هو الأعلم، ولا أعلميّة للخضر على الإطلاق، أي حتّى في باب الأسرار الكونيّة المسمّى بعلم الباطن والعلم اللدنّي، إذْ قال: ((إنْ قيل: كان الخضر أعلم من موسى (عليهما السلام).

قلنا: أوّلاً: لا نسلّم كونه أعلم، وذلك لما حقّقناه [مِن] أنّ الأعلمَ أعلمُ في كلّ شيء ، والخضر لم يكن أعلمَ من جميع الجهات، فموسى كان أعلم منه بالرسالة السماويّة التي أرسله الله ليبلّغها للناس، وإلّا لكان الواجب إرسال الخضر عوضاً عنه.

وثانياً: عِلْمُ النبوّة المشروط في الباب هو العلم الذي يحتاج اليه الناس في حياتهم، أو الذي يجب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) معرفته، ومعلومٌ علمُ الخضر لم يكن كذلك، إنّما كان علماً بالأمور الباطنية.)) [حقيقة علم آل محمّد "ص" للسيّد عليّ العاشور:ص13].

لكنّ هذا الجواب غير تامّ هو الآخر ؛ إذ من الواضح أنّ ما ذكره في الفقرة (أوّلاً) من اشتراط كون الأعلم أعلم من جميع الجهات وإن كان شرطاً صحيحاً في نفسه وليس متوفّراً في الخضر(ع) ، لكنّه أيضاً لم يتوفّر في موسى (ع)؛ فإنّه هو الآخر ليس أعلم من جميع الجهات؛ وإلّا لما احتاج إلى التعلّم من الخضر..!، نعم الفقرة(ثانياً) من الجواب سليمة تماماً، وهي في معنى الجواب الرابع كما سيتّضح.

4- الجواب الرابع والأخير: وهو الجواب الصحيح وعليه المشهور وبمضمونه جاءت النصوص من طريق الفريقين كما ذكر ذلك صاحب تفسير الميزان[ج13،ص356]، وخلاصة هذا الجواب: أنّ النبوّة لا تتوقّف على نوع العلم الذي كان عند الخضر(ع) على الإطلاق، وبالتالي فاحتياج موسى (ع) لعلم الخضر لا يقدح في نبوّته وأعلميّته. ولذا أثار صاحب التفسير الأمثل في هذا الموضع سؤالاً وأجاب عنه، إذ جاء فيه: ((...ولكن هنا يثار هذا السؤال: أَلَا يجب أن يكون النبيُّ - وهو هنا من أولي العزم وصاحبُ رسالةٍ - أعلمَ أهلِ زمانه..؟.

في معرض الجواب نقول: نعم، ينبغي أن يكون أعلمَ فيما يتعلّق بمهمّته، يعني الأعلم بالنظام التشريعيّ، وموسى(ع) كان كذلك، أمّا الرجل العالم "الخضر" فهو كما قلنا سابقاً، كانت له مهمّة تختلف عن مهمّة موسى(ع) ولا ترتبط بعالم التشريع. بعبارة أخرى: إنّ الرجل العالِم كان يعرف من الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النبوّة. وفي حديث عن الإمام عليّ بن موسى الرضا "عليه السلام" نرى إشارة صريحة إلى أنّ مهمّة ووظيفة كلّ من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم إلى الإمام الرضا "عليه السلام" يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيّهما كان أعلم ؟ فكان ممّا أجاب به الإمام قوله: ( عليه السلام ) : " أتى موسى العالِمَ فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالساً وإما متّكئاً فسلّم عليه موسى ، فأنكر السلام؛ إذْ كانت الأرض ليس بها سلام. قال: مَن أنت؟ قال: أنا موسى بنُ عمران، قال: أنت موسى بن عمران الذي كلّمه الله تكليماً؟! قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا عُلِّمتَ رُشداً. قال: إنّي وُكِّلْتُ بأمر لا تُطيقُه ، ووُكِّلْتَ بأمر لا أُطيقه...)) [تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي:ج9،ص340]. ودمتم سالمين.a