كيف كلّم الله موسى؟

السؤال: يقول بعضُ العلماء في أحد أجوبته: إن الله تعالى متكلّم باعتبار أنَّه يُوجِد الأصوات والحروف في شيءٍ من الأجسام، وهكذا كان كلامه مع موسى بن عمران (ع) حيث أوجد الأصوات والحروف في الشجرة، لكن الله يقول: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }، [طه 11-12]. وعلى تقدير كلام أحد العلماء وبعض متكلّمي الشيعة ستصبح الشجرة ربَّ موسى؛ لأنَّه إنْ كانت هي التي تتكلّم فهي التي قالت إنّي أنا ربُّك فأخلع نعليك إنَّك بالوادي المقدَّس طوى؟!

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

لا شك أنَّ التكلّم إحدى صفات الله تعالى الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية، وقد وصف الله تعالى نفسه بهذه الصفة في كتابه العزيز فقال الله تعالى: { وَكلّم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء 164]. ولا خلاف بين المسلمين في كونه متكلّماً، ولكنهم اختلفوا في تفسير كلامه تعالى، وكيفية أتصاف الله تعالى به، وهذا الخلافُ يُعدُّ جزءًا مهماً من بيان الجواب، وفي بناء العقائد الرئيسة، مثل التوحيد، والنبوَّة، والمعاد؛ إذ يعكس تصور العلماء عن الكلام الإلهيِّ التزامهم بإثبات الصفات الإلهيَّة من دون تشبيهٍ أو تجسيم، ممَّا يُنزّه الله تعالى عن كلِّ نقصٍ وعيب، ويكشف عن كيفية تواصل الله تعالى مع بني آدم، وخاصة مع الأنبياء (ع).

فالكلام طريقةٌ من طرق اتصال الانبياء (ع) بالله تعالى، حيث قال تعالى: { وَما كانَ لِبَشَر اَنْ يُكلّمهُ الله اِلاّ وَحْياً اَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب اَو يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحى بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ اِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }. [الشورى 51]. فالطريق الأول هو الإيحاء، والثاني هو التكلّم من وراء الحجاب كما تكلّم الله تعالى مع موسى (ع) في جبل طور سيناء، والطريق الثالث هو إرسال رسولٍ لإبلاغ الخطاب الإلهيِّ إلى النبي، كما كان يهبط جبرئيل (ع) على النبي (ص) لإبلاغه الخطابات والقوانين الالهية.

وعلى هذا، فهناك ثلاثة طرق لاتصال الأنبياء (ع) بعالم ما وراء الطبيعة، واحدة منها هو الكلام الإلهي فنقول:

اولاً: وردت "صفة الكلام" بنسبة فعل التكلّم لله تعالى وذلك في آيتين، الأولى قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله }، [ البقرة 253]. والثانية في [النساء 164] في قوله تعالى: { وكلّم اللهُ موسى تكليماً }، فصرَّح في هذه الآية بأنَّ الله كلّم موسى وأكَّد ذلك بقوله: " تكليماً" تأكّيداً على اتصافه سبحانه بهذه الصفة، وأنَّها على الحقيقة في حقه تعالى.

قال العلامة الطباطبائيُّ (قده): (ففي مورد التكليم الالهيِّ لا محالة أمر حقيقيٌّ متحققٌ يترتَّب عليه من الآثار ما يترتب على التكلّمات الموجودة فيما بيننا... يكلّمه الله، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليمٌ لكن بنحوٍ خاص، فحدُّ اصل التكليم حقيقة غير منفيَّ عنه ). [الميزان في تفسير القرآن ج2 ص314].

ثانياً: أقسام الكلام الإلهيّ :

1. الكلام اللفظيُّ: وهو خلق الله تعالى للحرف وللصوت بما يليق بجلاله وعظمته سبحانه، يُسمعه من يشاء من خلقه كيف ما شاء.

قال سديد الدين (قده): (كلام اللّه تعالى إنما هو من جنس الأصوات و الحروف... غير قائمة بالله تعالى قياماً حلوليَّاً أو عرضيَّاً، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبيّ أو غير ذلك فكما يكون الله تعالى منعماً بنعمة يوجده في غيره، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أنْ يحلّ عليه فعل ). [المنقذ من التقليد ج1 ص215].

وقال العلامة الطباطائيُّ (قده): (الكلام لا يصدر منه تعالى على حدّ ما يصدر الكلام منَّا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه الدلالة الاعتبارية الوضعيَّة، فانه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانيَّة، أو يستكمل بالدعاوي الوهميَّة الاعتباريَّة وقد قال تعالى: { ليس كمثله شيء } [الشورى ١١]). [الميزان في تفسير القرآن ج2 ص316].

2. الكلام الفعليُّ: وهو دلالة الفعل على وجود فاعله وعلى خصوصياته الوجوديَّة، وتكون دلالة الفعل على المعنى دلالة تكوينيَّة عقليَّة وليست من قبيل الدلالة الوضعية الاعتباريَّة.

قال الشيخ علي الربانيُّ (دام ظله): ( توضيح ذلك: أنّ الغرض المقصود من الكلام اللفظيّ ليس إلاّ إبراز ما هو موجود في نفس المتكلّم ومستور عن المخاطب والسامع، فالكلام ليس إلاّ لفظاً دالاً على المعنى الذي تصوّره المتكلّم وأراد إيجاده في ذهن السامع، فحقيقة الكلام هي الدلالة والحكاية، ولا شكّ انّ الفعل كما يدلّ على وجود فاعله فهكذا خصوصياته الوجوديَّة دالّة على خصوصياته الوجوديَّة، وليس الفرق بين دلالة اللفظ على المعنى ودلالة الفعل على الفاعل، إلاّ أنّ دلالة الاَوّل وضعيٌّ اعتباريٌّ، ودلالة الثاني تكوينيٌّ عقليٌّ، والدلالة التكوينيَّة العقليَّة أقوى من الدلالة اللفظيَّة الوضعيّة

وعلى هذا، فكلّ فعلٍ من المتكلّم أفاد نفس الاَثر الذي يفيده الكلام، من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني والحقائق، يصحّ تسميته كلاماً من باب التوسع والتطوير). [محاضرات في الالهيات ص119].

وقال العلامة الطباطبائيُّ (قدس سره): (الوجودات الخارجيَّة لما كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلّم به عن نفسها وكمالاتها... ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والايجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال). [الميزان في تفسير القرآن ج2 ص226].

ثالثاً: كيف كلّم الله موسى؟

الجواب: لا أشكال في إن الله تعالى كلّم موسى (ع) مباشرة ومن دون واسطة وفي هذا النوع من المحادثة يصل الكلام إلى المخاطب، ولكن لا يُرى المتكلّم؛ لأنَّ هناك حجابٌ معنويٌّ يمنع رؤية المتكلّم.

وردت "صفة الكلام" بالتصريح بفعل المناداة منسوبا لله تعالى، وذلك في عدَّة آياتٍ منها قوله تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن}، [مريم 52]. ومنها قوله تعالى: {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين} [الشعراء10]. ومنها قوله تعالى: {فلما آتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} [طه 11-12].

ونكتفي هنا بما ذكره أعلام التفسير، منهم ما قاله العلامة (قده) في الميزان: (كان "موسى ع" حينذاك يسير بأهله وقد ضلَّ الطريق وأصابه وأهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا "لم يبصرها غيره" من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإنْ وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبساً يأتي به إلى أهله فيوقدوا ناراً يصطلون بها. فقال لأهله امكثوا إني أحسست وأبصرت ناراً فالزموا مكانكم سآتيكم منها -أي من عندها- بخبرٍ نهتدي به، أو آتيكم بشعلةٍ متناولةٍ من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون وتستدفئون بها... فلما أتى النار وحضر عندها { فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ } والمراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير). [ ج15ص343]

ثم قال في موضع أخر(ولا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءاً للنداء والتكليم بوجه، غير أن الكلام - وهو كلام الله سبحانه - لم يكن قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلّم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلّمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب وهو على كلّ شيءٍ محيط ، قال تعالى: { وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكلّمهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ } [الشورى ٥١].

ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: إنَّ الشجرة كانت محلَّ الكلام؛ لأنَّ الكلام عرض يحتاج إلى محلٍّ يقوم به ).[الميزان في تفسير القرآن ج16ص32].

يرى العالم والمفسر الشيعيُّ الشيخ مكارم الشيرازيُّ إنَّ الله تعالى كلّم موسى(ع) عن طريق خلق أمواجٍ صوتيَّةٍ في الفضاء أو في الأجسام، وقد ذكر هذا المعنى بقوله:

(يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أن الله تعالى كلّم موسى (ع)، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواجٍ صوتيَّةٍ في الفضاء أو في الأجسام، وربما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال " شجرة الوادي الأيمن " وربما من " جبل طور " وتبلغ مسمع موسى فما ذهب إليه البعض من أن هذه الآيات تدل على جسمانيَّة الله تعالى جمودا على الألفاظ تصورٌ خاطئٌ بعيدٌ عن الصواب.

على أنه لا شك في أن ذلك التكلّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسى (ع) كان لا يشك عند سماعه له في أنه من جانب الله، وكان هذا العلم حاصلا لموسى، إما عن طريق الوحي والإلهام أو من قرائن أخرى) [الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج 5 ص215].

نستنتج من جميع ما ذكر أن تكليم الله تعالى لموسى (ع) هو خلقه وإيجاده تعالى للكلام في الأشياء كالشجرة في البقعة المباركة ليوصل بذلك مقصوده إليه (ع)، فلا يلزم المحذور الذي ذكره السائل من كون الشجرة رب موسى - والعياذ بالله- ، وما ذكره السائل من نسبة الكلام إلى الله تعالى (الله متكلّم) لا إشكال ولا نقاش فيه، وأما نسبة صدور الكلام إلى الشجرة (والتكلّم صدر من الشجرة بنحو الحقيقة وكونها فاعلة الكلام من نفسها) مشتمل على اشتباه، بل معنى كونه تعالى متكلّما عبارة عن إيجاده سبحانه للكلام في الهواء أو بجبرئيل (ع) أو بالشجر أو بغيره من الأجسام، وبهذا يستبين الحال ويرتفع موضع الشك والارتياب.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتَنا، وزدنا علماً إنك سميعٌ مجيبٌ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.