هل احترام الأديان نابع من فراغ؟

السؤال: يدعو دوكنز الى نزع الاحترام من الاديان بشكل عام لأنها لا تستحق الاحترام، ويقول ان ما تتمتع به الاديان ومعتنقيها من امتيازات هو الذي لايزال يدعم انتشارها وانه حالما نتوقف عن ذلك فستنضب وتضمحل .. كما انه يجب وقف مشاورة رجال الدين في قضايا المجتمع والحياة لأنه من العار مساواتهم بعلماء الاجتماع والقانون وباقي الاختصاصات العلمية.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

 بعيداً عن التحقّق من مصدر هذا الكلام ومدى الدقّة في نسبته لريتشارد دوكينز أو غيره، فإنّ هذا الكلام يردّده كثيرٌ من الملحدين وبخاصّة الإلحاد الجديد الذي جعل كلّ همّه محاربة الأديان، وقد تعرّضنا في كثير من الأجوبة السابقة لمثل هذه الادّعاءات التي تكشف عن جهل أصحابها بفلسفة الأديان ومدى أهمّيتها للبشريّة عامّة، ولذا سنكتفي هنا بالتعليق على موضع احترام الأديان.

إذِ الدعوة لنزع الاحترام عن الدين تظلّ رغبة نفسيّة وميول شخصيّ إذا لم يرافقها بيان المخاوف التي تستوجب نزع الاحترام منه، فمطالبة دوكينز أو غيره للأكثريّة الساحقة من البشر بنزع احترامها من الدين يكشف عن نفسيّة سلطويّة تمارس دور الوصاية على الآخرين، وهو أسلوب فرعونيّ طاغوتيّ يحصر الحقّ والحقيقة في رؤيته الشخصيّة، قال تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، غافر: 29.

 فإذا كانت الأديان بشكل عامّ وجدت بوجود الإنسان، وإذا كانت الأديان السماويّة رافقت تاريخ الإنسان منذ بعثتها وإلى يومنا الحالي، فكيف يمكن التخلّص منها بمجرّد الدعوة لعدم احترامها؟ فإذا كانت بالفعل لا تستحقّ هذا الاحترام، فكيف نفهم حضورها وتأثيرها العميق في الحياة الإنسانيّة؟

وبالتأكيد لا نقصد إضفاء القداسة والاحترام على كلّ الممارسات الدينيّة وعند جميع الأديان والطوائف، وإنّما نقصد أصل فكرة الدين وحضورها في الضمير والوجدان الإنسانيّ، وإنّ الإنسان مهما تطوّر ومهما امتلك من مفاتيح تسخير المادّة فلا يمكنه الاستغناء عن الغيب بوصفه الحقيقة التي توجد حِكمة ومعنى وفلسفة للحياة، فالأديان بشكل عامّ ترتكز على مسوّغات فطريّة وعقليّة لا يمكن إهمالها وتجاهلها، فاضطرار الإنسان إلى معرفة مَن أوجده من جهة، وحاجته إلى الكمال من جهة أخرى، وتطلّعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتمّ عليه التطلّع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادّة، وهذا النوع من الوعي المتساميّ عن المادّة والمترفّع عن الحسّ، يمثّل جانب الإشراق في الإنسان، ومن هنا نحن ندافع عن أصل فكرة الدين، كما ندافع عن الإسلام بوصفه الدين الحقيقيّ والكامل في كلّ معتقداته وتشريعاته.

وعندما ندافع عن الإسلام لا ندافع عن المسلمين ولا نبرّر سلوكيّاتهم وممارساتهم الخاطئة سواء على مستوى السلوك الفردي أم السلوك الحضاريّ، والمعيار العامّ الذي يجب أن نقدّم به الإسلام يجب أن يقوم على كون الإسلام هو الطريق الوحيد الذي يحقّق الحياة الفاضلة للإنسان، وأيّ فهم لا يعزّز قيمة الحياة ولا يدفع الإنسان نحو إعمار الأرض على أساس قيم الحقّ والفضيلة، هو فهم لا علاقة له بالإسلام ولا يمثّل ما أراده الله من كرامة للإنسان، وبالتالي ما عليه واقع المسلمين من رجعيّة وتخلّف لا يمكن الدفاع عنه أو تسويقه، وما تقوم به التيارات اللادينيّة من تهريج حول هذه الصور السلبيّة لا يمثّل إدانة للإسلام بقدر ما هو إدانة للإنسان بما هو إنسان مؤمن كان أو ملحد لأنّ الجميع يعيشون في هذا التخلّف والانحطاط، فمجرّد أن يتحوّل المسلمون والعرب إلى ملاحدة لا يغير شيء من واقعهم المتخلف، ومن هنا يجب البحث عن أسباب التخلّف بعيداً عن الإسلام كدين.

وفي المحصّلة الاحترام حالة يجدها الإنسان في نفسه لشيء ما، وقد ينشأ هذا الاحترام من حالة شخصيّة وانطباع ذاتيّ، وعندها إمّا أن يصادف ما يستحقّ الاحترام بالفعل، وإمّا أن يحترم ما لا يستحقّ الاحترام، وفي كلا الحالتين يظلّ حالة نفسيّة خارجة عن المعايير الموضوعيّة، فما يقوم على الروابط النفسيّة والعلقة الشخصيّة لا يمكن التحكّم فيه من خلال الضوابط الموضوعيّة، وفي المقابل هناك نوع آخر من الاحترام، وهو الاحترام النابع من دوافع واقعيّة استوجبت احترامه، وإذا جاز لنا أن نصطلح على هذا النوع من الاحترام، فيمكننا أن نسمّيه (الاحترام النوعيّ) أو (الاحترام العقلائيّ) وهو الاحترام الذي يجده عامّة العقلاء لشيء ما، مثل احترامهم للقانون أو احترامهم للعدالة أو غير ذلك من القيم والأخلاق والفضائل، والدين بوصفه نظام من القيم والكمالات الروحيّة والمعنويّة ظلّ محلّ احترام جميع العقلاء، وحضور الدين في التاريخ الإنسانيّ يكشف بوضوح عن كونه قيمة محوريّة أجبرت الإنسانيّة في كلّ مراحلها التاريخيّة على احترامه، وهذا النوع من الاحترام لا يمكنه نزعه أو زحزحته لمجرّد تمنّيات فلان أو علان.

وأمّا بخصوص قوله: «كما أنّه يجب وقف مشاورة رجال الدين في قضايا المجتمع والحياة لأنّه من العار مساواتهم بعلماء الاجتماع والقانون وباقي الاختصاصات العلميّة». فجوابه: أنّ رجوع السائل لرجل الدين لا يكون في أصل المسألة العلميّة، وإنّما في جانبها الفلسفيّ والفكريّ، فلا يسأله عن وجود أصل التطوّر في الكائنات وسبب حصوله، وإنّما يسأله عن الجانب الفلسفيّ لهذا الأمر، فعلى تقدير ثبوت أصل التطوّر هل يتنافى مع مقولة الخلق أوّلاً.

بل ما طرحه دوكنز يرد عليه، فالناس لم تتأثر بآرائه البايلوجيّة التي هو عالم فيها، وإنّما اشتهر بآرائه الفلسفيّة، حين استدلّ بنظريّة التطوّر الداروينيّة على نفي الإله! يقول الفيلسوف الأمريكيّ إدوارد فيزر: «فقد يكون الرجل متخصّصاً في علم الأحياء، إلّا أنّ ذلك لا يؤهّله لأبداء الرأي في المسائل الفلسفيّة، خصوصاً أنّ الأفكار التي اشتهر بنقاشها وتستند اليها سمعته ليست مسائل بيلوجيّة، وإنّما أفكار فلسفيّة بامتياز». الخرافة الأخيرة، ص176.

بل إنّ ملحداً مشهوراً مثل مايكل روس، كان أكثر صراحة بخصوص ذلك حين أرسل رسالة إلكترونيّة لزميله دانييل دانت ــ أحد زعماء ما يعرف بالإلحاد الجديد ــ تمّ فضحها لاحقاً، جاء فيها: «أعتقد أنّ كتابك الجديد سيّئ بالفعل ولا يليق بك .. وأعتقد أنّك وريتشارد دوكنز كارثتان أكيدتان في محاربة التصميم الذكيّ .. إن ما نحتاجه ليس الإلحاد المتهوّر، بل المواجهة الجادّة مع القضايا، ولا أحد منكما على استعداد على دراسة المسيحيّة، وفهم الأفكار بصورة جدّية»، المصدر السابق.

والخلاصة:

أنّ الحقيقة العلميّة قد يكون لها جانب يتعلّق بالأيدلوجيّة التي يؤمن بها الإنسان، ومراجعة رجال الدين لسؤالهم عن تأثير الاكتشاف العلميّ على هذه الأيدلوجيّة، وهل تنسجم معه أو تتقاطع.

بل ما حذّر منه دوكنز جعله يسقط به، فإذْ كان يطالب بالرجوع للمختصّين، فقد أقرّ أقرانه ــ الملحدون وغيرهم ــ أنّه من غير المختصّين في مناقشة الأفكار الدينيّة والفلسفيّة، في حين نجد أغلب كتبه تتعلّق بالجانب الفكريّ والفلسفيّ للحقائق العلميّة!!

ونختم بمقالة الفيلسوف السياسيّ جيرمي وولدرون حول المواقف التي يبديها الملحدون اتّجاه الحجج الدينيّة، إذْ قال: «غالباً ما يدّعي منظّرو العلمانيّة (الملحدون) بأنّهم يعرفون ماهية الحجج الدينيّة، فهم يقدّمونها كأنّها وصفة بسيطة من قبل الإله، مدعومة بالتهديد بنار جهنّم، ومستمدّة من الوحي العامّ أو الخاصّ، ويقارنونها مع التعقيد البديع لأحدى الحجج الفلسفيّة لرولز مثلاً أو دوركن. ومع هذه الصورة في الذهن يعتقدون أنّه من الواضح أنّ الحجّة الدينيّة ينبغي إقصائها من الحياة العامّة.. غير أنّ أولئك الذين تجشّموا العناء ليجعلوا أنفسهم على دراية بالحجج الموجودة التي تستند الى أساس دينيّ في النظريّة السياسيّة الحديثة يعلمون أنّه تصوير مشوّه للأمور». And Equality p 20,God, Lock.