هل الإِسْلامُ يَتَعَارَضُ مَعَ مُصْطَلَحِ الإِنْسَانِيَّةِ؟
الإِسْلَامُ المُحَمَّدِيّ: نَسْمَعُ مِنَ البَعضِ تَردِيدَ كلمةِ الإِنْسَانِيَّةِ حَتَّىٰ أَصبَحَتْ لديهِم مَبدَأً لا يَجوزُ تَجاوزُهُ بل أَصبَحت هِيَ المِحوَرَ فِي القَبولِ والرَّدِ، فَمَا هِيَ تَفسِيراتِكم لِهذهِ المُفردةِ؟ وهل صَالحُ التَّرويجِ لَهَا هكذا مع العِلمِ أَنَّنِي وَجدتُّ بَعضَهُم يُعَرِّفُ مَذهبَ الإِنْسَانِيَّةِ بأَنَّهُ " تَأْلِيهُ الإِنْسَانِ! ".
الأَخُ المُحتَرَمُ:
السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ ٱللهِ وَبَرَكَاتُهُ
كلمةُ الإِنْسَانِيَّةِ فِي مَعنَها البَسِيطِ تَستَهدِفُ الإِنْسَانَ بِوَصفِهِ قِيمَةً حَضَاريَّةً، إِلَّا أَنَّ مُصْطَلَحَ الإِنْسَانِيَّةِ كمَفهُومٍ فَلسَفِيٍّ يُعَدُّ مُفهُوماً إِشكالِيَّاً في حدِّ ذاتِهِ؛ وذلكَ بِسببِ التَّبَايُنِ في المُنطَلقاتِ الفَلسَفِيَّةِ، فَمُقارَبَةُ المُصْطَلَحِ دَلَالِيَّاً ومَفهُومِيَّاً يَخضَعُ لِلمَعانِي الَّتِي تُوَلِّدُها الأَنْسَاقُ الفَلْسَفِيَّةُ المُختَلِفَةُ، ويَبدُو أَنَّ بدايةَ تَكوُّنِ هذا المُصْطَلَحِ يَعُودُ إِلَىٰ الفَلْسَفَةِ الغَربِيَّةِ، فالكلمةِ الإِنجِلِيزِيَّةِ (Humanity) تُشيرُ إِلَىٰ جانبِ القِيَمِ فِي الإِنْسَانِ أَيْ أَنَّ الإِنْسَانَ هُو الكائنُ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِصِفَاتٍ أَخلاقيَّةٍ تَجعلُهُ مِحوَرَ الاهْتِمَامِ والتَّركِيزِ.
والفَلْسَفَاتُ الإِنْسَانِيَّةُ مُنذُ القِدَمِ كانت تَسعَىٰ إِلَى إِيجَادِ مَعنَىٰ لِلإِنْسَانٓ، فَٱعْتَقَدَ البَعضُ مِنها أَنَّ قِيمَةَ الإِنْسَانِ مَعرِفِيَّةٌ بحتَةٌ، بينَما ٱعْتَقَدَ البَعضُ الآخرُ بأَنَّ قِيمَتَهُ جَمَالِيَّةٌ أَو أَخلاقِيَّةٌ، وهكذا تَستهدِفُ كُلُّ فلسَفةٍ جانباً مِن جَوَانبِ الإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّ الطُّمُوحَ النِّهَائِيَّ الَّذِي كانَ يًسعَىٰ نَحوَهُ الجميعُ هُو الوُصولُ إِلَى الإِنْسَان الكاملِ القادرِ عَلَى إِبرازِ جميعِ إِمْكَانَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ.
وكانت هُناكَ دوافعُ مُتَعدِّدَةٌ؛ لِتُبَلْوِرَ مُصْطَلَحَ الإِنْسَانِيَّة، بَعْضَهَا سِيَاسِيَّاً نَتيجةَ حالةِ القَهرِ الَّتِي لَحِقَت بالإِنْسَانِ الأُورُبِّي في تلكَ القُرُونِ، وَبَعْضَهَا الآخرَ دِينِيَّاً بِوَصْفِهِ السُّلْطَةَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي تُشَرْعِنُ لِهذا الوَضْعِ المُزرِي، فَبَدَأَت حالاتُ التَّذَمُّرِ عَلَى الكَنِيسةِ الَّتِي اضْطَهَدَتِ الإِنْسَانَ فَترةً طَويلةً مِن الزَّمَنِ، فَعَلَتِ الأَصْوَاتُ الَّتِي تُنَادِي بِكرامةِ الإِنْسَانِ وقِيمتِهِ بَدَلَ قِيمةِ الَّلاهُوتِ الكَنِيسيّ، حَتَّى التَّدَيُّنِ الصُّوفِيّ الَّذِي يَستَهدِفُ الإِنْسَان رُوحِيَّاً لم يَعُدْ مَرغُوباً فيهِ؛ لِكَونِهِ يُعدِمُ ذاتيَّةَ الإِنْسَانِ لِصَالِحِ سُلطةٍ فَوقِيَّةٍ، كُلُّ ذلكَ كانَ مُبَرِّرَاً لِلكلامِ عنِ الإِنْسَانِ بِوَصْفِهِ حالةً مِحوَرِيَّةً، وعندَما جاءَ عَصرُ النَّهضَةِ الأُورُبِّيَّةِ تَضَاعَفَ الحِرَاكُ الإِنْسَانِيُّ وَبَدَأَت الفَلْسَفَةُ في جَعلِ العَقلِ كمِحوَريَّةٍ بَدَلَ المِيتَافِيزِيقَا اللاهوتية، فأصبح العقل هو الحَقيقةِ المُقدَّسةِ بوصفِهِ إِلهَ الإِنْسَانِ الَّذِي يَعيشُ معهُ عَلَى الأَرْضِ، وَبَدَأَ التَّأْكِيدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ قِيَمِ الطَّبِيعَةِ، بدلاً مِن قِيَمِ ما فوقَ الطَّبِيعَةِ، فركَّزت عَلَى الجَمَالِ وتَحَدَّثَت عن رُومَانْسِيَّةِ الإِنْسَانِ، وهكذا مَرَّ الفِكرُ البَشريُّ باتِّجَاهَاتٍ ونِزاعَاتٍ فَلسَفيَّةٍ إِلَى القَرنِ التَّاسِع عَشَرَ الَّذِي أَصْبَحَتْ فِيهِ الاتِّجَاهَاتُ العلميَّةُ والعَقليَّةُ المحدِّدَ الأَسَاسِ إِلَىٰ الطَّابِعِ الإِنْسَانِيّ عَلَى يَدِ [أُوجَست كُونت]، وفِي القَرنِ العِشرينَ ٱزدادَ الشُّعُورُ بالإِنْسَانِيَّةِ وخاصَّةً بعدَ الوَيلَاتِ الَّتِي سَبَّبَتْهَا الحُروبُ الدُّولِيَّةِ فَتَضَاعَفَ الإِحسَاسُ بِأَهَمِّيَّةِ التَّعَاونِ والسَّلمِ بينَ المُجتَمعاتِ وَبَدَأَت مُصطَلَحَاتٌ مِثلُ حُقوقِ الإِنْسَانِ والدِّيمُقْرَاطِيَّةِ والِّليبْرَالِيَّةِ والعِلمَانِيَّةِ تُرَوَّجُ بِوَصفِها تَكرِيسَاً لِقِيمَةِ الإِنْسَانِ بَدَلَاً مِن قِيمةِ الأَديَانِ.
كُلُّ ذلكَ يَدعُونا إِلَى التَّأَمُّلِ أَكثرَ في مُصْطَلَح الإِنْسَانِيَّةِ وإِعادَةِ مُقارَبتِهِ بالشَّكلِ الَّذِي لَا يَتَصَادَمُ مع مُرتَكَزَاتِنا الدِّينِيَّةِ؛ وذلكَ لِأَنَّ الإِنْسَانِيَّةَ قد رَوَّجَ لَهَا بالشَّكلِ الَّذِي يكونُ فيهِ الإِنْسَان بديلاً عنِ اللهِ، في حينَ أَنَّنَا نَفهَمُها بالشَّكلِ الَّذِي يجعلُ الإِنْسَانَ إِنْسَانَاً كُلَّمَا ٱرْتَبَطَ بٱللهِ تعالى، ويَبدُو أَنَّ الدِّينَ الكَنِيسِيّ بِمَفَاهِيمِهِ الرَّجٍعِيَّةِ هُو الَّذِي أَحدَثَ هذا الشَّرْخَ التَّأْرِيخِيّ بينَ الإِنْسَانِيَّةِ وبينَ الإِيمانِ بٱللهِ تعالى. والإِسلامِ كَدُينٍ يُمَثِّلُ حَالةً حَضَارِيَّةً؛ لِكَونِهِ مُتَفَاعِلَاً مع عَقلِ الإِنْسَانِ وطُمُوحاتِهِ الحَياتيَّةِ، فَقَد ذَكَّرٌ القُرآنُ مِرَارَاً بالعُقلِ، وَشَجَّعَ عَلَى التَّفكِيرِ وَجَعَلَ العِلْمَ قِيمَةً تَفَاضُلِيَّةً بينَ البَشَرِ، مُضَافَاً لِٱهْتِمَامِهِ بالقِيَمِ الأَخَلاقِيَّةِ والكَمَالَاتِ النَّفسِيَّةِ والجَمَالِيًّةِ فيهِ، فَتَحَدَّثُ عنِ التَّعُاونِ والتًّكافُلِ والإِحْسَانِ والرَّحمَةِ والعَدالةِ وغيرِ ذلكَ مِنَ القِيَمِ الَّتِي تُؤَهِّلُ الإِنْسَانَ فِي إِنْسَانِيَّتِهِ، وَعَلَيهِ فإِنَّ الإِنْسَانَ فِي القُرآنِ هُو المُخلُوقُ الَّذِي كَرَّمَهُ ٱللهُ وَجَعَلَ كَرَامَتَهُ مِحوَرَاً لِكَينُونَتِهِ وإِنْسَانِيَّتِهِ، قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (70 الإِسراء).
الخِلَاصَةُ: مُصْطَلَحُ الإِنْسَانِيَّةِ كمُصْطَلَحٍ يَهتَمُّ بِقِيمَةِ الإِنْسَانِ وكَرامتِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وإِنَّمَا الإِشْكالُ فِي مُقارَبَةِ الإِنْسَانِيَّةِ بالشَّكلِ الَّذِي يَكونُ فِيهِ الإِنْسَانُ مُنْفَصِلاً عنِ ٱلله مَصدَرِ كُلِّ كَمَالٍ وجَمَالٍ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ
اترك تعليق