هل شرّع الإسلام مبدأ الطبقيّة في القصاص؟

السؤال: كان القصاص قبل الإسلام يعتمد على الطبقيّة فإنْ كان القاتل من طبقة الأسياد والمقتول من طبقة العبيد فلا شيء على السيّد إنْ كان يملكه، أمّا إنْ كان ملك لغيره فيعوّضه بالمال. وبعد أنْ جاء الإسلام اقتبس نفس قانون القصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَى)؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب عن هذا السؤال من عدّة نقاط:

أوّلاً:

قامت عادات العرب في الجاهليّة على تحميل دم القتيل لجميع أفراد قبيلة القاتل، فيطالبون بثأره عند الجاني وعند غيره من أفراد قبيلته، الأمر الذي يؤدّي عادتاً إلى اشتعال الحروب وسفك الكثير من الدماء، ولا تزال هذه العادات موجودة في بعض المجتمعات العربيّة ذات الطابع القبليّ والعشائريّ، وفي المقابل ترى قبيلة الجاني نفسها مسؤولة عن الجاني ولذا تعمل على حمايته والدفاع عنه، إلّا إذا خلعته وتبرّأت منه وأعلنت ذلك على الملأ.

وعندما جاء الإسلام وضع حدّاً لهذا النظام الجائر، وأعلن أنّ الجاني وحده هو المسئول عن جنايته، وهو الذي يؤخذ بجريرته دون غيره، فقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 178]. فقدّمت هذه الآية معالجة لظاهرة الثأر التي كانت تفتك بالمجتمعات الجاهليّة، فعندما تشتدّ الخصومات بين القبائل ويشيع القتل بينها كانوا لا يقبلون إلّا قتل الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والشريف بالوضيع، وعندما جاء الإسلام وتحاكموا لرسول الله (ص) في هذا الأمر نزلت هذه الآية التي أقرّت مبدأ المماثلة والمساواة في القتل، قال الشعبيّ: "إنّ أهل الجاهليّة كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحيّ إذا كان فيه عزّ ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلّا حرّاً، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلّا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلّا شريفا ويقولون: القتل أوقى للقتل، فنهاهم الله عن البغي فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى.. الآية، وقال "ولكم في القصاص حياة" (تفسير القرطبي ج 2 ص 245).

 والمتدبّر في الآية يجد أنّها تعمل على إشاعة السلام وتكريس ثقافة الحياة على ثقافة الموت، فتحدّثت الآية عن العفو كخيار يشيع المودّة والرحمة بين الناس، كما تحدّثت عن القصاص كحكم يحافظ على الحياة من خلال ردع الجناة وحرمانهم من أيّ سلطة تحميهم وتدافع عنهم، وقد أكّد الشارع المقدّس على الحِكمة من هذا الحكم بقوله تعالى: (ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة)، فالحكم الذي جاء في أوّل الآية هو توجيه لمن اختار القصاص على العفو، فيقتل الحرّ إذا قتل حرّاً، ويقتل العبد إذا قتل عبداً، وتقتل المرأة إذا قتلت امرأة, والآية في حدود ما يظهر منها تبيّن حكم النوع إذا قتل نوعه، أيْ حكم الحرّ إذا قتل حرّاً، والعبد إذا قتل عبداً، والأنثى إذا قتلت أنثى، قال تعالى في آية أخرى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، ويستفاد عدم قتل الحرّ بالعبد من بعض الروايات الصحيحة التي منعت ذلك وسنشير إليها لاحقاً.

ثانياً:

ما نحاول القيام به في هذه الاجابة هو معرفة الحِكمة العامّة التي منعت من قتل الحرّ بالعبد، ولا يمكن أن ندّعي الوقوف على العلّة التامّة التي قام التشريع من أجلها، فكلّ ما نفعله هو فهم الحكم ضمن السياق التاريخيّ والظرف الموضوعيّ الذي وجد فيه هذا الحكم، فالإشكال الذي نتج في ذهن السائل يعود إلى محاكمته لثقافة المجتمع قبل أربعة عشر قرن بثقافة العصر الحاضر، ومن الصعب على المسلم المعاصر تفهّم تلك الأحكام؛ وذلك لوجود تباين ثقافيّ واجتماعيّ كبير بين المرحلتين، فقد تكون الحِكمة من ذلك التشريع واضحة في تلك الفترة التاريخيّة إلّا أنّها غامضة بالنسبة لهذا العصر، ويزداد الأمر صعوبة إذا انتفى الحكم تماماً في العصر الحالي، فالحكم الشرعيّ كما هو معلوم يدور مدار الموضوع وجوداً وعدماً، فإذا أنعدم الموضوع ينعدم الحكم الخاصّ به بالضرورة، ومن هنا فإنّ كلّ الأحكام التي لها علاقة بالرقّ والعبيد لا تنطبق على الواقع المعاصر لعدم وجود موضع لها بالأساس، ومن أجل ذلك قد يصعب فهمها للمسلم المعاصر.

 وقد أشرنا في إجابة سابقة إلى أنّ الإسلام لم يأتِ بظاهرة العبيد إلى الوجود، وإنّما كانت ظاهرة متجذّرة في المجتمع، وعليه لم يعمل الإسلام على تأسيس هذه الظاهرة وإخراجها إلى الوجود، بل عمل على معالجتها ولكن بشكل تدريجيّ واستراتيجيّ، إذْ أوجد الحدود والضوابط التي تستدرك ما يمكن استدراكه من مظالم، فرفع من قدر العبيد وساوى بينهم وبين أسيادهم في الحقوق الإنسانيّة، وأوجب على المالك إطعامهم ممّا يطعم به عياله وعدّهم من أهل بيته وجزءاً من عائلته، فحرّم الضرب أو الإضرار أو الإهانة، وضَمِنَ للعبيد حريّة الفكر والعقيدة بعد أن كانوا في حالة من الاحتقار والذلّة، ولذلك قال الكفّار من السادة (إنّ محمّداً قد أفسد علينا عبيدنا وساوى بيننا وبينهم).

ولو قدّر لمنظمات حقوق الإنسان أن تعيش في ذلك العصر ووكّل لها محاربة ظاهرة الرقّ والعبيد لما تمكّنت من تغيير ذلك بمجرد سنّ القوانين الرادعة، وإنّما تطلّب منها ذلك الكثير من المرونة بغرض التغيير التدريجيّ لثقافة المجتمع، وهذا ما قام به الإسلام، فمن المؤكّد أن تغيير النمط الحياتي للمجتمع يحتاج إلى تدرّج من نوع خاصّ يستهدف البنية الثقافيّة المتحكّمة فيه، ولذا عمل الإسلام على تأسيس بنية تحتيّة لثقافة المجتمع تفضي في خاتمة المطاف إلى تخلّيه عن ظاهرة الرقّ والعبيد نهائياً، والذي يبدو أنّ السائل كأنّما يريد أن يحرّم الإسلام الرقّ في أوّل أيّامه من خلال إصدار مرسوم يحظره، جهلاً منه بالطبيعة المعقّدة لتركيبة المجتمعات وكيفيّة التعامل معها، فالتغيير الجذريّ للظواهر السلبيّة يتطلّب معالجة جذريّة تحفر عميقاً لتبديل الأساسات وتعديل الأصول، ولا يمنع ذلك من وضع قوانين أوّليّة تستدرك بعض المظالم وتردّ بعض الحقوق إلى حين حدوث التحوّل الكبير في المجتمع.

ومن كلّ ذلك يمكننا أن نقول: إنّ الإسلام لا يقرّ الطبقيّة فحسب وإنّما يعمل على التخلّص منها من خلال تأسيس ثقافة مجتمعيّة تقوم على جعل البشر جميعاً عبيداً لله وحده، والمتدبّر في القرآن يجد الاهتمام الكبير بشأن الطبقات الضعيفة في المجتمع مثل الفقراء والمساكين والأيتام وغيرهم، وهو ممّا يدلّل على اهتمام الإسلام بتقوية المجتمع وسدّ كلّ ثغراته الاجتماعيّة، ومن هنا نجد أنّ الإسلام شجّع على عتق العبيد وجعل ذلك سبباً للعتق من النار، كما ربط الكثير من الكفّارات بعتق الرقبة، كلّ ذلك يؤكّد على اهتمام الإسلام بالمجتمع، والارتقاء به ليتخلّص من نقاط ضعفه وقصوره.

ثالثاً:

جاء في الفقه الإسلاميّ عند الشيعة والسنّة أنّ السيّد إذا قتل مملوكه لا يقتل به، وإنّما يضرب مائة ضربة شديدة ويحبس وتؤخذ منه قيمة العبد ويتصدّق بها على الفقراء أو تدفع لبيت مال المسلمين، ويختصّ هذا الحكم بمن لم يتكرّر منه قتل عبيده، أمّا إذا اعتاد على ذلك فحكمه القتل سواء قتل عبداً أو أمة، ففي الرواية عن يونس عنهم (عليهم السلام) قال: سئل عن رجل قتل مملوكه؟ قال: "إنْ كان غير معروف بالقتل ضُرب ضرباً شديداً، واُخذ منه قيمة العبد، ويُدفع إلى بيت مال المسلمين، وإن كان متعوِّداً للقتل قتل به"(الوسائل، ج 29 ص 95)، وفي رواية الفتح بن يزيد الجرجانيّ عن أبي الحسن (ع) في رجل قَتَل مملوكه أو مملوكته، قال: "إنْ كان المملوك له، أُدِّب وحُبس، إلّا أن يكون معروفا بقتل المماليك، فيُقتل به"(الوسائل ج 29 ص 94).

وقد ابتنى هذا الحكم - كما هو الظاهر - على إقرار الإسلام لما هو موجود في المجتمع آنذاك من امتلاك السيّد للعبد، وإذا كان السيّد مالك لعبده فمن الطبيعيّ أن لا يقتل المالك بالمملوك، ومن هنا إذا قدّر للسائل أن يكون في ذلك المجتمع وكان متشبّعاً بتلك الثقافة فإنّ موقفه سيكون مخالفاً لموقفه الحالي، بل سيرفض صريحاً قتل الحرّ بالكافر، وعليه يجب أنْ نفهم التشريعات ضمن سياقها الاجتماعيّ والثقافيّ الذي وجدت فيه، ولا يجوز محاكمتها بخلفيّة اجتماعيّة وثقافيّة اجنبيّة بعيداً عن الظرف الذي وجدت فيه التشريع، وكما بيّنا أنّ الإسلام أقرّ بتلك الملكيّة دون أن يوجدها ومن ثمّ عمل على التخلّص منها تدريجيّاً، فكيف يتّهم الإسلام بعد ذلك بالطبقيّة؟