ذِكرُ بيتِ اللهِ الحرام ومكّة المكرّمة في الكتاب المقدّس..!.

السؤال: إذا كان الإلهُ الذي أَنزلَ القرآنَ هو نفسُه مَن أَنزلَ التوراةَ والإنجيلَ ، فلماذا لم توجدْ إشاراتٌ مباشرةٌ إلى الكعبةِ كمكانِ عبادةٍ ، أو كرمزٍ دينيٍّ في الكتابَين - التوراة والإنجيل - مثلَما في القرآنِ رغمَ أنَّهما مِن نفسِ المصدر ، ورغمَ وجودِ الكعبة منذُ عهدِ إبراهيمَ..؟ ، لماذا يُعِيرُ الإلهُ اهتماماً مفاجئاً بالكعبةِ التي كانت رمزاً للوثنيةٍ أصلاً..؟!. .

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. ، الأخ السائل الكريم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. في بادئ الأمر، لا بدّ من التنبيه على كثرة المغالطات المنطقيّة التي وقعتم فيها، وسأذكر أهمّها؛ حرصاً على ترك مجال للإجابة عن سؤالكم، وكما يلي:

1- ارتكبتم في مطلع السؤال مغالطة المصادرة على المطلوب، فإنّ قولكم: (إذا كان الإله..) ملغوم بالتشكيك في وحيانيّة القرآن الكريم وأنّه كتاب سماويّ أم لا، وقد جعلتم المعيار في معرفة ذلك هو وحدة المضمون بينه وبين ما في الكتب السماويّة السابقة – التوراة والإنجيل – وهذه ضابطة فاسدة تماماً ؛ إذ لو صحّتْ لوجبت وحدة المضمون بين جميع الكتب السماويّة ؛ لأنّها جميعاً من نفس المصدر..! ، وحينئذٍ يكون نسخ أيَّ شريعة منها ، نسخاً لجميع الشرايع الأخرى ؛ لأنّ مضمونها واحد..!.

2- ومن لوازم كلامكم أيضاً مغالطة القسمة الثنائيّة، إذْ يؤسّس ما ذكرتموه لقاعدة مفادها أنّ المقدّس هو ما يكون مذكوراً في التوراة والإنجيل، وإلّا فلا قدسيّة له أبداً، وعلى هذا يجب أن تذكر التوراة جميع مقدّسات النصارى من المدن كأنطاكية وأفسس وروما ، وكذلك الكنائس المهمّة مثل "كنيسة القيامة" و"كنيسة المهد". كما يلزم نفي القدسيّة عن مريم وابنها "عليهما السلام" ؛ لأنّ البشارة التي في التوراة لا تنطبق عليهما - بحسب مزاعم اليهود - ، وكذلك يلزم عدمُ قدسيةِ عقيدةِ التوحيد ؛ لأنّ التوراة والإنجيل – أعني الحاضرين – يناديان بالشرك واعتقاد أُبوّة الله تعالى لبعض ملائكته وأنبيائه أيضاً، قال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30 ، كما وانظر معنى "بنو إلوهيم" في التوراة سفر التكوين الإصحاح6 النصّ2-4 ، وسفر أيوب الإصحاح1 النصّ:6 ، وكذلك انظر معنى "ابن الله" في الأناجيل: يوحنا 3:18 , متى 4:3 , مرقس 3:11 , لوقا 4:3].

3- ومغالطة ثالثة صريحة ارتكبتموها، وهي الإحالة على مجهول - أو الاحتكام إلى الجهل - عندما فرضتم مرجعيّة التوراة والإنجيل في إثبات قدسيّة مكّة والبيت الحرام ؛ إذْ لا يخلو الأمر من أنّكم إمّا أردتم التوراة الإنجيل الأصليّين ، وإمّا أردتم الكتابَين الموجودَين منهما حاليّاً، فأمّا الأصليّين فلا وجود لهما اليوم، وبالتالي فالحقيقة فيهما مجهولة، فكيف علمتم بعدم ذكر مكّة فيهما..؟!. وأمّا التوراة والإنجيل الموجودين اليوم ، فهما كتابان محرّفان ، فقد جاء في سفر إرمياء: {كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ حُكَمَاءُ وَلَدَيْكُمْ شَرِيعَةَ الرَّبِّ بَيْنَمَا حَوَّلَهَا قَلَمُ الْكَتَبَةِ المُخَادِعُ إِلَى أُكْذُوبَةٍ؟}[إرمياء ، الإصحاح 8: 8]، وجاء أيضاً: {أَمَّا وَحْيُ الرَّبِّ فَلاَ تَذْكُرُوهُ بَعْدُ ؛ لأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ تَكُونُ وَحْيَهُ إِذْ قَدْ حَرَّفْتُمْ كَلاَمَ الإِلَهِ الْحَيِّ رَبِّ الْجُنُودِ إِلَهِنَا..!.}[إرمياء ، الإصحاح 23: 36]..!. وقد اعترف رجال الكنيسة بتحريفهما صريحاً. [انظر مقدّمة الكتاب المقدس للآباء اليسوعيّين:1- 4 ، وانظر العشرات من موارد التحريف في كتاب "هل العهد القديم كلمة الله..؟" وكتاب "هل العهد الجديد كلمة لله..؟" للدكتور منقذ السقّار ، وكتاب "الكلمات المقدّسة" للدكتور نور الدين أبو لحية] ، وبالتالي فهما لا يمثّلان وحي السماء ، فكيف يصحّ الرجوع إليهما في موضوعنا..؟!.

وأمّا بالنسبة إلى جواب سؤالكم فهو يتّضح من خلال بيان الأمور التالية:

أوّلاً: يتوالى وقوعكم في مغالطة المصادرة على المطلوب، عندما افترضتم أنّ عدم ذكر مكّة صريحاً في الكتاب المقدّس هو أمر مُسَلّم به ، وهذا ادّعاء باطل ؛ فلو راجعتم تراجم الكتاب المقدّس ، وقاموس ألفاظه لوجدتم ذكر مكّة والبيت الحرام ، إمّا بالاسم الصريح ، أو بذكر أوصافهما ، وإليك بعض تلك الموارد:

أ- لا يخفى عليكم أنّ من أقدم وأفضل وأصحّ ترجمات الكتاب المقدّس (من العبريّة إلى العربيّة) هي ترجمة الفيلسوف والحاخام اليهوديّ سعيد الفيّوميّ الشهير بــ «سَعْدِيا جاؤون» (268 هـ /330 هـ) ، ولا تزال ترجمته للعهد القديم ذات قيمة استثنائية عند علماء اليهود والنصارى [انظر الموسوعة البريطانيّة عن سيرته ومنزلته وأهمّية ترجمته عند اليهود ، وللمزيد انظر أيضاً موقع تنويري على الرابط التالي: https://2u.pw/SMxnr6zh ] ، وقد جاء سفر التكوين من ترجمته ذكر مكّة صريحاً في النصّ التالي: { وكان مسكنهم من مكّة إلى أن تجيء إلى المدينة إلى الجبل الشرقيّ}[انظر تفسير التوراة بالعربيّة لسعديا: سفر التكوين ، الإصحاح العاشر، النصّ 30].

ب- في النسخة الإنجليزيّة للكتاب المقدّس نجد ذكر اسم (وادي بكّة) صريحاً في النص التالي:

{As they go through the Valley of Baca they make it a place of springs; the early rain also covers it with pools}[سفر المزامير، الإصحاح84، النصّ6]، وترجمته هي: {إذا مرّوا بوادي بكا جعلوا منه ينابيع وباكورة الأمطار تغمرهم بالبركات} والمراد منه وادي مكّة كما في نسخة كامبريدج الإنجليزيّة للكتاب المقدّس للمدارس والكلّيات.[انظر ذلك في تفسير النسخة المذكورة، وكذلك في تعليق "كايل وديليتش" على العهد القديم في الرابط التالي: https://biblehub.com/commentaries/psalms/84-6.htm ]، ولا يخفى عليكم أنّ (بكّة) هو الاسم القديم لمكّة ، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96].

وهنا ألفت نظركم إلى أنّ لفظ (Baca) الوارد في النصّ المتقدّم هو اسم علم فاللازم بقاؤه عند الترجمة كما هو ، لكنّ اليهود حرّفوا ترجمته إلى {وادي البلسان ، أو شجر البُكا ، أو وادي البُكاء}، وعلى فرض التسليم بالمعاني المذكورة فإنّها لا تُخرج الكلمة عن دلالتها على مكّة المكرّمة ؛ لأنّ هذه المعاني هي ذكر لمكّة ببعض أوصافها كما جاء في قاموس الكتاب المقدّس..! ؛ فقد جاء فيه: (( شجر البُكا: ربّما يُقْصَد به "شجر البلسم" أو ما يشبهه، ففي بلاد العرب، قرب مكّة شجر بهذا الاسم، يشبه "شجر البلسم" أو "البلسان"، وله عصارة بيضاء لامعة..!.))[انظر معنى شجر البكا في القاموس المذكور]، وعن تجارة البَلَسان أو البلسم جاء فيه: ((.... وذُكر في الكتاب أنّ الإسماعيليّين الذين اشتروا يوسف كانوا حاملين بلسانًا معهم إلى مصر..!.)) [انظر مفردة البلسان فيه] وعن موطن الإسماعيليّين جاء فيه: ((الإسماعيليّون: وهم نسل إسماعيل بن إبراهيم من أَمَتِهِ المصريّةِ هاجر، وقد ورد في [تك 17: 20؛ 25: 12- 16] أنّه كان لإسماعيل اثنا عشر ابناً صاروا أمراء ورؤساء قبائل. وقد كانت هذه القبائل تسكن الجزء الشماليّ من شبه جزيرة العرب على حدود فلسطين وأرض ما بين النهرين [تك 25: 18] ))[انظر الإسماعيليين فيه].

ج- ورد في نبوءة حجّي:{7. فإنّه هكذا قال ربُّ القوات: بعد وقت قليل أزلزلُ السماءَ والأرضَ والبحرَ واليابسةَ. 8. وأزلزلُ جميعَ الأمم، وتأتي نفائسُ جميعِ الأممِ ، فأملأ هذا البيت مجداً ، قال ربُّ القوات. 9. لي الفضةُ ولي الذَّهبُ، يقول ربُّ القوات. 10. وسيكون مجدُ هذا البيتِ الأخيرِ أعظمَ مِن الأوّل، قال ربُّ القوات. وفي هذا المكان أُعْطِي السلام، يقول ربُّ القوات}[الكتاب المقدّس، نبوءة حجّي، الفصل2، النصوص: 7 - 10]. ومن الواضح أنّه ليس لليهود أو النصارى مكان يأتيه نفائس الناس من كلّ أصقاع الأرض وبلدانها ، وتلتقي فيه مختلف الأمم والأعراق والقوميات، وأيضاً ليس لديهم مكان له صفة "السلام" - أي الأمن - على مرّ التاريخ..؟!، وإنّما هو ثابت فقط لقبلة المسلمين الكعبة المشرّفة، قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحجّ:27]، وقال عزّ وجلّ {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ}[البقرة:126]،وقال جلّ وعلا: { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ...}[القصص:57].

ثانياً: لو سلّمنا جدلاً بعدم ذكر مكّة في الكتاب المقدّس فإنّ ذلك لا يضرّ ؛ لأنّ الذي جدّد بناء الكعبة بعد طوفان نوح "عليه السلام" ودعا الناس إلى الحجّ هو إبراهيم الخليل "عليه السلام"، وهو لم يكن على اليهوديّة أو النصرانيّة وإنّما كان على الإسلام ،قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران: 67]، فكان من الطبيعيّ اختلاف شريعته عن الشريعتين اليهوديّة والنصرانيّة ؛ وعليه فلا يلزم ذكر التوراة والإنجيل لما يختلف عن شريعتيهما.

أمّا ثالثاً وأخيراً: فإنّ قولكم عن مكّة بأنّها: (( كانت رمزاً للوثنيّة أصلاً..!)) ، يكذّبه ما تقدّم من تصريح القرآن بأنّها أوّلُ بيتٍ مقدّسٍ وُضع للناس على الأرض ؛ ولو لم تكن كذلك لما دعا إبراهيمُ "عليه السلام" الناسَ للحجّ إليها. من جهة أخرى فقد أجمع المؤرّخون على أنّ دخول الأصنام إليها جاء في وقت مـتأخّر جدّاً عن زمان بنائها ، وتحديداً قبل الإسلام بحوالي (170) عاماً ، إذْ أدخلها عمرو بن لُحَيّ الخزاعيّ - سيّد مكّة آنذاك - ، فغَيَّرَ دينَ أهلها من الحنيفيّة والتوحيد إلى الشرك وعبادة الأصنام ؛ ولذا كان يُكنّى بأبي الأصنام. ختاماً هذا ما وفقّنا الله لتحريره بإيجاز في المقام، ونسأله تعالى الهداية لنا ولكم..، ودمتم سالمين.