حديث: «فمَن أغضبها فقد أغضبني» سنداً ودلالةً
السؤال: ما هي صحّة الحديث القائل بأنّ الله ورسوله (ص) يغضبان لغضب فاطمة ويرضيان لرضاها؟ وإذا صحّ فعلى ماذا يدلّ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ السائل الكريم، إنّ الكلام عن حديث الرضا والغضب المذكور في السؤال يقع في مقامين:
المقام الأول: ألفاظ الحديث ومصادره:
ورد هذا الحديث في المصادر المعتبرة للفريقين بألفاظ مختلفة وطرق متنوعّة، نذكر بعضاً منها:
1ـ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بضعة منّي، فمَن أغضبها فقد أغضبني». [ينظر: صحيح البخاريّ ج4 ص201، مصنف ابن أبي شيبة ج7 ص526، الآحاد والمثاني ج5 ص361، خصائص أمير المؤمنين ص121، فضائل الصحابة ص78، السنن الكبرى ج5 ص97، وغيرها].
2ـ قوله (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): «إنّ الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ». [ينظر: الذرية الطاهرة ص167، المستدرك ج3 ص154، المعجم الكبير ج1 ص108، ج22 ص401، تاريخ دمشق ج3 ص156، أمالي للصدوق ص467، دلائل الإمامة ص146، أمالي الطوسيّ ص427، وغيرها]. قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وحسّن إسناده الهيثميّ والصالحي الشاميّ [ينظر مجمع الزوائد ج3 ص587، سبل الهدى والرشاد ج11 ص44].
3ـ قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها». [كنز العمال ج12 ص111، عيون أخبار الرضا ج2 ص51، أمالي المفيد ص95، بشارة المصطفى ص324، معاني الأخبار ص303].
4ـ قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّ فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها». [ينظر: المعجم الكبير ج22 ص405، الآحاد والمثاني ج5 ص362، أمالي الأصفهانيّ ص47، تاريخ دمشق ج3 ص156، وغيرها].
5ـ قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّ فاطمة شُجنة منّي، ويُغضبني ما أغضبها، ويبسطني ما يبسطها». [ينظر: المعجم الكبير ج22 ص405].
هذه أبرز ألفاظ الحديث، ولا حاجة لبسط الكلام عن أسانيده بعد وروده في مصادر معتبرة وبطرق موثوقة، فالحديث في نفسه ومضمونه لا خلاف فيه بين جميع المذاهب على الإطلاق.
المقام الثاني: دلالات الحديث ومعانيه:
لا شكّ في دلالة هذه الأحاديث ونظائرها على بلوغ مولاتنا فطمة (عليها السلام) مرتبة الفناء في ذات الله عزّ وجلّ ونكرانها لذاتها حتّى لم يَعُد لها رضا إلّا بما يرضي والله ورسوله ولا غضب إلّا فيما يُغضبهما، ويستفاد من الحديث جملة من الأمور:
1ـ دلالة هذا الحديث على اصطفاء الله تعالى لها (ع):
لقد كان المسلمون في الكثير من أفعالهم وأقوالهم يتبيّنون رضا الله بها أو غضبه منها من خلال ما يظهر على وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمتى رأوا عليه علامة الغضب قالوا عبارتهم المشهورة: (نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله)، ولهم في ذلك حوادث عديدة [ينظر: مسند أحمد ج3 ص107، سنن الترمذي ج3 ص124، المستدرك ج3 ص626].
فإذا عرفت ذلك، فإنّ هذه الأحاديث كاشفة - بكلّ وضوح - عن اصطفاء الله تعالى لمولاتنا فاطمة (عليها السلام) وانتجابها وتفضيلها وتقديمها على نساء العالمين بأنْ جعلها بمنزلة البشير النذير في تبيُّن واستكشاف رضاه ورضا رسوله (صلّى الله عليه وآله)، أو غضبهما من خلال رضاها وغضبها، وبالتالي يكون وجودها الأقدس (عليها السلام) كوجود أبيها (صلّى الله عليه وآله) بأنّها رحمة للعالمين كما كان رحمة لهم؛ إذ ربّما سقط الإنسان بسبب قوله أو فعله في دائرة الغضب الإلهيّ وهو لا يعلم فيمضي في طريق الغيّ والخسران وهو يحسب أنّه على خير، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103–104]؛ فلذا اختار الله فاطمة (عليها السلام) وجعلها بمنزلة أبيها في هذه الخصّيصة، وفي ذلك دلالة على عظيم منزلتها (عليها السلام) وعلى سموّ شخصها (عليها السلام)، وعلى قرب مقامها من الله تعالى، بنحو فاقت فيه جميع نساء العالمين ففُضّلت عليهنّ في ذلك، وإلى هذا الاصطفاء يرشد قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «يا عليّ، إنّ الله تعالى أشرف على الدنيا فاختارني على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الثالثة فاختار الأئمّة من ولدك على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين» [ينابيع المودّة ج2 ص274، مودّة القربى ص41].
2ـ دلالته على عصمتها (ع):
وذلك لأنّ الحديث يثبت التلازم بين غضبها (عليها السلام) وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله، وهذه الملازمة تُثبت عصمتها؛ إذ لـو لَـم تكن معصومة لحصل الانفكاك بين غضبها وبين غضب الله تعالى فيما لو غضبت على شخصٍ لا يغضب الله عليه، أو فيما لو غضبت على مَن يرضى الله عليه. ويمكن مراجعة جواب سابق بعنوان: (هل حديث: «رضا الله لرضا فاطمة» دليل على عصمتها؟)، وجواب آخر بعنوان: (أدلّة العصمة للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء).
3ـ دلالته على سعة علمها (ع):
إنّ في هذه الأحاديث دلالة واضحة على سعة علمها (عليها السلام) بنحو ينكشف لها معه الحُجُبَ عن ملكوت الله نظير انكشافها لأبيها إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام: 75]؛ لذا فهي لا تغيب عنها الحقائق ولا تشتبه عليها الوقائع، بل إنّها (عليها السلام) تراها وتعلم بها كما هي في علمه تعالى، وإلّا فلو كانت الحقائق تغيب عنها والوقائع تشتبه عليها - وحاشاها من ذلك - فلربّما رضيت عمّن لا يستحق رضا الله أو غضبت على من لا يستحق غضبه، وحينئذٍ يَقبُح في الحكمة والعدل الإلهيّين أن يقرن الله تعالى رضاه برضاها وغضبه بغضبها، كما يلزم أيضاً من قرن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لغضبه ورضاه بها (عليها السلام) منافاته لعصمته حينئذٍ.
4ـ دلالته على أنّها (ع) مع الحقّ والحقّ معها:
فالأحاديث الشريفة ترشد بوضوح إلى كون فاطمة (عليها السلام) معيار الحقّ، وبها يُستكشف ذلك وخصوصاً في الفتن الكبرى، وأهمّها تلك الفتنة التي عصفت بالأمّة بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئه عزّ وجلّ، وهذا أمر واضح؛ إذ لو تكن مولاتنا فاطمة كذلك فلربّما رأت الحقّ باطلاً فرضيت به أو الباطل حقّاً فغضبت منه، وحينئذٍ يترتّب على قرن رضاهما وغضبهما برضاها وغضبها ما ترتّب في الفقرة السابقة من لوازم فاسدة، حيث المنافاة للعدل والحكمة الإلهيّين، وكذا للعصمة النبويّة.
5ـ دلالته على أنّها (ع) قسيمة للجنّة والنار:
وذلك لأنّ كلّ من أغضبها (عليها السلام)، يكون قد فارق نور الهداية وانغمس في بحر الضلال، وخرج عن واسع الرحمة الإلهيّة إلى حيث الغضب الإلهيّ. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، أي هوى في جهنّم لقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 8-11] فالهاوية اسم لجهنم لأنّها محل سقوط المذنبين وهويهم فيها، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى عمق نار جهنم [ينظر: تفسير الأمثل ج20 ص413].
وببيان آخر: فإنّ مَن أغضبها وآذاها تترتّب عليه ذات العواقب التي تترتّب على الذي يُغضب ويُؤذي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد ذكرها القرآن الكريم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، وكذلك قوله (صلّى الله عليه وآله): «مَن آذاني في عترتي فعليه لعنة الله» [جواهر العقدين ج2 ص258، الصواعق المحرقة ص240]. فإنّ اللعن في الدنيا هو طرد الإنسان وإبعاده من الهداية إلى الحقّ والوصول إلى حقيقة الإيمان والتوفيق إلى العمل الصالح، وأمّا في الآخرة فهو طرده وإبعاده من رحمة الله ومغفرته ورضاه عزّ وجلّ [ينظر: تفسير الميزان ج16 ص339]؛ لذا يكون مصيره صاحبه العذاب الأليم كما هو صريح الآية السابقة وغيرها من الآيات كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
وقد روى البخاريّ وأحمد عن عائشة مسألة انتزاع الخليفة الأوّل لفدك من الزهراء (عليها السلام) فقالت: «فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى تُوفِّيت» [صحيح البخاري ج4 ص42، مسند أحمد ج1 ص6]، فتدبّر جيّداً.
هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق