هل الشقاء جزء من طبيعة الإنسان المخلوقة؟

السؤال: هل وُلد الإنسان المذكور في القرآن كائناً شقيّاً، ممّا يعني أنه مُقدر له أن يعيش في شقاء دون اختيار منه، أم أنه هو من صنع شقاءه بقراراته وأفعاله؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

الشقاء في القرآن يرتبط بعاقبة أفعال الإنسان ونتيجة اختياراته، ولا يعبّر عن طبيعة الإنسان عند خلقه، فالله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهيّأ له السبل للاختيار بين الخير والشرّ. قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وهذا يدلّ على أنّ الله خلق الإنسان على هيئة تكامليّة وصلاح فطريّ، وليس على هيئة شقاء.

وعندما يصف الله الشقاء في القرآن نجده يربطه بنتائج الأعمال، لا بطبيعة مفروضة على الإنسان مثل قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: 123ـ124]. وعليه فالشقاء في القرآن الكريم ليس طابعاً ملازماً للإنسان منذ لحظة خلقه، وإنّما هو نتيجة اختياراته وأفعاله.

ففي المنظور القرآنيّ الإنسان كائن مركّب من عقل وشهوة، والعقل هو مركز القوّة والتمييز الذي يُمكّن الإنسان من إدراك الحقّ والتسامي فوق الهوى والأنانيّة، فبالعقل يستطيع الإنسان التحكّم في ميوله وتوجيه نفسه نحو الصلاح، فيصبح أداة لبناء حياة سعيدة قوامها العدل والرحمة وكلّ قيم الفضيلة. وفي المقابل تمثّل الشهوة مركز ضعف الإنسان، ومن خلالها تتجلّى النزعات الأنانيّة التي تدفع الإنسان نحو الطمع والحسد وارتكاب الرذائل، ولا يعني ذلك أنّ الشهوة بذاتها شرّ مطلق، وإنّما الشرّ هو الانقياد إلى الشهوة دون أيّ ضوابط أخلاقيّة وقيميّة. فهذه الثنائيّة بين العقل والشهوة هي التي تشكّل طبيعة الإنسان وتحدّد مسار حياته.

وقد أشار القرآن بوضوح لهذا التقابل في طبيعة الإنسان، فأمر بالعقل وشجّع على اتّباعه، ونهى عن الهوى وحذّر من اتّباعه، فالعقل والنفس في القرآن الكريم يمثّلان قوّتين مختلفتين. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات: 40ـ41]، وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وقال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدوابّ، فإنْ لم تعقل حارت» [تحف العقول ص15].

والإنسان بإرادته واختياره مسؤول عن اتّباع طريق العقل والهدى أو اتّباع طريق الهوى والضلال، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7: 8]، فهذا الإلهام يعني أنّ الله قد بيّن للإنسان طريق الخير والشرّ، وترك له أن يختار مساره. والذي يؤكّد مسؤوليّة الإنسان في اختيار أحد الطريقين هي الآيات التي جاءت بعد هذه الآيات مباشرة، وهي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9ـ10].

فالإنسان - إذنْ - ليس مسيّراً نحو الشقاء، وإنّما هو بنفسه من يصنع مصيره بقراراته، فإذا اختار طريق التقوى وطهّر نفسه من الشهوات، فإنّه يحقّق السعادة والارتقاء، أمّا إذا استسلم لميوله وترك نفسه دون تهذيب، فإنّه يقع في الشقاء.

وعليه، فإنّ الشقاء ليس قدراً محتوماً على الإنسان، بل هو نتيجة طبيعيّة لتجاهل العقل والانصياع للأهواء، والإرادة الحرّة التي منحها الله للإنسان هي التي تشكّل نمط حياته، فبها يختار الإنسان أن يكون سعيداً أو شقيّاً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].

ويمكن القول في المحصّلة: إنّ طبيعة الإنسان ليست قائمة على الشقاء في أصلها، بل هي مزيج من قوّتين متعارضتين: العقل، الذي يمثّل مصدر الخير والسعادة، والشهوة، التي تشكّل منبع الشرّ والشقاء. وبين هاتين القوّتين، تلعب الإرادة البشريّة الدور الحاسم في توجيه مسار الإنسان وتحديد مصيره. لذا فإنّ الشقاء ليس أمراً محتوماً أو قدراً مفروضاً، بل هو نتيجة طبيعية لاختيارات الإنسان وأفعاله. والحمد لله ربّ العالمين.