هل هناك تناقض بين صلح الحسن (ع) وحرب الحسين (ع)؟

السؤال: تظهر التناقضات في أقوال الأئمّة ومواقفهم، ومن أبرزها موقف الحسن والحسين رضي الله عنهما من مسألة القتال. فقد اختار الحسن رضي الله عنه عدم القتال رغم كثرة أنصاره وقوّتهم، وتنازل عن الخلافة، بينما قرّر الحسين القتال رغم قلّة أنصاره وضعفهم. فإذا كان ما قام به الحسن هو الصواب والحقّ، فإنّ ما فعله الحسين يصبح باطلاً وخطأ. وعلى العكس، إذا كان ما قام به الحسين هو الحقّ والواجب، فإنّ تصرّف الحسن يصبح باطلاً. وهذا يؤدّي إلى نتيجة مفادها بطلان العصمة في كلا الحالتين.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

من اللافت للنظر أنّ الذين يروّجون لهذا الادّعاء يغفلون عن الالتزام بقواعد التفكير المنطقيّ ويتجاهلون التعقيد المتأصّل في المواقف التاريخيّة. وكيف يمكن للاصطفاف الطائفي أن يعمي عقولهم عن التعامل الموضوعيّ مع مواقف الأئمّة (عليهم السلام)؟ إذْ يبدو أنّ هؤلاء لم يجدوا في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ما ينقض عصمتهم أو يشكّك في مكانتهم، فلجأوا إلى مغالطة كبيرة عندما وضعوا صلح الإمام الحسن (ع) في قبال قيام الإمام الحسين (ع)، مع أنّ كلّ واحدة منهما تتحرّك في سياق مختلف.

والمسلّم به في استحالة اجتماع المتناقضين هو ضرورة أن يكون المتقابلان متحدّين في الزمان والمكان ومتساويين من جميع الوجوه، والحال أنّنا لا يمكن أن نقارن بين موقف الإمام الحسن (ع) مع موقف الإمام الحسين (ع)؛ لأنّ كلّ واحد منهما حصل في زمان ومكان وظروف مختلفة. صحيح أنّ الصلح - كعنوان - يقع في قبال الحرب كعنوان، والفعل الواحد لا يمكن أن يكون صلحاً وحرباً في نفس الزمان والمكان، فلابدّ أن يكون صلحاً أو حرباً، ولا يمكن أن يكون حرباً وصلحاً في نفس الوقت. أمّا إذا اختلف الزمان أو المكان أو الظروف، فإنّ اجتماعهما ممكن ولا إشكال فيه؛ فاليوم صلح وغداً حرب، وفي هذا المكان حرب وفي ذاك المكان صلح، ولا تناقض في ذلك حتّى لو كان الفاعل واحداً، ناهيك إذا كان الفاعل أكثر من واحد.

فالإمام الحسن (عليه السلام) واجه ظرفاً تاريخيّاً فرض عليه الصلح كأفضل خيار، في حين وجد الإمام الحسين (عليه السلام) ظرفاً آخر وفي زمان آخر فرض عليه الحرب كأفضل خيار. فأين التناقض في المسألة؟

وبذلك يتّضح أنّ ادّعاء التناقض بين موقفيهما خالٍ من الأساس المنطقيّ، لأنّه يتجاهل اختلاف السياق والظروف، وهو ما يُعَـدُّ خلطاً غير مبرّر بين قضيّتين منفصلتين زماناً ومكاناً.

وهنا يبقى السؤال: هل كان صلح الإمام الحسن (ع) هو الخيار الذي يمثّل الحقّ والصواب؟ وهل كانت حرب الإمام الحسين (ع) هي الخيار الذي يمثّل الحقّ والصواب؟ أو كان أحدهما مصيباً والآخر مخطئاً؟

ولا نظنّ أنّ هناك من أهل السنّة من يتبنّى صراحة تخطئة أحد الإمامين، فهناك شبه إجماع على تصحيح موقف الإمام الحسن (ع) وموقف الإمام الحسين (ع). والذي يهمّنا هنا هو إثبات أنّ اختلاف موقف الإمام الحسن (ع) عن موقف الإمام الحسين (ع) لا يضرّ بعصمتهما، فالإمام الحسن (ع) لأنّه معصوم صالح؛ وذلك لأنّ الصلح في وقتها كان يمثّل الحقّ والصواب، والإمام الحسين (عليه السلام) لأنّه معصوم حارب؛ لأنّ الحرب في وقتها كانت تمثّل الحقّ والصواب. ولكي يتّضح ذلك نتساءل: متى يكون الأمر حقّاً ومتى يكون باطلاً؟ ومتى يكون صواباً ومتى يكون خطأً؟

لتوضيح هذا الأمر لابدّ من التمييز بين أمرين أساسيّين:

1- الموضوعات والعناوين الخارجيّة: وهي القضايا والوقائع الموضوعيّة التي تجري على أرض الواقع.

2- موقف الإنسان وما يقوم به تجاه تلك الموضوعات: وهو ردّ فعل الإنسان وخياراته تجاه القضايا المطروحة بناءً على الظرف الذي يواجهه، ووفقاً للمعطيات الزمانيّة والمكانيّة والموضوعيّة المتوفّرة.

فلا يخفى وجود بعض العناوين التي تتميّز بوضوح البطلان مثل الظلم، وعناوين أخرى تبرز بوضوح الحقّ مثل العدل؛ فالعدل مطلقاً حسن، والظلم مطلقاً باطل. لكنّ العناوين التي تتعلّق بأفعال الإنسان ليست جميعها واضحة بهذا الشكل، بل يمكن القول إنّ معظم ما يواجهه الإنسان في حياته يتّسم بالتعقيد والغموض، ولهذا السبب يحدث التباين والاختلاف بين البشر في معظم الأمور تقريباً. وفيما يتعلّق بسؤالنا هنا: هل يمكننا أنْ نقول: إنّ الصلح دائماً حقٌّ وصواب، في حين الحرب دائماً باطل وخطأ؟ أو أنّ الأمر يختلف باختلاف الظروف، فتكون الحرب في بعض الأحيان هي الخيار الصحيح، ويكون الصلح في أحيان أخرى هو عين الخطأ؟

فما يتّفق عليه الجميع هو أنّ الصلح بذاته ليس بالضرورة حسناً كما العدل، والحرب بذاتها ليست بالضرورة قبيحة كما الظلم. بل إنّ الأمر في كلا الحالتين يعتمد على السياق والعنوان المرتبط بهما. فإذا كان الصلح يعبّر عن الخير والفلاح يكون صواباً وحقّاً، وإذا كان عكس ذلك، تصبح الحرب هي الخيار الأنسب والصواب. وتحديد هذه العناوين ليس بالأمر السهل، إذ يعتمد على تعقيدات الواقع والظروف الموضوعيّة. بل في بعض الأحيان قد يكون الصلح هو الخيار الأفضل، لكنّ الظروف تفرض الحرب، وفي أحيان أخرى قد تكون الحرب هي الخيار الأنسب، ولكنّ الظروف تفرض التوصّل إلى الصلح. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.

ومن هذا المنطلق، يجب أن نفهم أنّ أيّ قرار يُتّخذ في سياق الصلح أو الحرب ليس قراراً ثابتاً أو مطلقاً، بل هو قرار يعتمد بشكل رئيسي على الظروف المحيطة والمحدّدات التاريخيّة والاجتماعيّة. فالمفاهيم المتعلّقة بالحقّ والباطل، والصواب والخطأ، ليست مفاهيم جامدة، بل هي متغيّرة وتتكيّف مع السياق الذي تحدث فيه. بمعنى آخر، ما قد يكون صواباً في وقت أو مكان معيّن قد يصبح خطأ في وقت آخر، والعكس صحيح.

وإذا تبيّن ذلك، يصبح من الواضح أنّ مفهوم الحقّ والباطل والخطأ والصواب ليس ثابتاً في جميع الظروف وفي كافّة العناوين، بل يتغيّر بحسب الشروط الموضوعيّة التي يفرضها الواقع. فعلى سبيل المثال، كان دخول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة في عام الحديبيّة هو الحقّ والصواب، لذا أعدّ العدّة وتحرّك من المدينة إلى مكّة. ولكن عندما اقترب من دخول مكّة، تراجع عن هدفه بسبب ممانعة قريش له، وأصبح الحقّ والصواب في تلك الظروف هو التفاوض والوصول إلى شروط متّفقة بينه وبين كفّار قريش، كما ورد في مصادر التاريخ. فلا يُقال: إنّ صلح الحديبيّة يقدح في عصمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأنّه فعل خلاف ما أراد أو خطّط له، ولا يُقال أيضاً: إنّ صلح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان اعترافاً بأحقّيّة قريش، لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان مضطرّاً لمصالحتهم.

والمثل ذاته ينطبق على صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية. ففي البداية، كانت محاربة معاوية الخيار الأفضل، ولذا أعدّ لها الإمام الحسن (ع) الجيوش، لكنّ الظروف المتغيّرة أجبرت الإمام الحسن (ع) على المصالحة. ولم يكن ذلك تراجعاً عن الحقّ أو مخالفة لمبادئ الإسلام، بل كان قراراً استراتيجيّاً في ظلّ تلك الظروف. والخوض في توضيح تلك الظروف يحتاج إلى مساحة أكبر، وهناك العديد من الكتب والدراسات يمكن للمهتمّين مراجعتها.

وعليه، فإنّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لا يضرّ بعصمته؛ لأنّ الصلح كان هو الصواب الذي يجب تحقيقه، وفي المقابل عصمته (عليه السلام) لا تمنح شرعيّة أو أحقّيّة لمعاوية، كما لم تُعطِ عصمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحقّ لقريش عندما صالحهم.

وفي المحصلة، إنّ مواقف الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) ليس بينهما تناقض، بل كلّ واحد منهما كان مكمّلاً للآخر، والعصمة لا تعني اتّخاذ نفس القرار دائماً، بل اتّخاذ ما هو الأنسب والأصحّ في تلك اللحظة، ولذا فإنّ كلّ واحد منهما كان يعمل بمقتضى المصلحة العليا للإسلام والإنسانيّة. والحمد لله ربّ العالمين.