هل يتنافى الابتلاء مع كرامة الإنسان على الله تعالى؟

السؤال: يقول بعض السلفيّة: (من تناقضات دين الرافضة اعتقادهم بأنّ لموسى بن جعفر المدفون في بغداد كرامةً على الله تعالى!، وأنّ قبره موضع لقضاء الحوائج وشفاء المرضى، في الوقت الذي ذكرت فيه كتبهم أنّه مات مسموماً بعد أن قضى في السجن خمسة عشر عاماً!)، فما جوابكم عن هذا الكلام؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

بدءاً لابدّ من الإشارة إلى ما تقدّم في جوابين سابقين لمركزنا، أحدهما بعنوان: (قبر موسى بن جعفر (ع) الترياق المجرّب) حيث ذكرنا هناك العديد من النصوص الصريحة بكرامة الإمام (عليه السلام) على الله تعالى، وكذلك تصريحات كبار علماء العامّة بذلك، والجواب الآخر بعنوان: (هل تنقطع كرامات الأنبياء والأولياء بموتهم؟)، حيث أوضحنا فيه بالأدلّة ثبوت الكرامة لهم (عليهم السلام) أحياءً وأمواتاً.

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام الوارد في السؤال مبنيٌّ على كون حكمة الابتلاء لها وجه واحد وهو العقوبة، والحال أنّ لها وجوهاً متعدّدة تتناسب مع منزلة الشخص المبتلى عند الله تعالى، فقد رُوي عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قوله: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة» [جامع الأخبار ص310]، وبالتالي فلا منافاة بين تعرّض الأنبياء والأولياء والصالحين للابتلاء، وبين ثبوت الكرامة لهم على الله عزّ وجلّ.

ويشهد لذلك ما صرّحت به عشرات الآيات القرآنيّة الكريمة وكذلك الأحاديث الشريفة من تعرّض الأنبياء (عليهم السلام) للابتلاء، فخليل الله إبراهيم (عليه السلام) جرت عليه أنواع عديدة من الابتلاء؛ فلمّا تجاوزها بنجاح رفع الله درجته فقال عزّ وجلّ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، ونبيّ الله يوسف (عليه السلام) دخل السجن ظلماً لعدّة سنين، وكان نبيّ الله أيّوب (عليه السلام) مبتلى بالمرض إلى الحدّ الذي تخلّى معه أهله عنه، وها هو النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يعتلي أسمى المراتب ودرجات القرب من الله، فهو سيّد الأنبياء والمرسلين وأشرف الخلائق أجمعين وأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ، ومع ذلك كان أشدّ الأنبياء والمرسلين أذىً وابتلاءً حتّى قال: «ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت» [الوافي ج2 ص235، حلية الأولياء ج6 ص333]، لكنّ ذلك كلّه لم يمنع من كونه مبعوثاً رحمة للعالمين، ومجعولاً وسيلة يتوسّل بها المسلمون في جميع شؤونهم إلى الله عزّ وجلّ.

بل الذي يظهر من النصوص الشرعيّة الصحيحة والصريحة أنّ هنالك علاقة طرديّة بين القرب من الله تعالى وبين الابتلاء، فالإنسان كلّما ازدادت درجة قربه من الله تعالى ازداد إلى جنبها ابتلاؤه، فمن ذلك:

ما رواه البخاريّ بالإسناد إلى أبي سعيد الخدريّ: «أنّه دخل على رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وهو موعوك، عليه قطيفة، فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشد حُمّاك يا رسول الله، قال: إنّا كذلك، يشتدّ علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر، فقال: يا رسول الله، أيّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء ثمّ الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر، حتّى ما يجد إلّا العباءة يجوبها فيلبسها، ويُبتلى بالقمل حتّى يقتله، ولَأحدهم كان أشدّ فرحاً بالبلاء، من أحدكم بالعطاء» [صحيح الأدب المفرد ص192].

وأصرح من ذلك: ما رواه أحمد ابن حنبل والترمذيّ عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «قلت: يا رسول الله، أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقّة خُفّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتّى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» [مسند أحمد ج2 ص228 وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح)، سنن الترمذيّ ج4 ص601]، قال الترمذيّ: (هذا حديث حسن صحيح)].

وبذلك يتّضح جليّاً أنّه لا منافاة بين تعرّض الإمام الكاظم (عليه السلام) للسجن ووفاته مسموماً، وبين كونه من أهل الكرامة والمنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى بحيث يكون قبره ملاذاً وأمناّ وموضعاً لقضاء حوائج السائلين.

ختاماً، هذا ما وفّقنا الله لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.