تناقض وفاة النبيّ (ص) مسموماً مع قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

السؤال: قرآنُنا يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} والتي تعني أنَّه لا يستطيع أحدٌ مِن البشر التأثير على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بأيَّةِ طريقةٍ من الطُّرق، ثمّ يأتي الشيعةُ ويقولون: (النبيُّ ماتَ مسموماً)، أين ذهبت العصمة إذاً؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. ، يُشير السائل في كلامه هذا إلى أنّه يرى وجود تناقضٍ بين العصمة المذكورة في آية التبليغ، وبين القول بوفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مسموماً، وأنّ هذا التناقض هو أحد معتقدات الشيعة وأقوالهم، وللردّ على ذلك لابدّ من البحث في جهتين:

الجهة الأولى: في بيان المعنى المراد من العصمة المذكورة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

روى الفريقان نزول الآية في شأن بيعة أمير المؤمنين (ع) في غدير خمّ [ينظر: تفسير الأمثل ج4 ص85، الغدير ج1 ص214، شواهد التنزيل ج1 ص249]. وعليه، فإنّ المراد بالعصمة في الآية ليس ما في كتب العقائد من العصمة الثابتة للأنبياء والأئمّة (عليهم السلام أجمعين) والتي تعني امتناع المعصية والذنب عليهم، بل المراد منها هنا هو الحفظ، فمعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي: (والله يحفظك من الناس)، وعلى هذا المعنى أجمع علماء التفسير من الفريقين بلا خلاف فيه.

وإنّما اختلفوا في متعلّق العصمة، فهل يُراد بها عصمته من القتل والسمِّ ونحوهما، كما قال علماء العامّة [ينظر تفسير الرازيّ ج12 ص50، تفسير القرطبيّ ج6 ص244، وتفسير الكشاف ج1 ص631]، أو يُراد به عصمته ممّا يخافه من إعلان الرفض والتكذيب والاتّهام بالمحاباة والانحياز لابن عمّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فيما لو بلّغ بولايته، كما هو مشهور مذهبنا وصريح روايات الأئمّة (عليهم السلام)، بل وروايات بعض الصحابة في كتب الفريقين.

فمن ذلك: ما روي بسند صحيح ينتهي إلى زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعاً عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «أمر الله عزّ وجلّ رسوله بولاية عليّـ وأنزل عليه: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ}، وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر الله محمّداً (صلّى الله عليه وآله) أنْ يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحجّ، فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتخوّف أنْ يرتّدوا عن دينهم وأنْ يكذّبوه، فضاق صدره وراجع ربّه عزّ وجلّ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.. » [الكافي ج1 ص289].

ومنها: ما عن الباقر (عليه السلام) أيضاً قال: «.. وكان كمال الدين بولاية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال عند ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أمّتي حديثو عهدٍ بالجاهليّة، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمّي يقول قائل، ويقول قائل... » [الكافي ج1 ص290] ،

ومنها: ما عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: «أمر الله محمّداً أن ينصِّب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يقولوا: حابى ابن عمّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..}، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خمّ» [شواهد التنزيل ج1 ص256].

ويشهد لذلك: حادثة النعمان بن الحرث الفهريّ الذي كذَّب بهذا التبليغ، فقتله الله تعالى أمام أنظار المسلمين بأنْ رماه بحجرٍ من السماء سقط على رأسه فخرج من دبره، وأنزل فيه قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ..} [المعارج: 1-3] [تنظر قصّته: شواهد التنزيل ج2 ص381، نظم درر السمطين ص93].

وبعد كلّ هذا، بات من الواضح أنّ موضوع العصمة المذكورة في الآية أجنبيٌّ عن مسألة موته (صلّى الله عليه وآله) مسموماً، ولا نربط بينهما نحن الشيعة ؛ لأنّ مشهور مذهبنا أنّ خوفه (صلّى الله عليه وآله) إنّما كان على الدعوة ومستقبلها، بأنْ يكذّبه قومه فيهجرون الإسلام بالكلّية كما فعلوا ذلك أيام شركهم وجاهليتهم حينما كذّبوا بالوحي حيث يقول تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] ، وهجروا القرآن الكريم كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] ؛ ولهذا حرص (صلّى الله عليه وآله) على تبليغ ولاية عليّ (ع) أمام هذا الكمّ الهائل من المسلمين وليس أمام قريشٍ وحدها. وأمّا الخوف من القتل والسمّ ونحوهما فعقيدتنا فيه هي: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أَجلُّ من أن يعتريه شيءٌ من ذلك، فهو لا يخاف إلّا ربّه كما يشهد بذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].

قال العلّامة الطباطبائيّ: (فهو (صلّى الله عليه وآله)كان يخافهم ولم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه، فهو أجلُّ من أنْ يستنكف عن تفدية نفسه، أو يبخل في شيءٍ من أمر الله بمهجته، فهذا شيءٌ تكذّبه سيرته الشريفة ومظاهر حياته... نعم، من الممكن أن يقدَّرَ لمعنى قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يخاف الناس في أمر تبليغه أنْ يتّهموه بما يَفسد به الدعوة فساداً لا تنجح معه أبداً، فقد كان أمثال هذا الرأي والاجتهاد جائزاً له مأذوناً فيه من دون أنْ يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشيء)[تفسير الميزان ج6 ص43].

وقال الشيخ الشيرازيّ: (لقد كان لهذا الأمر [أي تبليغ الولاية] معارضون أشدّاء، إلى درجة أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قلقاً؛ لخشيته من أنّ تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإسلام والمسلمين، ولهذا يطمئنه الله تعالى من هذه الناحية... ليس ثَمَّةَ شك أنّ قلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن لخوفٍ على شخصه وحياته، وإنّما كان لِـما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين) [تفسير الأمثل ج4 ص84].

الجهة الثانية: أنّ عقيدتنا في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تخلو تماماً من الغُلوِّ والتأليه ، حيث نعتقد بأنّه مُعرّضٌ لأن يجري عليه من الابتلاء في جنب الله تعالى مثل ما جرى على غيره من الأنبياء السابقين (عليهم السلام) حين تعرّضوا للأذى والقتل والتعذيب وغيره، والأدلّة على ذلك كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].

بل نحن نعتقد بأنّه (صلّى الله عليه وآله) كان قد تعرّض لأكثر ممّا تعرض له سائر الأنبياء (عليهم السلام)؛ بشهادة قوله: «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت» [الوافي ج2 ص235 ، تفسير الرازي ج4 ص175].

وبالتالي، فموته (صلّى الله عليه وآله) مسموماً يعدُّ أمراً وارداً ومحتملاً جدّاً، كما يستفاد من الآية والرواية، بل قد جزم علماء الفريقين - على السواء - بذلك استناداً إلى ما صرّحت به النصوص عندهم، وقد روى علماء العامّة روايات صحيحة – بحسب مبانيهم – ، منها: ما ورد عن عبد الله بن مسعود قال: « لأنْ أحلف تسعاً أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قُتل قتلاً أحبُّ إليَّ مِن أنْ أحلفَ واحدة أنّه لم يقتل؛ وذلك بأنَّ الله جعله نبيّاً واتّخذه شهيداً...» [مسند أحمد ج1 ص408 ، المستدرك ج1 ص59]، قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، وقال الهيثميّ: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) [مجمع الزوائد ج9 ص34]. ومنها :ما روي عن أبي هريرة وعائشة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «مازالتْ أكلة خيبر تعاودني كلّ عام، حتّى كان هذا أوانُ قطع أبهري» [الجامع الصحيح ح5629].

ونحن إذ نورد هذه الروايات ونتّفق - في الجملة - مع سائر المسلمين على موته (صلّى الله عليه وآله) مسموماً، فإنّ ذلك لا يعني تسليمنا بما فيها من تعليلٍ لموته، بل لنا تحفّظٌ شديدٌ عليها ورفض لمضامينها لعدّة أسباب، من بينها:

الأخبار الواردة في قصّة الشاة المسمومة متناقضةٌ أشدّ التناقض فيما بينها، ولكثرة تلك التناقضات لم يمكننا إيرادها هنا [ينظر مقال الباحث جلال الشميريّ: تهافت قصّة تسميم اليهود للنبيّ].

ومنها: هنالك أحداثٌ غريبةٌ وقعت قُبَيل وفاته (صلّى الله عليه وآله) تدعو إلى الارتياب والشكّ وتدفع نحو الاعتقاد بأنّ سبب وفاته بالسمّ كان أمراً آخر غير ما يذكرونه من موضوع المرأة اليهوديّة والشاة المسمومة، ولمركزنا جواب سابق بعنوان: (هل مات رسول الله (ص) مسموماً شهيداً؟).

والخلاصة: أنّ وفاته (صلّى الله عليه وآله) مسموماً هو أمرٌ متسالمٌ عليه عند علماء المسلمين من الفريقين، فلو أمكن أنْ يتوجّه الإشكال المذكور في السؤال فإنّما يتوجّه إلى علماء العامّة - وليس إلى الشيعة -؛ وذلك لأنّ القوم هم الذين قالوا بأنّ الله تعالى عصم نبيّه (صلّى الله عليه وآله) من القتل والسمّ والسجن ونحوه بعدما كان يتّخذ حرّاساً ليليين يحرسونه لخوفه على نفسه من القتل، فطمأنه الله بهذه الآية، وأنّه لا يمكن لأحدٍ أنْ يمسّه بسوءٍ فإنّه في عصمته تعالى وسيحفظه من كلّ الأعداء، فترك الحراسة حتّى توفّي مسموماً [ينظر تفسير ابن كثير ج2 ص81، الدرّ المنثور ج2 ص292] ؛ لذا فلنا أنّ نسألهم: (كيف يتعهّد الله تعالى بعصمته (صلّى الله عليه وآله) من الأعداء ثمّ يتركه ليموت مسموماً على يد امرأةٍ يهوديّةٍ كما تزعمون؟!.).

ولأنّ هذا السؤال يتوجّه إليهم - لا إلى الشيعة - فقد احتاجوا إلى توجيه الموضوع بعدّة توجيهات يطول ذكرها، ولا تخلو من اعوجاجٍ في التفكير وخللٍ في العقيدة؛ لأنّها تؤدّي إلى اتّهام الله عزّ وجلّ بنقض ما تعهّد به من العصمة - تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً - [ينظر شرح الزرقاني للمواهب اللدنّية ج12 ص94].

والخلاصة: أنّ ما ذكره السائل من اتّهامٍ للشيعة لا يمتُّ لهم بصلة من قريبٍ ولا من بعيد، وإنّما الأمر كما جاء في المثل المشهور: (رمتني بدائها وانسلّت)، والحمد لله ربّ العالمين.