تمثيل أمير المؤمنين (ع) بالبعوضة

السؤال: يتناول السلفيُّون شُبهةً يكررونها بشكلٍ دائمٍ في المنتديات مفادها أنَّ الشيعة لا يقدّرون أمير المؤمنين (عليه السلام) ويستخدمون أوصافاً غير لائقةٍ به، مثل ما ورد في بعض رواياتهم التي تصف علياً بالبعوضة. هل بالإمكان ردُّ هذه الشبهة؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم-أيدك الله- أنَّ هذا الخبر نقله عليُّ بن إبراهيم القميّ عن أبيه، النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنَّ هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فالبعوضة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وما فوقها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ..» [تفسير القميّ ج۱ ص35].

أقول: وهذا الخبر قد جعله بعض المخالفين مدعاةً للتعريض بالشيعة الإماميَّة، مدَّعين أنَّ الشيعة تطعن في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلابد أولاً أنْ نتعرَّض لجهة صحة صدور الخبر ومن ثم بيان معناه فنقول:

الأمر الأول: صحة صدور الخبر:

هذا الخبر يحتوي على علَّتينِ في سنده:

أحدهما: القاسم بن سليمان، الذي ذكره الشيخان النجاشيّ والطوسيّ دون التنصيص على توثيقه [ينظر: رجال النجاشي ص314، رجال الطوسي ص273، الفهرست ص202]، ونصّ على جهالته جمعٌ من العلماء، كالمحقّق الأدربيليّ إذ قال في موضعٍ: (على أنّ السند ليس بصحيحٍ؛ لوجود قاسم بن سليمان المجهول) [مجمع الفائدة ج2 ص86]، والشيخ البهائيّ إذ قال: (الثانية أيضاً ضعيفة، رويناها عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائنيّ، وكلٌّ منهما في كتب الرجال مهملٌ غير موثّق) [الحبل المتين ص184].

والآخر: المعلى بن خنيس، الذي نصّ النجاشيّ وابن الغضائريّ على ضعفه، قال النجاشيّ: (ضعيفٌ جداً، لا يُعوَّل عليه) [رجال النجاشيّ ص٤١٧]، وقال ابن الغضائريّ: (كان أوّل أمره مغيريّاً، ثمّ دعا إلى محمّد بن عبد الله بن الحسن، وفي هذه الظنَّة أخذه داوود بن علي فقتله، والغلاة يضيفون إليه كثيراً، ولا أرى الاعتماد على شيءٍ من حديثه) [رجال ابن الغضائريّ ص87].

إذن: هذا الخبر مرويٌّ من طريق رواةٍ لم تثبت وثاقتهم بشكلٍ واضح.

الأمر الثاني: معنى تمثيل أمير المؤمنين بالبعوضة:

ذكر العلماء – تبعاً لأئمة الهدى – أنّ هذا الخبر ليس على ظاهره، فذكروا له وجوهاً:

الأول: ما جاء في تفسير الإمام العسكريّ (عليه السلام): «فقيل للباقر (عليه السلام): أنَّ بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أنَّ البعوضة علي (عليه السلام) وأن ما فوقها - وهو الذباب - محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقال الباقر (عليه السلام): سمع هؤلاء شيئا [و] لم يضعوه على وجهه، إنما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعداً ذات يوم هو وعليٌّ (عليه السلام) إذ سمع قائلاً يقول: ما شاء الله وشاء محمد، وسمع آخر يقول : ما شاء الله ، وشاء عليّ!

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تقرنوا محمداً و [لا] علياً بالله عزَّ وجلَّ ولكن قولوا :ما شاء الله ثم [شاء محمد ما شاء الله ثم] شاء علي، إنَّ مشية الله هي القاهرة التي لا تُساوى ، ولا تُكافأ ولا تدانى، وما محمدٌ رسول الله في [دين] الله وفي قدرته إلا كذبابةٍ تطير في هذه الممالك الواسعة، وما عليٌّ عليه السلام في [دين] الله وفي قدرته إلا كبعوضةٍ في جملة هذه الممالك، مع أنَّ فضل الله تعالى على محمدٍ وعليٍّ هو الفضل الذي لا يفي به فضله على جميع خلقه من أول الدهر إلى آخره. هذا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان فلا يدخل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}» [تفسير العسكري ص209-210].

والثاني: هو تمثَّلٌ بالبعوضة وليس وصفاً بها، ويدلّ عليه السياق، واختصر الكلام لأجل السياق، فأصل العبارة: (فالبعوضة لأمير المؤمِنين، وما فوقها لرسول الله) ثمّ حذفت اللَّام الجارّة، فصارت الجملة: (فالبعوضة أمير المؤمِنين). وحذف اللَّام في مثل المقام شائعٌ في كلام العرب، وقد صرّح به علماء العربيّة، قال الطبرسيُّ: (تقول العرب: لاه أبوك، تريد لله أبوك. قال سيبويه: حذفوا لام الإضافة واللَّام الأُخرى، ولا ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفه،. فقد حكى سيبويه مِن قولهم: الله لأخرجنّ، يريدون والله، ومثل ذا كثير) [مجمع البيان ج1 ص28].

وعلى هذا، فإن لفظ (أمير المؤمِنين) في الرواية مجرور، فالمعنى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} لأمير المؤمِنين، لا أنّ المراد مِن البعوضة هو أمير المؤمِنين، وضرب مثلاً {فَمَا فَوْقَهَا} لرسول الله، لا أنّ ما فوقها هو رسول الله. ويدلّ على هذا المعنى قوله (عليه السلام) في الخبر: «إنّ هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمِنين»، فعليّ (عليه السلام) هو الذي ضُرب له هذا المثل، أعني مثل البعوضة، لا أنّه المضروب به المثل في هذا الكلام [ينظر: استخراج المرام ج3 ص467].

والثالث: قال العلامة المجلسيُّ: (وأقول: يمكن الجمع بينهما بأنَّه (عليه السلام) إنّما نفى كون هذا هو المراد من ظهر الآية، لا بطنها، ويكون في بطنها إشارةٌ إلى ما ذكره (عليه السلام) من سبب هذا القول أو إلى ما مثَّل الله بهم (عليهم السلام) لذاته تعالى من قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وأمثاله؛ لئلَّا يتوهَّم متوهٌم أنَّ لهم (عليهم السلام) في جنب عظمته تعالى قدراً، أو لهم مشاركةٌ له تعالى في كنه ذاته وصفاته، أو الحلول أو الاتحاد، تعالى الله عن جميع ذلك، فنبَّه الله تعالى بذلك على أنَّهم وإنْ كانوا أعظم المخلوقات وأشرفها فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة وأشباهها، والله تعالى يعلم حقائق كلامه وحججه عليه السلام) [بحار الأنوار ج24 ص395].

ثـمّ إنّ لهذا التمثيل نظائر في كتب القوم، فقد رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه شبَّه الإمام الحسن أو الإمام الحسين (عليهما السلام) بالبقة وهي البعوضة، قال الدميريُّ: (وقد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) البقّ في حديثٍ رواه الطبرانيُّ بإسنادٍ جيدٍ عن أبي هريرة قال: «سمعت أذناي وأبصرت عيناي هاتان رسول الله وهو آخذُ بيديه جميعاً حسناً أو حسيناً، وقدماه على قدمي رسول الله وهو يقول: "خرقة خرقة، ترقَّ عينَ بقَّة" فيرقى الغلام، فتقع قدماه على صدر رسول الله. ثم قال : افتح فاك ، ثمَّ قبَّله ثمَّ قال: اللَّهمَّ من أحبَّه فإنّي أحبَّه». ورواه البزار ببعض هذه الألفاظ. والخرقة: الضعيف المتقارب الخطوة، ذكر ذلك له رسول الله على سبيل المداعبة والتأنيس، وترقّ معناه اصعد، وعين بقة: كنايةٌ عن صغر العين، مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأٍ محذوف) [حياة الحيوان ج1 ص217ـ218].

ورووا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تشبيه نفسه الشريفة للحسنين (عليهما السلام) بالجمل، رواه الشهاب الدولت آبادي عن كتاب (شرف النبوَّة) قال: (قال جابر بن عبد الله: «دخلتُ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يمشي على أربع، والحسن والحسين على ظهره، وهو يقول: نعم الجمل جملكما، ونعم الراكبان أنتما»).

بل لقد رووا عن الله سبحانه أنَّه شبَّه نفسه بالدجاجة، قال السيوطيُّ :(أخرج أحمد في الزهد عن خالد بن ثابت الربعيّ قال: «لما قتل فجرة بني إسرائيل يحيى بن زكريا، أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ قُلْ لبني إسرائيل: إلى متى تجترؤون على أنْ تعصوا أمري وتقتلوا رسلي، حتى متى أضمّكم في كنفي كما تضمّ الدجاجة أولادها في كنفها فتجترؤون عليَّ؟ اتقوا لأخذكم بكلِّ دمٍ كان بين بني آدم ويحيى بن زكريا، واتقوا أنْ أضرب عنكم وجهي، فإنّي إن صرفت عنكم وجهي لم أقبل عليكم إلى يوم القيامة) [الدر المنثور ج5 ص 492].

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولاً وآخراً.