هل تطيَّر مُسلم بن عقيل؟

السؤال: هل فعلاً (تطيَّر) مُسلم بن عقيل (عليه السلام) بعدما بُعث إلى العراق؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

روى محمَّد بن جرير الطبريّ [ت310 هـ]، فقال: (ثمَّ دعا مُسلمَ بن عقيل فسرَّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ، وعمارة بن عبيد السلوليّ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ فأمره بتقوى الله وكتمان أمره، واللُّطف، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجَّل إليه بذلك. فأقبل مُسلم حتَّى أتى المدينة فصلَّى في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، وودَّع من أحبَّ من أهله، ثمَّ استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلَّا الطريق وجارا، وأصابهم عطشٌ شديدٌ، وقال الدليلان: هذا الطريق حتَّى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أنْ يموتوا عطشاً، فكتب مُسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداويّ إلى حُسين، وذلك بالمضيق من بطن الخبيت: أمَّا بعد، فإني أقبلتُ من المدينة معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلَّا، واشتدَّ علينا العطش، فلم يلبثا أنْ ماتا، وأقبلنا حتَّى انتهينا إلى الماء، فلم ننجِ إلَّا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد ‌تطيَّرتُ من وجهي هذا، فإنْ رأيتَ أعفيتني منه، وبعثتَ غيري، والسلام. فكتب إليه حسين: أمَّا بعد، فقد خشيتُ ألَّا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجَّهتك له إلَّا الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجَّهتك له، والسلام عليك) [تاريخ الطبريّ ج5 ص354].

والملاحظ في هذا النص أنَّ الشهيد مُسلم بن عقيل (عليه السلام) قد (تطيَّر) من سفره الذي وجَّهه إليه الحسين (عليه السلام)، كما تضمَّن وصف الإمام الحسين (عليه السلام) له بالجبن.

ولنا عليه عدَّة ملاحظات، نذكرها تباعاً:

الملاحظة الأولى: إنَّ الطبريّ هذا من علماء العامَّة، فرواياته ليستْ حجَّةً علينا على فرض أنّها صحيحة، فكيف والطبريّ نفسه يروي هذا الخبر عن أبي المخارق الراسبيّ الذي لا يعرف ولم يترجم في كتب الرجال، وفي خبره مخالفة للثوابت عندنا؟ إذْ من الواضح أنَّ جلالة الشهيد مُسلم بن عقيل (عليه السلام) أكبر من ذلك.

قال السيِّد أبو القاسم الخوئي (طاب ثراه): (مُسلم بن عقيل ابن أبي طالب، من أصحاب الحسن (عليه السلام) ... وسفيره إلى أهل الكوفة، وأوَّل مستشهد في سبيله، أظهر من الشمس، وكيف كان، فجلالة مُسلم بن عقيل وعظمته فوق ما تحويه عبارة، فقد كان بصفِّين في ميمنة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، ذكره ابن شهر آشوب في المناقب في حرب صفِّين. وقال المفيد (قدِّس سرُّه): ثمَّ كتب الحسين (عليه السلام) مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله ـ وكانا آخر الرسل إلى أهل الكوفة ـ: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أمَّا بعد، فإنَّ هانياً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ـ وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ـ وقد فهمتُ كلَّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلِّكم أنه ليس علينا إمام فاقبل لعلَّ الله أنْ يجمعنا بك على الحق والهدى، وإني باعثٌ إليكم أخي وابن عمِّي وثقتي من أهل بيتي مُسلم بن عقيل. وروى الصدوق (قدِّس سرُّه) عن الحسين بن أحمد بن إدريس، قال: حدَّثنا أبي، عن جعفر بن محمَّد بن مالك، قال: حدَّثني محمَّد بن الحسين بن زيد، قال: حدَّثنا أبو أحمد محمَّد بن زياد، قال: حدَّثنا زياد بن المنذر، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عبَّاس، قال: قال عليٌّ (عليه السلام) لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «يا رسول الله، إنّك لتحبّ عقيلاً؟ قال: أي والله، إني لأحبّه حبَّين، حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي طالبٍ له، وإنَّ ولده مقتول في محبَّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلِّي عليه الملائكة المقرَّبون. ثمَّ بكى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حتَّى جرت دموعه على صدره، ثمَّ قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي») [يُنظر: معجم رجال الحديث ج19 ص165].

الملاحظة الثانية: إنَّ التطيُّر - وهو التشاؤم - من الأمور المذمومة في الشرع الإسلاميّ المقدَّس، فكيف يُعقل أنْ يتطيَّر ربيب البيت النبوي من موت الدليلين؟ وكيف يُمكن وقوع ذلك منه وهو يعلم بذمِّه غاية الذم؟

الملاحظة الثالثة: إنَّ الطبريّ نفسه قد روى وَصْفَ الإمام الحسين (عليه السلام) لمسلم بن عقيل النافي لهذه الأكاذيب، فقد روى في تاريخه قول الإمام الحسين (عليه السلام) في وصف مُسلم بن عقيل، فقال (عليه السلام): «وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمِّي وثقتي من أهل بيتي» [تاريخ الطبريّ ج4 ص262].

فإذا كان الشهيد مُسلم ثقة الإمام الحسين (عليه السلام) على الإطلاق فكيف يتصوَّر في حقِّه هذه الترَّهات الرخيصة. نعم، إنه الحقد الذي يُراد من ورائه تشويه الصورة الناصعة لمولانا مُسلم (عليه السلام).

الملاحظة الرابعة: إنَّ وصف الشهيد مُسلم بن عقيل (عليه السلام) بالجبن والخوف منافٍ للواقع بشكلٍ كبير، وذلك لما عُرف عن أبناء أبي طالب (عليه السلام) من الشجاعة والفتوَّة، حتَّى روي عنه (صلَّى الله عليه وآله) أنه قال: «لو وَلَدَ أبو طالب النَّاس كلَّهم لكانوا شجعاناً» [لباب الآداب ص368، شرح النهج ج10 ص78].

هذا فضلاً عمَّا عُرف من شجاعة مُسلم بن عقيل بالخصوص، قال ابن قتيبة الدينوريّ في حقِّه: (كان من أشجع الناس) [الإمامة والسياسة ج2 ص4]، وقال البلاذريّ فيه: (كان مُسلم بن عقيل أرجل ولد عقيل وأشجعهم) [أنساب الأشراف ج2 ص77]، وقال الزركليّ: (مُسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم: تابعيٌّ، من ذوي الرأي ‌والعلم ‌والشجاعة) [الأعلام ج7 ص222]، إلى غيرها من كلمات الأعلام.

الملاحظة الخامسة: إنَّ من يتأمَّل نصَّ الطبريّ المتقدِّم تستوقفه العديد من علامات الاستفهام، من أبرزها قصَّة استئجار الدليلين، فهل من المعقول أنْ يُؤتمن غريبان على مهمَّةٍ بهذه الحساسية والخطورة؟ ثمَّ أليس من الغريب أنْ يضلَّا الطريق معاً، ويقعا في العطش الشديد حتَّى الموت، بل ويموتا في الوقت نفسه؟! إنَّ الوارد في هذه القصَّة ما يُشبه الأساطير والحكايات المتخيَّلة التي تُصاغ بعيداً عن الواقع.

والنتيجة النهائية من جميع ما تقدَّم، أنَّ هذه الأوصاف ـ أعني: الطيرة والخوف ـ من الزيادات المكذوبة التي أُلصقت بمولانا مُسلم بن عقيل (عليه السلام).. والحمد لله ربِّ العالمين.