معرفة النبيّ (ص) بأحوال الأمم السالفة
السؤال: قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، يتبادر إلى الذهن سؤال الرؤية المذكورة فيهما: فهل هذا الخطاب موجّهٌ لنا أم إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وهل رأى الرسول تلك الأحداث فعلاً؟ وما معنى فعل الرؤية إذا لم يكن قد رآها؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أخي الكريم أنّه ورد في خمسة مواضع في القرآن الكريم صيغة {أَلَمْ تَرَ} تتعلق بالحوادث التاريخية التي وقعت للأمم السابقة وما أجراه الله تعالى فيهم من سننه الكونية، وأمّا ما عداها فلا تتعلق بالأخبار الماضية.
إذا عرفتَ هذا، فتتضح الإجابة عن سؤالكم من خلال بيان أمرين:
الأمر الأول: معنى (الرؤية) في الموارد المتقدّمة:
من المعلوم أنّ مادّة (رأى) ومشتقاتها ترد في اللغة العربيّة على معنيين: (أحدهما): الرؤية البصريَّة، وهي التي تحصل بواسطة العين، وتقع على الأشياء الخارجيّة المحسوسة حصراً، ويكون الفعل فيها متعدّياً إلى مفعولٍ واحدٍ كقولنا: رأيتُ زيداً. و(الآخر): رؤية البصيرة، أو ما تُعرف بالرؤية القلبيّة، فإنّ (رأى) من أفعال القلوب التي تتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وتفصيل ذلك في كتب النحو.
وقد ذهب مشهور المفسّرين من الفريقين إلى أنّ المراد بالرؤية في جميع الآيات التي وردت فيها الصيغة المثبتة والمنفية هو الرؤية القلبيّة وليست البصريّة، واستدلّوا لذلك بدليلين:
الأوّل: أنّ الرؤية البصريَّة لا تقع من الحاضر على ما كان قد تصرّم وانتهى فانعدم وصار ماضياً.
الثاني: أنّ العلم بما في الآيات المذكورة من أخبار الأمم السالفة علمٌ ضروريٌّ لا يقبل الشكّ ولا يحتاج إلى برهان، فكأنّها حوادث تمّت مشاهدتها عياناً؛ لذا نُزّل العلم بها منزلة المشاهدة بالعين.
الأمر الثاني: المخاطب في الآيات الكريمة:
لا يخفى أنّ ظاهر الآيات الكريمة هو توجّه الخطاب الإلهيّ للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قال الشيخ مغنية – في تفسيره لسورة الفيل -: (الخطاب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والاستفهام لتقرير الواقع، أي: إنّك تعلم - يا محمّد - ما صنع الله بأصحاب الفيل) [التفسير الكاشف ج7 ص610].
وقد نبّه جملةٌ من المفسّرين على أنّه وإنْ كان الخطاب للنبيّ إلّا أنّ المراد منه جميع الناس؛ وذلك لأنّ الغاية من ذكر هذه القصص هي أنْ يأخذ الكفّار والفسّاق درساً وعِبرةً من خلال إيقافهم على مصائر تلك الأمم، وأن يزداد المؤمنون هدىً ورحمةً وثباتاً على إيمانهم، تماماً كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
قال الشيخ الشيرازيّ - عند تفسير سورة الفيل -: (ومع أنّ المخاطب في الآية هو النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلّا أن الخطاب موجّهٌ إلى الجميع) [تفسير الأمثل ج20 ص180]،
وقال الفخر الرازيّ - في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} -: (قوله: {أَلَمْ تَرَ} وإن كان في الظاهر خطاباً للنبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، لكنّه عام لكلّ من عَلِمَ ذلك. والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أنْ يكون زجراً للكفّار عن الإقامة على مثل ما أدّى إلى هلاك عادٍ وثمود وفرعون وقومه، ولِيكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على الإيمان) [تفسير الرازي ج31 ص167].
ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، فالحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق