هل الإنسان مكلّف بالعبادة في الآخرة؟

السؤال: هل تنتهي العبادات التي يؤدّيها الإنسان المؤمن في الحياة الدنيا عند انتقاله إلى الآخرة، أم أنّها تتغيّر؟ مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الإنسان خُلق للعبادة؟ هل تبقى العبادات كما هي، أم تأخذ أشكالًا أخرى تتناسب مع الزمان والمكان؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أخي السائل أنّ سبل المعرفة المتاحة للإنسان لا تخرج عن أحد أربعة هي: (الحسّ والتجربة، أو الكشف والمشاهدة، أو العقل، أو الوحي)، ولكن هذه السبل المعرفية ليست متاحةً جميعها للإنسان للوقوف على عالم الآخرة بما له من التفاصيل والأحداث؛ وذلك لأنّ الحسّ لا سبيل له لتناول ذلك العالم المحجوب عنه، وأمّا الكشف والمشاهدة – أي المكاشفات – فإنّها لا يُؤمَن التباسه بأوهام النفس ووساوس الشيطان؛ ولذا هو لا يفيد اليقين، وأمّا العقل فغاية ما يدركه عن عالم الآخرة هو ضرورة وجود يومٍ يثاب فيه المحسن ويعاقب المسيء؛ لذا تنحصر معرفة تفاصيل ذلك العالم وجزئيّات الأحداث الدائرة فيه بالوحي الواصل إلينا عن طريق الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام أجمعين).

على ضوء ذلك فإنّ العبادات المذكورة في سؤالكم تارةً يُنظر إليها بوصفها تكاليف شرعيّة تستلزم الجزاء من الثواب والعقاب، وأخرى ننظر إليها كأعمال طوعيّة يؤتى بها ابتداءً.

 

أما النحو الأول – وهو الإتيان بالعبادات بوصفها تكاليف شرعية -:

فقد ذهب جمهور المتكلمين من علماء المسلمين – ومنهم علماء الطائفة الحقّة أعلى الله برهانهم - إلى عدم وجود تكليف بالأعمال العباديّة في الآخرة، واستدلّوا له بجملةٍ من النصوص الكثيرة، يكفينا كشاهدٍ منها نصٌّ واحد:

فقد روى الشيخ الصدوق – وهو من الخاصة - وابن عديّ الجرجانيّ – وهو من العامّة - بإسناديهما عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فإنّه يصدُّ عن الحقّ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدّنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنّكم اليوم في دار عمل ولا حساب وأنتم غداً في دار حساب ولا عمل» [الخصال ص51، الكامل ج5 ص185]، وقد جاء نظير هذا الحديث في بعض كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) [ينظر: نهج البلاغة ص83]. وما يعنينا هو الفقرة الأخيرة من الحديث - أعني قوله: «فإنّكم اليوم في دار عملٍ ولا حساب، وأنتم غداً في دار حساب ولا عمل» - فإنّها صريحةٌ باختصاص الدنيا بالعمل والتكليف وخلوّها من الحساب والجزاء، وأنّ الآخرة تختصّ بكونها دار الجزاء ولا تكاليف بالعمل فيها.

قال الهاشميّ الخوئيّ: («وإنّ اليوم عمل ولا حساب» أراد باليوم مدّة الحياة، يعني: أنّ هذا اليوم يوم عمل، لأنّ التكليف إنّما هو في هذا اليوم والعمل به والامتثال له إنّما يكون فيه. «وغداً حساب ولا عمل» أراد بالغد ما بعد الموت، وهو وقت الحساب ولا عمل فيه؛ لانقطاع زمان التكليف؛ فعلى هذا فاللَّازم للعاقل أن يبادر إلى العمل الذي به يكون من أبناء الآخرة في وقت امكانه قبل مجيء الغد الذي هو وقت الحساب دون العمل) [منهاج البراعة ج4 ص203]، ومثله ذكر ابن ميثم البحرانيّ في [شرح نهج البلاغة ج2 ص109].

والسرّ في ذلك: أنّ الحكمة الإلهيّة قضت بأن يكون للتكليف بالعبادة لوازم لا تفارقه؛ مثل التعرّض للابتلاءات المختلفة، والفتن العارضة، وإغواءات الشيطان، ووساوس النفس الأمّارة بالسوء، ونحو ذلك. ومن الواضح أنّ جميع هذه الأمور لا تنسجم في وجودها إلّا مع عالم الحياة الدنيا، فلو فُرض وجود تكليفٍ هناك للزم أنْ يكون ذلك في عالمٍ دنيويٍّ آخر هو غير عالم الآخر وغير عالم الدنيا الذي نحن فيه. قال الشيخ المصباح اليزديّ: (إنّ عالم الدنيا عالم يملك أرضية الاختيار والابتلاء والاختبار، بينما عالم الآخرة ليس فيه إلّا تقديم الثواب والعقاب والنتائج الأبديّة للأعمال الحسنة والسيّئة التي صدرت في الدنيا) [دروس في العقيدة الإسلاميّة ج3 ص75].

نعم، وقع النزاع بالنسبة لأطفال المؤمنين والكافرين والجاهل القاصر والمجنون ونحوهم، فهل أنّهم يُكلّفون يوم القيامة بتكليفٍ خاصٍّ ولمرّةٍ واحدة - كما نطقت بعض روايات العترة الطاهرة (عليهم السلام) -، أم أنّهم يُلحقون بآبائهم - كما هو مفاد رواياتٍ أخرى -، أم أنّ هنالك تفصيلاً؟ أقوال في المسألة لا يسمح المقام بالتعرّض لها فضلاً عن كونها غير مقصودةٍ من سؤالكم؛ لذا يمكنكم مراجعة كتاب [تفسير سورة هل أتى ج2 ص95] للسيد جعفر مرتضى العامليّ، ففيه تفصيل المسألة.

هذا بالنسبة إلى العبادات كتكاليف شرعيّة مفترضة على الإنسان.

 

وأما النحو الثاني – وهو الإتيان بالعبادات بوصفها عملاً طوعيّاً يؤتى به في الآخرة -:

فلا مانع من ذلك بالنسبة لأهل الجنّة؛ لوضوح أنّ بإمكان المؤمن بعد دخولها أن يفعل ما يشاء وما يشتهي ممّا يلتذّ به، ومنه العبادات، فقد صرّحت بعض الروايات أنّ للعبادة لذّة، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كيف يجد لذّة العبادة مَن لا يصوم عن الهوى» [غرر الحِكَم ص292]، وحينئذٍ لا يمتنع أنْ يقوم المؤمنون في الجنّة ببعض الإعمال العباديّة التي يلتذّون بها، سيّما في مثل ذكر التسبيح والحمد ونحوهما من صور الذكر، وفي ذلك جاء من طرق العامّة في وصف حال أهل الجنّة أنّهم: «‌يُلهَمون ‌التسبيحَ والتحميدَ كما تُلهَمون النَّفَسَ» [صحيح مسلم ج8 ص147].

بل ظاهر النصوص أنّ أهل الجنّة في عبادةٍ مستغرقةٍ إلى الأبد؛ لأنّ من أصناف العبادة الرضا عن الله تعالى، ومحبّة العبد لله، وإنشاء الحمد والثناء عليه تعالى، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «إنّ أطيب شيء في الجنّة وأَلَذُّه حبُّ الله والحبُّ في الله والحمدُ لله، قال الله عزّ وجلّ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وذلك أنّهم إذا عاينوا ما في الجنّة من النعيم هاجت المحبّة في قلوبهم فينادُون عند ذلك: أنْ الحمد لله ربّ العالمين» [مصباح الشريعة ص195، بحار الأنوار ج66 ص251].

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ التكليف بالعبادات في الآخرة منافٍ لكونها دار جزاء وثواب وعقاب، ومستلزم لصيرورتها عالماً دنيويّاً آخر؛ لذا لا يمكن الالتزام به، وأما الإتيان بالعبادات بنحوٍ طوعيٍّ فلا مانع منه. والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.