هل العلم يغني عن الإيمان بالغيب؟
السؤال: إذا كان الإيمان بالغيب وهماً خالصاً صنعه الإنسان نتيجة خوفه من المجهول أو رغبةً في تفسير ما لا يفسره العلم، فما الحاجة للحديث عن الدين والقيم وجميع المعاني التي تتجاوز المادة؟ أليست كل هذه المفاهيم مجرد إسقاطاتٍ نفسيَّةٍ وثقافيَّةٍ يمكن تفكيكها علمياً دون الحاجة إلى الإيمان بوجود غيب؟
الجواب:
سُمّي الغيب غيباً لأنّه غير مُدركٍ بالحواسّ، لكنّه في الوقت نفسه ليس بالضرورة أن يكون غائباً عن وجدان الإنسان وشعوره؛ إذ إنّ الشعور بالمقدّس يمثل بُعداً روحيّاً ووعياً أصيلاً في الطبيعة البشريّة لا يمكن تجاهله أو الهروب منه.
فبشكلٍ عامٍ تنقسم الحقائق إلى نوعين: حقائق مشهودة تدركها الحواسّ، وحقائق غيبيّة تقع خارج حدود الإدراك الحسيّ، ومَن يحاول إخضاع الغيب للحواسّ لا بدّ أن يتصوّره وهماً خالصاً؛ لأنّ الغيب الذي يُبحث عنه من خلال الحواسّ لا وجود له.
فتفسير الإنسان والكون بمنظورٍ مادّيٍّ تجريبيٍّ بحت هو إفراطٌ يؤدّي إلى تضييع جوانب جوهريّةٍ من الحقيقة، فليست كلّ الظواهر الإنسانيّة قابلةً للتجريب، ومن هنا تبرز الحاجة إلى إفساح المجال للعقل التحليليّ والتأمّليّ لفهم مظاهر الوجود التي تتجاوز مختبرات العلم، ورغم أنّ البعض يرى الأديان مقارباتٍ فوقيّةً، إلّا أنّها تلبّي حاجةً أصيلةً في الإنسان لا يمكن تجاهلها، فالقوانين الحتميّة التي يعتمدها العلم لا تفسّر كلّ الظواهر، حيث تظلّ بعض الجوانب خاضعةً للاحتمالات، ما يفسح المجال للقول بوجود قوّةٍ عُليا وراء هذا النظام.
ففي الفيزياء الكلاسيكيّة، كان يُعتقد أنّ العالم محكومٌ بالحتميّة، أي أنّ كلّ ظاهرةٍ يمكن تفسيرها وفق قوانين سببيّة، ومع تطوّر الفيزياء الحديثة - خاصّة مع نظريّة الكم - أصبح واضحاً أنّ الكون لا يخضع للحتميّة المطلقة، فقانون الاحتمالات في ميكانيكا الكم فتح المجال للإقرار بوجود عوامل تتجاوز المادّة والطبيعة، وأنّ وراء المادّة توجد قوّةٌ واعيةٌ تنظّم العالم.
وعليه، فإنّ التركيز على المادّة دون المعنى يؤدّي إلى تآكل إنسانيّة الإنسان، حيث تتجلّى قيمة الإنسان في القيم التي تعبّر عنها روحه، ومن غير الممكن تصوّر حياةٍ مليئةٍ بالقيم المثلى دون الحديث عن الروح، ولا يمكن فهم الروح بمعزلٍ عن الغيب؛ لذا فإنّ أيَّة ثقافةٍ تهمّش روح الإنسان لصالح البدن تظلّ قاصرةً وغير مكتملة، ومن هذا المنظور تعتبر اللا دينيّة رؤيةً ناقصةً لأنّها تركّز على الجسد وتغفل عن الروح.
فالروح – وهي جزءٌ أصيلٌ في الإنسان - تتطلّع إلى الكمال وتسعى إليه عبر العلم، والحريّة، والكرامة، والفضائل، أمّا الجسد، فهو يبحث عن حاجاته الأساسيّة للبقاء، والمادّة توفر احتياجات الجسد، لكنّها لا تقدّم شيئاً للروح؛ لأنّ المادّة بطبيعتها عاجزةٌ وفقيرةٌ، ولا يمكنها منح الكمال للروح، فالقيم العليا التي تعشقها الروح تشير إلى مصدر خارج المادّة؛ لكونها قيم تتّسم بالإطلاق الذي لا وجود له في المادّة الناقصة، من هنا، يصبح الإنسان مدفوعاً للتحرّر من قيود المادّة بحثاً عن المطلق الذي هو الله، مصدر الكمال والجمال.
فداخل كلّ إنسان يوجد إحساسٌ بوجود كمالٍ مطلقٍ، ولو لم يكن هذا الإحساس حاضراً لَمَا تطلّعت النفس إلى السمو والتكامل، فالله هو الذي تجلّى بأسمائه الحسنى في الوجود، وكلّ اسمٍ منها يعكس قيمةً كماليّةً للإنسان، تُظهر جماله وكماله في كلّ جانبٍ من جوانب الحياة، فالكفر بالله في جوهره، كفر بإنسانيّة الإنسان وإنكار لتطلّعات روحه نحو الكمال، ومَن ينكر وجود الغيب عليه أن يقدّم تفسيراً علميّاً لكيفيّة نشوء القيم والمثل العليا، ومن المستحيل تفسير هذه القيم من دون الرجوع إلى الغيب.
فالإنسان - بطبيعته المحدودة - لا يمكنه تصوّر الإطلاقيّة في هذه القيم مثل العلم، العدل، القدرة، أو الرحمة إلّا إذا ارتبطت بالله، الذي هو المطلق في كماله.
وعليه، فإنّ الإيمان بالغيب ليس مجرّد حقيقةٍ غير قابلةٍ للإنكار، بل هو حاجةٌ أساسيةٌ لا تستقيم حياة الإنسان من دونها، والإيمان بالله - عبر أسمائه الحسنى - يجعل المعرفة البشريّة متكاملةً ويمنح الإنسان المعنى العميق الذي يبحث عنه.
وفي المحصّلة، المادّة والعقل والروح ليست كياناتٍ متناقضةً، بل يكمّل بعضها بعضاً، العلم يُعنى بالمادّة وقوانينها، لكنّ الروح والعقل يسعيان لفهم المعاني والقيم، والغيب ليس نفياً للعلم، بل هو مجالٌ أوسع يدمج التجربة الإنسانيّة بأبعادها الروحيّة والفكريّة، فالإيمان بالغيب إذن يمثّل نداءً داخليّاً للإنسان للبحث عن الحقيقة الكاملة التي تتجاوز حدود الطبيعة.
اترك تعليق