هل وجود الظلم وانتشار الأمراض يتعارض مع عدالة الله؟
السؤال: إذا كان الله عادلاً، فلماذا تنتشر الأمراض، ويسمح بوجود الظلم بين الناس؟
الإجابة:
يتضمّن هذا التساؤل احتمالين رئيسين: الأوّل، التشكيك في وجود إلهٍ للكون من الأساس بسبب وجود الشرور.
والثاني، التسليم بوجود إله، ولكن عدم الثقة في عدالته نتيجة انتشار هذه الشرور.
الوجه الأول ينطلق من رؤيةٍ إلحاديّةٍ، بينما ينطلق الوجه الثاني من شبهةٍ اعتقاديّةٍ، ولكلّ اتّجاهٍ منهما معالجاتٌ فكريّةٌ خاصّةٌ، ومع ذلك، هناك نقطةٌ مشتركةٌ تجمع بينهما: وهي السعيُّ لإيجاد تفسيرٍ للشرور مع الإيمان بوجود إلهٍ عادل.
أولاً: الاتّجاه الإلحاديّ:
من المؤكّد أنّ البحث عن مفهوم الخير والشر يقع ضمن فلسفة الأخلاق، التي تشكّل القاعدة القيميّة لنشاط الإنسان، ومن هنا يظهر ضعف الإلحاد، الذي لا يستطيع تقديم تفسيرٍ منطقيٍّ للقيم الأخلاقيّة، باعتباره فلسفةً ماديّةً عدميّةً لا تعترف بوجود أيَّة قيمةٍ خلف هذا الوجود.
وعليه، من المستحيل إثبات وجود قيمٍ أخلاقيّةٍ مطلقةٍ دون الإيمان بمصدرٍ مطلقٍ لهذه القيم، وهو الله؛ لذا لا يمكن للملحد الاعتراض على أخلاقيّة الوجود إلّا إذا سّلم أوّلاً بوجود إلهٍ حِكيمٍ يقف خلف هذا الوجود، وقد ناقشنا هذا الأمر كثيراً في موقعنا وضمن عناوين مختلفة منها: (هل يسمح للملحد أنْ يحدّثنا عن الأخلاق؟)، (هل يتمكن الإلحاد من إيجاد تفسيرٍ ماديٍّ للأخلاق؟)، وغير ذلك من الموضوعات ذات الصلة.
ثانياً: كيف يكون الشرّ موجوداً مع وجود الله؟
يبدو أنّ هذا السؤال يتجاوز الترتيب المنطقيّ في طرح الأسئلة؛ لأنّ السؤال الذي يسبقه هو: إذا كان الله غير موجود، فمن أين جاء هذا الخير؟ ذلك لأنّ الأصل في الوجود هو الخير، بينما الشرّ استثناءٌ عارضٌ، فكيف يُعتبر الاستثناء دليلاً على عدم وجود الخالق، في حين لا يُعتبر الخير دليلاً على وجوده؟
وعليه، لا يمكننا فهم المعنى الوجوديّ للشرّ – أي الاستثناء - دون الإقرار بالمعنى الوجوديّ للخير – أي الأصل -، وإذا انطلقنا من فهم الخير لتحليل الشرّ، سنجد أنّ الشر ينسجم مع فلسفة الخير الحاكمة على الوجود.
ولا نهدف هنا تقديم شرحٍ فلسفيٍّ لطبيعة الشرّ وماهيّته؛ لأنّ ذلك يقودنا إلى دائرة الجدل بين الفلسفات المختلفة، بل نسعى إلى تحقيق انسجامٍ بين مفهوم الشرّ ومفهوم العدالة باعتبارها إشكاليّةً يصعب على بعض العقول استيعابها.
وعليه، يمكننا القول إنَّ الترتيب المنطقي لتكوين وعيٍّ فلسفيٍّ بفلسفة الوجود يبدأ بفهم الشرّ في إطار الخير، ثمّ فهم كلاهما في إطار العدالة، بوصفها الخيط الناظم لفلسفة الخلق والإيجاد.
ولفهم العدالة، علينا أن ندرك معنى الحياة الدنيا، فمعنى العدالة يتحدّد وفقاً لطبيعة الحياة، فلو أنّ الله خلق الحياة لتكون جنّةً أبديّةً للإنسان، ووعده أنْ لا يصيبه فيها مكروه، كما وعد آدم بقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119]، لفهمنا العدالة بشكلٍ يتناقض مع وجود الشرور.
أمّا إذا كانت الحياة قد وجدت بوصفها داراً للابتلاء والامتحان، حيث يختار الإنسان بعمله في الدنيا المصير الذي يكون عليه في الآخرة، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، فإنّنا لا نفهم العدالة إلّا في سياق الفتن والمصاعب التي تؤّهل الإنسان لدخول الجنّة، وهنا تصبح الشرور مجرّد اختباراتٍ وامتحاناتٍ ترفع الإنسان في مراتب الكمال.
والتفاوت الذي نلاحظه في طبيعة هذه الابتلاءات لا يتعارض مع العدالة؛ لأنّ كلّ متسابقٍ في ساحة الحياة يتسابق ضمن حدود الإمكانات المتاحة له.
ومثال ذلك التنافس بين الرياضيّين في الأولمبياد: هناك رياضات مختلفة، ولكلّ نوعٍ منها متطلّباته وإمكاناته الخاصّة، ولكنّ جميع الفائزين في تلك الرياضات يمنحون جوائز متساوية.
وكذلك حال الدنيا: الفقير والغني، والمريض والمعافى، لكلٍّ منهم امتحانه الذي يناسب وضعه، وتكون الجنّة جزاءً عادلاً للجميع.
وإذا اتّضح ذلك، فإنّ حياة الإنسان والمسؤوليّة التي يجب أن يتحمّلها لا تتوقّف على أنْ يكون البشر متساويين في كلّ شيء، وإنّما حكمة الحياة وضرورة الاستمرار فيها يقتضي التفاوت والاختلاف، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165]، فقد أوجد الله الإنسان ليبتليه ويمتحنه في هذه الحياة، وليس بالضرورة أنْ يتساوى الجميع في نوع الامتحان، فقد يمتحن البعض بالثروة، ويمتحن البعض الآخر بالحاجة والفقر، أو يمتحن البعض في زمانٍ ومكانٍ، في حين يمتحن غيرهم في زمانٍ ومكانٍ أخر، ومع أنّ الابتلاء مختلف إلّا أنّ جميعها خاضعة للعدالة بحيث يعطى كلّ إنسانٍ بقدره ويمتحن بحسب طاقته، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
في المحصلة، الاعتقاد بأنّ الشرّ يتناقض مع العدالة ينبع من تصوّرٍ قاصرٍ لفلسفة الحياة، فالعدالة الإلهيّة لا تعني غياب المصاعب، بل تعني أن يُمتحن الإنسان في إطار ظروفه، ويُكافأ بناءً على اجتيازه لهذه الاختبارات، ففهم الشر يتطلّب إدراكه بوصفه جزءاً من نظام الخير، الذي بدوره يتكامل مع العدالة الإلهيّة، فالحياة الدنيا دار اختبار لا دار نعيم، والشرور ليست ظلماً، بل وسائل للارتقاء الإنسانيّ في مدارج الكمال والإيمان.
اترك تعليق