بيعة الرضوان لا يستفاد منها عدالة جميع المبايعين.

محب الصحابة/ قطر/: لا يستطيع الشيعة أن ينكروا أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين قد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأن الله أخبر بأنه قد رضي عنهم وعلم ما في قلوبهم، فكيف يليق بالشيعة بعد هذا أن يكفروا بخبر الله تعالى، ويزعموا خلافه؟! فكأنهم يقولون: (أنت يا رب لا تعلم عنهم ما نعلم!).

: اللجنة العلمية

  الأخ محب الصحابة المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: 

  حتى يَتِمّ المُدَّعَى الذي تتحدث عنه بأن الله سبحانه راضٍ عن جميع المبايعين تحت الشجرة (في البيعة المسماة ببيعة الرضوان)، عليك أن تأتي بلفظٍ عام ذات دلالة مطابقية تامّة، لا تقبل التَخْصِيص مطْلقاً؛ وإلا كان قولك من التمسِّك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو محل منعٍ عند الأصوليين، وإليك البيان:

     قوله تعالى: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)(الفتح:18)، دالٌّ على أنّ الله سبحانه راضٍ عن بيعة المؤمنين، ولم يقل سبحانه أنّه راضٍ عن جميع المبايعين، هكذا بشكلٍ مطلق، فإنّ من المبايعين تحت الشجرة كانوا منافقين، منهم رأس النفاق أُبي بن سلول.

     وقد تسأل: ما الدليل على وجود أُبي بن سلول في بيعة الرضوان؟!

 نقول: الدليل شهادة صاحب السيرة الحلبية(1) بوجوده في الحديبية، ثمّ شهادة مسلم في صحيحه(2)، وابن كثير في تفسيره (3)، على مبايعة كلّ من كان في الحديبية، وهي البيعة المسماة ببيعة الرضوان  عدى "الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ". 

  وعليه حتّى يكون الاستدلال بالآية الكريمة في المقام تاماً وصحيحاً، فينبغي إثبات كون المبايع هو من المؤمنين أَوّلاً، وممن حسنت خاتمته ثانياً، وإلا فالحكم لا يثبت موضوعه كما هو معلوم، وعليه يكون التمسّك بالآية الكريمة في المقام من نوع التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو محلّ منعٍ عند الأصوليين. 

     ثمّ حتّى لو تنزلنا عن ذلك وقلنا: إنّ هذه الآية كشفت عن إيمان المُبايعِين، إلا أننا عند العودة إِلى نصوص الواقعة نفسها (وهي بيعة الرضوان) نجد أنّ المُبايعِين بايعوا على أن لا يفرِّوا، وفي بعضها أنهم بايعوا على الموت(4)، فهل وفى المبايعون بما بايعوا عليه؟! 

  النقل التأريخي يخبرنا غير ذلك.. ففي أوّل واقعة حصلت بعد هذه البيعة، وهي واقعة خيبر، نجد أنّ هؤلاء المبايعين قد فرّوا وعادوا إِلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجبّن بعضهم بعضاً، وهم عمر بن الخطاب ومن كان معه من الصحابة، وقبله أبو بكر وأصحابه(5)، حتّى تأذّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعلهم المتكرر هذا، وقال تصريحاً هو أشبه بالتعريض بهم وبجبنهم: بأنّه سيعطي الراية غداً لرجلٍ كرارٍ غير فرّار، يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وكان ذاك هو أمير المؤمنين علي ( عليه السلام)(6). 

     فهنا هل لعاقلٍ أن يقول بعد معرفته بشرائط هذه البيعة ومعاهدة القوم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوفاء وعدم الفرار، ثمّ فرارهم الواقعي من المعركة أن يكون مراد الآية هكذا: أنّ الله علم ما في قلوب بعضهم من عدم الوفاء بالبيعة وأنّهم سيولّون الدبر، وهو مع ذاك أنزل السكينة على قلوبهم وأثابهم فتحاً قريباً؟! 

 إنّ هذا التفسير لا يمكن لعاقل أن يصدح به أبداً! 

 ومع ذلك، حتى لو تنزلنا أيضاً وقلنا: بأنّ الآية دلّت على شمول جميع المبايعين تحت الشجرة بالرضوان، إلا أنّه رضوانٌ مقيّدٌ حال البيعة لا مطلقاً، إذ لا يمكننا قبول القول باستمرار الرضوان عن الجميع حتّى مع حصول المعصية من بعضهم، وفرارهم من الزحف وامتعاض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الفرار المتكرّر، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال: 16).

     وممّا يَخْرُم الاستدلال بهذه الآية على أن الله راضٍ عن جميع المبايعين فيها إِذا علمنا بأنّ قاتِلَ عمار أبو الغادية، هو ممن حضر بيعة الرضوان أيضاً(7)، وقد ورد في حديث يُصحِّحه الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني وغيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (قاتل عمار وسالبه في النار)، وعليه لا يمكن القول بأنّ أصحاب بيعة الرضوان قد رضي الله عليهم جميعاً، بينما الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه أَهل السنّة ويصححونه أنفسهم يقول بدخول بعضهم للنار!

     وقد وجدنا من أهل السنة من يرد على من يقول: إن الله   تعالى رضي عن الجميع في هذه البيعة حتى الذين ورد بدخولهم النار.

  قال ابن حزم في "الفصل في الملل": (وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان، فهو من شهد الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو الغادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه، باغ عليه مأجور أجراً واحداً)(8).

     فردّ عليه الشيخ الألباني في "السلسة الصحيحة" قائلاً: (وأبو الغادية هو الجهني وهو صحابي كما أثبت ذلك جمع، وقد قال الحافظ في آخر ترجمته من الإصابة بعد أن ساق الحديث، وجزم ابن معين بأنّه قاتل عمار: والظنّ بالصحابة في تلك الحروب، أنّه كانوا فيها متأولين، وللمجتهد المخطىء أجر، وإذا ثبت هذا في حقّ آحاد الناس، فثبوته للصحابة بالطريق الأولى. 

     وأقول: هذا حقّ، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل؛ لأنّه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، إذ لا يمكن القول بأنّ أبا غادية القاتل لعمار مأجور؛ لأنّه قتله مجتهداً، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يقول: قاتل عمار في النار! فالصواب أن يقال: إنّ القاعدة صحيحة إِلا ما دلّ الدليل القاطع على خلافها فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها. والله أعلم)(9).

     هذا فضلاً عن أمرٍ آخر لا أظنّ الأخ السائل يوافقنا عليه، وهو أن أحد قتلة عثمان بن عفان هو من أهل بيعة الرضوان، وهو الصحابي "عبد الرحمن بن عديس البلوي"، قال ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمته: (شهد الحديبية ممن بايع تحت الشجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هو كان الأمير على الجيش القادمين من مصر إلى المدينة الذين حاصروا عثمان وقتلوه)(10).

     فهل يقبل الأخ السائل أن يكون قاتل الخليفة عثمان بن عفان مرضياً عنه وأنه مأجورٌ ومثابٌ على كل أفعاله؟!

 مع ملاحظة أمرٍ أخيرٍ نشير إليه هنا، وهو أن الأخ السائل ذكر في سؤاله أن عثمان بن عفان هو ممن بايع بيعة الرضوان، نقول: هذا ليس بصحيح، بل ورد الدليل على عدم حضوره هذه البيعة في أصحّ كتب أهل السنة وهو صحيح البخاري. 

  فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ» وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ». فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَك(11).

  ودمتم سالمين.

__________________________

(1)- السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي، ط:دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1327هـ، ج2، ص23.

(2)- صحيح مسلم لمسلم النيسابوري،  ط: دار إحياء التراث العربي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ج3، ص1483، حديث1856.

(3)- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ط:دار طيبة، الطبعة الثانية1999، تحقيق سامي سلامة، ج7، ص332.

(4)- (انظر: فتح الباري 6: 82، 7: 345، وتفسير الطبري 26: 1114).

(5)- (انظر: المستدرك على الصحيحين3 للحاكم النيسابوري، ط:دار الكتب العلمية، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ج3، ص40، وقد وافق الذهبي الحاكم على تصحيحه لهذه الروايات).

(6)- المصدر السابق.

(7)- ( راجع الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ط:مكتبة الخانجي، ج4، ص125، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية، ط: جامعة محمد بن سعود، الطبعة الأولى 1986، تحقيق: محمد رشاد سالم، ج6، ص205، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ط: مكتبة المعارف، ج5، ص18).

(8)- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ط:مكتبة الخانجي، ج4، ص125.

(9)- وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ط: مكتبة المعارف، ج5، ص19.

(10)- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، ط:دار الجيل، الطبعة الأولى1992، تحقيق علي محمد البجاوي، ج2، ص840.

(11)-  صحيح البخاري لمحمد البخاري، ط: دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422هـ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ج5، ص15، حديث 3698.