هُناك تَشابُهٌ بينَ الشِّعرِ الجَاهِليِّ وآياتِ القُرآنِ الكَريمِ.. فَما تَقولُونَ؟!!
ما رَدُّكم على مَن يَقُول بوُجودِ تَشابُهٍ بينَ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ والشِّعرِ الجَاهِليِّ مما يُشعِرُ بأنَّ مُؤلفَ القُرآنِ تأثَّرَ بشُعرَاءِ زَمانِه فلا وَجهَ لإعجَازِه. وهاكُم بَعضُ مَواردِ التَّشابُهِ: 1- الشَّاعرُ امرُؤ القَيسِ – الَّذي ماتَ قبلَ الإسْلامِ بـ30 عاماً: (دَنتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرُ عن غَزالٍ صادَ قَلبِي ونَفر...) دَنتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرُ: اقْترَبتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرُ… سورة القمر: آية 1 فَتعَاطَى فَعقَر: فَنادَوا صَاحِبَهم فَتعَاطَى فَعقرَ… سورة القمر: آية 29 2- الشَّاعرُ أُميَّةُ بنُ الصَّلتِ: (إلهُ العَالمِينَ وكلُّ أرضٍ وربِّ الرَّاسِياتِ منَ الجِبالِ)، سَتجدُ كَلِماتِها وَاضِحةً في: (خَلقَ السَّماواتِ بغَيرِ عَمدٍ تَروْنَها وأَلقَى في الأرضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بكم)… سورة لقمان: آية 10 3- الشَّاعرُ رُؤبةُ بنُ العجاج. قَال الشَّاعرُ رُؤبةُ بنُ العجاج وَاصِفاً هَزِيمةَ حَملةِ أبْرهةَ بِبَيتيْ شِعْر: (ومسَّهم ما مسَّ أصْحابَ الفِيلِ تَرمِيهِم بِحجَارةٍ مِن سِجِّيل...) بعدَ أعْوامٍ جاءَ القُرآنُ في سُورةِ الفِيلِ لِيقُولَ نَفسَ كَلامِ هذا الشَّاعرِ: ألم تَر كيفَ فَعلَ رَبُّك بأصْحابِ الفِيلِ... 4- الشَّاعرُ زيدُ بنُ نفيل. الشَّاعرُ زيدُ بنُ نفيل وَصفَ وُلَادةَ المَسيحِ بتلْك الأبيَاتِ: (فقَالتْ مَريمُ: أنَّى يَكُون ولم أكُنْ بَغيّاً ولا حُبلَى ولا ذاتَ قيم...). ونَقلَها مُحمدٌ قَائلاً: قَالتْ أَنَّى يَكُون لي غُلامٌ ولم يَمسسْنِي بَشرٌ...
الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه.
نُجِيبُ على هذا الإشْكالِ إجمَالاً وتَفصِيلاً إنْ شاءَ اللهُ:
أما الإجمَالُ: فقد تَحدَّى القُرآنُ الكَريمُ العَربَ قَاطِبةً، وهم أهلُ البَلَاغةِ والفَصَاحةِ والمُعلَّقاتِ السَّبعِ، بأنْ يأتُوا بسُورةٍ وَاحِدةٍ مِن مِثلِه (أي بقَدرِ سُورةِ الكَوثرِ التي هي ثَلاثُ آياتٍ فقط) فَعَجزُوا عن ذلك وخَرجُوا على النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحِرابِ والسَّنانِ ودَفعُوا أنْفسَهم وفَلذَّاتِ أكْبادِهم في سَبيلِ القَضاءِ على دينِ الإسْلامِ ما اسْتطَاعُوا، بينَما كَانتْ المُواجَهةُ بالشَّعرِ والكَلامِ والإتِّهامِ بالإقتِباسِ مع وُجودِ الدَّليلِ - لو كانَ - أسْهلَ عليْهم بكَثيرٍ منَ الخُروجِ بالحِرابِ والسَّنانِ، فَتدبَّرُوا!!
أما الجَوابُ التَّفصِيليُّ:
1- هذِه الأبيَاتُ:
دَنتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرُ
عن غَزالٍ صادَ قَلبِي ونَفَر
مرَّ بي يومَ العيدِ في زِينةٍ
فَرمَانِي فَتعَالى فَعقَر
لا تُوجَدُ في أيِّ دِيوانٍ مَطبُوعٍ لامْرُئِ القَيسِ، ولا يَنقِلُها أهلُ الإختِصاصِ والتَّحقِيقِ أنَّها مِن كَلِماتِه، فلا تَعدُو أنْ تَكُون مَنحُولةً ومَنسُوبةً إليه زُوراً، بل هي تَفضَحُ نَفسَها بنَفسِها مِن نَاحِيتيْنِ:
الأولَى (وهي النَّاحِيةُ الفنِّيةُ): تُوجَدُ في هذا الشِّعرِ رَكَاكةٌ وخَللٌ فنِّيٌّ في أوزَانِه يَتنزَّهُ عنه أدنَى الشُّعراءِ في الجَاهلِّيةِ، فَالبَيتُ الأولُ (دَنتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرَ عن غَزالٍ صَادَ قَلبِي ونَفَر) هو على بحرِ الرَّملِ، والبَيتُ الثَّاني (مرَّ بي يومَ العِيدِ في زِينةٍ فَرمَانِي فَتعَالى فَعَقرَ) شطرٌ منه على بحرِ الخَفِيفِ والثَّانِي على بحرِ الرَّملِ، وهذا الخَللُ الفَنِّيُّ يَتنزَّهُ الوُقوعَ فيه أدنَى شُعرَاءِ الجَاهِليةِ فَضلاً عن ملكِهم!!
الثَّانيةُ (وهي النَّاحِيةُ الدِّلالِيةُ) فهذِه الأبيَاتُ تَقُول: (دَنتْ السَّاعةُ وانْشقَّ القَمرُ مِن غَزالٍ صَادَ قَلبِي ونَفَر).. فهُنا عن أيِّ سَاعةِ كانَ يَتحدَّثُ هذا الشَّاعرُ (الجاهلي) وعن أيِّ إنشِقاقٍ لِلقَمرِ.. إنْ كانَ يَتحدَّثُ عن يومِ القِيامةِ فَعرَبُ الجَاهلِّيةِ لا يُؤمِنونَ بمَعادٍ ولا يومٍ للقِيامةِ، وإنْ كانَ يُريدُ سَاعةَ لِقاءِ حَبِيبتِه فما عِلَاقةُ ذلك بانْشِقاقِ القَمرِ، وهل كانَ مِن كَمالِ جَمالِ حَبِيبتِه (إنْ كَانتْ تَشبَهُ القَمرَ) أنْ تَنشقَّ مثلاً.. وما المُرادُ بالإنشِقاقِ هنا؟!!!
ولو أطَّلعتَ على كَلامِ طه حسين في كِتَابِه (في الشِّعرِ الجَاهلِي) فصل "قَصصٌ وتَأرِيخٌ"، لَعرَفتَ أنَّ أكثرَ ما يَنقُلُه النَّاسُ عن أمرُئِ القَيسِ هو شِعرٌ مَنحُولٌ يُخالِفُ البِيئةَ التي نَشأ فيها أمرُؤُ القَيسِ واللُّغةَ التي يُجِيدُها والتي هي لُغةُ أهلِ اليَمنِ، لوُجودِ فَرقٍ وَاضحٍ بينَ لُغةِ اليَمنِ والحِجازِ.
وإذا رَاجعْتَ كِتابَ (إعجَاز القُرآنِ) للباقِلَّاني (وهو مِن أعلَامِ القَرنِ الرَّابعِ الهِجرِي) وهو الَّذي خّصَّص فَصلاً كَاملاً لِبيَانِ الفَرقِ بينَ الشِّعرِ والقُرآنِ لم تَجدْ أثراً لهذِه الأبيَاتِ والرَّدِ عليْها، وهو ما يُؤكِّدُ أنَّها مَنحُولةٌ ومُختَرعةٌ في أزمَانٍ مُتأخِّرةٍ عن الباقِلَّاني!!
وقبلَ هذا وبعدَه أينَ كَانتْ هذِه الأبيَاتُ عن أذهانِ الجَاهِليِّينَ وسُورةُ القَمرِ مَكيَّةٌ نَزلَتْ في عُقرِ دُورِهم، وهم حَفظَةُ الشِّعرِ الجَاهلِي، فلم يُواجِهُوا بها النَّبيَّ (ص) ليَقُولُوا له: إنَّك تَنقلُ قُرآنكَ عن أمرُئِ القَيسِ؛ إذ لا عِطرَ بعدَ عُرْس؟!!!
ومِن هنا اعْترفَ النصْرانِيُّ كلير تيسدال الَّذي أطلقَ هذِه الشُّبهةَ في كِتابِه (المصَادر الأصْلِية للقُرآنِ)، بعدَ أنْ تَبينَ له مَوقعُ الرَّكَاكةِ والخَللِ فيها بعدَ مُراجَعتِه لأهلِ الإختِصاصِ، فَصرَّحَ قَائلاً: (على الرُّغمِ منَ الخَبرِ الَّذي اسْتشهَدتُّ به فإنَّ مِيزانَ الإحتِمالَاتِ يَمِيلُ بكلِّ تَأكيدٍ نحو افْترَاضِ أنَّ مُحمَّداً لم يقُمْ بهذا الإقتِباسِ الفَاضحِ الَّذي اتُّهِمَ به).
وقَال: (هذا هو رأيُ السير سي جي ليال Sir C. J. Lyall والَّذي منَ الصَّعبِ أنْ أجِدَ مَن هو مُؤهَّلٌ أكثرُ منه في مَوضُوعِ الشِّعرِ العَربِيِّ القَديمِ. في رِسَالةِ قامَ مَشكُوراً بإرسَالِها لي بِخُصوصِ الأبيَاتِ المَنسُوبةِ لامْرُيِء القَيسِ عبَّرَ سِيادَتُه عن اقتِناعِه بأنَّها ليستْ له مُبدِياً أسْباباً مُتعلِّقةً بالأُسلُوبِ والوَزنِ. وقد قُمتُ بإضَافةِ بَعضِ مُلاحظَاتِه إلى هذا المُلحَقِ، وأُدِينُ له كذلِك بالمَلحُوظةِ السَّابِقةِ. كَلامُه جَعلَني أعدِلُ رأيِي في نَفسِ المَوضُوعِ والَّذي ذَكَرتُه في كِتابِي باللُّغةِ الفَارِسيةِ (يَنابِيع الإسْلامٍ)). انتهى.
وهذا هو المَصدَرُ لِكلَامِه:
Rev. W. St. Clair Tisdall، The Original Sources Of The Qur'an، 1905 Society For The Promotion Of Christian Knowledge: London، pp. 47-50
2- أمَّا ما نَقلُوه عن أُميَّةَ بنِ أبي الصَّلتِ فقد صرَّحَ جَماعةٌ منَ المُستَشرِقينَ قبلَ المُسلِمينَ بأنَّ هذِه الأشعَارَ المُدَّعاةَ لأُميَّةَ بنِ أبي الصَّلتِ بأنَّها تُشابِهُ القُرآنَ الكَريمَ هي مَنحُولةٌ عليْه، صرَّحَ بذلك: تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، و د. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود. عمر فروخ ود. شوقي ضيف ود. جواد علي وبهجة الحديثي منَ العُلماءِ العَربِ.
قَال كارل بروكلمان: "إنَّ أكثرَ ما يُروَى من شِعرِ أُميَّةَ هو في الوَاقعِ مَنحُولٌ عليْه، ما عدا مرثيَّته في قَتلَى المُشرِكينَ ببَدرٍ، وإنَّه إذا كانَ كليمن هوار المُستَشرِقُ الفرنسي قد زَعَمَ أنَّ شِعرَه كانَ مَصْدراً مِن مَصادرِ القُرآنِ، فإنَّ الحقَّ ما قَال تور أندريه مِن أنَّ الأشعَارَ التي نظَرَ إليها هوار في اتِّهامِه هذا إنَّما هي نَظْمٌ جَمَعَ القصَاص فيه ما استَخرَجه المفسِّرونَ من موادِّ القَصصِ القُرآنِي، وإنَّ هذِه الأشعَارَ لا بدَّ أنْ تَكُونَ قد نُحِلتْ لأُميَّةَ منذُ عهدٍ مُبكِّرٍ لا يَتجاوَزُ القَرنَ الأولَ للهِجرةِ، فقد سمَّاه الأصمعيُّ: "شاعِر الآخِرة"، كما أرادَ مُحمدُ بنُ داودَ الأنطاكي أنْ يَفتتِحَ القِسمَ الثَّاني في الدِّينِياتِ مِن كِتَابِه: "الزهرة بأشَعارِ أُميَّةَ"
(كارل بروكلمان/ تاريخ الأدبِ العَرَبي/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/113).
وقَال المُستَشرِقُ براو: "إنَّ صِحةَ القَصائدِ المَنسُوبةِ لهذا الشَّاعرِ أَمرٌ مَشكُوكٌ فيه، شَأنُها شَأنُ أشعَارِ الجَاهِليِّينَ بوَجهٍ عامٍّ، وإنَّ القَولَ بأنَّ مُحمَّداً قد اقتبَسَ شَيئاً مِن قَصائدِ أُميَّةَ هو زَعمٌ بَعيدُ الإحتِمالِ لِسَببٍ بَسِيطٍ هو أنَّ أُميَّةَ كانَ على مَعرِفةٍ أوسَعَ بالأسَاطِيرِ التي نحنُ بصَددِها، كما كَانتْ أسَاطِيرُه تَختلِفُ في تَفصِيلاتِها عما وَردَ في القُرآنِ". (دائِرةُ المَعارفِ الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/463 - 464)
وجاءَ عن الدُّكتورِ شَوقي ضَيف أنَّ المَعانِيَ التي يَتضمَّنُها شِعرُ أُميَّةَ مُستمِدَّةٌ منَ القُرآنِ بصُورةٍ وَاضِحةٍ، إلا أنَّه لا يُرتَّبُ على ذلك أنْ يَكُون أُميَّةُ قد تأثَّرَ بالقُرآنِ، بل يؤكِّدُ أنَّ الشِّعرَ الذي يَحمِلُ اسمَه هو شِعرٌ رَكِيكٌ مَصنُوعٌ، نَظَمَه بَعضُ القصَّاصِ والوُعَّاظِ في عُصورٍ مُتأخِّرةٍ عن الجَاهِليةِ.
ثم قَال ردّاً على دَعوَى مَن يَقُول منَ المُستَشرِقينَ بأنَّ القُرآنَ قد اسْتمدَّ بَعضَ مَادتِه مِن أشعَارِ أُميَّةَ: إنَّ ذلك المُستَشرِقَ لا عِلمَ له بالعَربِيةِ وأسَالِيبِ الجَاهِليِّينَ، وإلا لتبيَّن له أنَّها أشعارٌ مَنحُولةٌ بيِّنةُ النَّحلِ، ولمَا وَقَعَ في هذا الحُكمِ الخَاطِئ. انتهى (د. شوقي ضيف، العصر الجاهلي: ط10، دار المعارف، 395 - 396).
3- وأمَّا ما نَقلُوه عن رُؤبةَ بنِ العجاجِ، فَنَقُول: هذا شَاعرٌ مُسلمٌ اسْتشهَدَ بكَلامِه القُرطُبيُّ في تَفسِيرِه (الجَامعُ لأحْكامِ القُرآنِ) ج20 ص 197، وابنُ هُشامٍ في (السِّيرة النَّبويَّة) ج1 ص 36، فلا يَصلُحُ ما نَقلُوه شَاهداً على دَعوَى اقتِباسِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) مِن شِعرِه، بل العَكسُ هو الصَّحيحُ، أي أنَّ رُؤبةَ هو الَّذي اقتَبسَ منَ القُرآنِ الكَريمِ.
4- وأمَّا ما نَقلُوه عن زيدِ بنِ نفيل، فهي على رَكاكَتِها تُنسَبُ أيضاً لأُميَّةَ بنِ أبي الصَّلتِ، وهذا يَكشِفُ عن تَخبُّطِ المُنتحِلينَ، وقد تَقدَّمَ كَلامُ المُستَشرِقينَ فيما يُنسَبُ لابنِ أبي الصَّلتِ بأنَّه يُشابِهُ القُرآنَ الكَريمَ، فَراجِعْ أقوَالَهم.
ودُمتُم سَالِمينَ.
اترك تعليق