مَوضُوعُ الشُّرُورِ الَّذي شَغلَ المُلحِدِينَ قَدِيماً وحَدِيثاً.
مِن الأمُورِ التي دَعتْ الكَثِيرَ مِن المُلحِدِينَ إلى الإلحَادِ هو مَوضُوعُ الشُّرُورِ في هذا العَالَمِ وما يَروْنَه مِن حُدُوثِ الزَّلازِلِ والبَراكِينِ والمَصَائبِ التي تُصِيبُ النَّاسَ ومِنْهم أطفَالٌ وأنَاسٌ أبرِيَاءُ لا ذَنْبَ لهم، ولهَذا أنكَرُوا وُجُودَ خَالِقٍ لِلكَونِ، لأنَّ الإلَه - حَسَبَ قَولهِم - لا يُمكِنُ أنْ يَقتُلَ الآلَافَ بدُونِ ذَنْبٍ بسَبَبِ هذِهِ المَصَائِبِ والكَوارِثِ.
يَقُولُ انتوني فلو في كِتَابِه "هُناكَ إلَهٌ": (أحدُ الأسبَابِ المُبكِّرةِ لتَحوُّلِي إلى الإلحَادِ كانَ مَوضُوعَ وُجُودِ الشُّرُورِ في العَالَمِ) (1). انتَهى.
وحتى نُحِيطَ بهَذا المَوضُوعِ - وُجُودُ الشُّرُورِ في العَالَمِ - بشِكْلٍ تَامٍّ عَليْنا مُلاحَظَةُ هذِهِ النُّقَاطِ أو المُقدِّمَاتِ الثَّلَاثِ:
النُّقطَةُ الأولَى: أنَّ هذا الكَونَ قد خَلَقَه خَالِقُه وِفقَ نِظَامِ العِلِّيَّةِ، أي وِفقَ قَانُونِ السَّببِ والمُسبَّبِ، فالنَّارُ خُلِقتْ مُحرِقةً، فلا يُمكِنُ في الظُّرُوفِ الإعتِيادِيَّةِ أنْ يَضعَ الإنسَانُ يَدَه في النَّارِ ولا تَحترِقُ، أو يَرمِيَ نَفْسَه مِن شَاهقٍ ولا يَسقُطُ على الأرْضِ، أو يَتنَاولَ السُّمَّ القَاتِلَ ولا يَمُوتُ، أو تَصدِمَه سَيَّارةٌ مُسرِعَةٌ ولا يَتأثَّرُ بشَيءٍ، ولو تَدخَّلَ الخَالِقُ في مَنعِ قَوانِينِ الطَّبِيعةِ مِن أداءِ عَمَلِها وِفقَ نِظَامِ العِلِّيَّةِ هذا لتَعطَّلتْ الحَياةُ كُلُّها، وأصبَحَ في أقلِّ الأحْوَالِ بإمكَانِ السُّرَّاقِ أنْ يَسرِقُوا ما يَشَاؤُونَ مِن النَّاسِ والبُيُوتِ ويَقفِزُونَ بَينَ العِمارَاتِ ولا يُصِيبُهُم أذىً ، أو يَعبُرَ النَّاسُ في الشَّوارِعِ مِن أيِّ مَكَانٍ يُرِيدُونَ والسَّيارَاتُ تَجرِي مُسرِعَةً ولا يَصطَدِمُونَ بشَيءٍ، وهكَذا تَتحَوَّلُ الدُّنيَا إلى فَوضَى عَارِمةٍ لا يَحكُمُها نِظَامٌ طَبِيعيٌّ ولا تُوجَدُ فِيْها قَوانِينُ لأيِّ شَيءٍ، فيَتعَطَّلَ نِظَامُ الحَيَاةِ والمُجتَمعَاتِ بأكمَلِه.
وإلى ضَرُورةِ أنْ تَبقَى القَوانِينُ الطَّبِيعيَّةُ بطَبِيعَتِها التَّكوِينيَّةِ التي وُجِدَتْ عَليْها لتَستَمِرَّ الحَياةُ بشِكْلٍ سَلِيمٍ أشَارَ جُملَةٌ مِن الفَلاسِفَةِ الغَربيِّينَ إلى فَرَضيَّةٍ أسمَوْهَا بفَرَضيَّةِ "المُنافِي لخِلَافِ الوَاقِعِ".
يَقُولُ جون هيك (2) في كِتَابِه "فَلسَفةِ الدِّينِ":
(لنَقُل: إنَّ هذا العَالَمَ قد تَحوَّلَ إلى جنَّةٍ على خِلَافِ وَاقِعِه، حتى لم نَعُدْ نَتصوَّرُ فيْه وُجُودَ أيِّ نَوعٍ مِن أنَواعِ الحُزنِ والألَمِ. إنَّ تَبِعَاتِ هذِهِ المَسألةِ سَتكُونُ أبعَدُ مما نَتصوَّرُ. فمَثلاً: لنْ يَكُونَ هُناكَ شَخصٌ بإمكَانِه أنْ يُصِيبَ شَخْصاً آخَرَ بالأذَى أبداً، وسَوفَ تَتحوَّلُ مدية القَاتِلِ إلى قِطعَةٍ وَرقِيَّةِ، وتَستَحِيلُ الطَّلقةُ النَّارِيةُ إلى رَمادٍ تَذرُوهُ الرِّيَاحُ، وعِندَما يَسرُقُ النَّشَّالُ حَقِيبةً نِسَائيَّةً تَحتَوِي على مَليُونِ دِينَارٍ، سوفَ تَمتلِئُ بقُدرَةِ قَادرٍ بمَلايِينِ الدَّنانِيرِ الأُخْرى! ومَهْما حَصَلتْ مِن أحدَاثِ خِدَاعٍ أو تَزوِيرٍ أو تآمُرٍ أو خِيَانةٍ، فإنَّ ذلِك لنْ يُحدِثَ أيَّ ضَررٍ في النَّسِيجِ الإجتِمَاعِي، ولنْ يُصِيبَ السُّوءُ شَخْصاً إنْ هو تَعرَّضَ لحَادِثةِ دَهسٍ أو ما شَاكَلَها، وإنَّ مُتسَلِّقَ الجِبَالِ والَّذي يَبنِي المَنائِرَ والمُراهِقَ المشَاكِسَ لنْ يُصَابَ بالضَّررِ إنْ هو سَقطَ مِن مَكَانٍ مُرتَفعٍ نَتِيجةً لإهمَالِه أو تَهوُّرِه، لأنَّ قَانُونَ الجَاذِبيَّةِ سَيتعَطَّلُ ويَنزِلُ إلى الأرْضِ كما يَفعَلُ المُظلِّي بانْسِيَابيَّةٍ وهُدُوءٍ وسوفَ تَتَلقَّاهُ الأرْضُ بكُلِّ حَنانٍ ومَحبَّةٍ، ولنْ يَخشَى السَّائِقُ المُجازِفُ وُقُوعَ حَادِثةِ اصْطِدَامٍ عَنِيفٍ نَتِيجَةً لحَركَاتِه الإكرُوبَاتيَّةِ التي سَيُبالِغُ في القِيَامِ بها. ولن يَجِدَ الإنسَانُ ضَرُورةً للعَمَلِ وكَسبِ الرِّزقِ؛ لأنَّ الإمتِنَاعَ عن العَمَلِ لن تَترَتَّبَ عليْه آثارٌ سَيِّئةٌ. ولنْ يَكُونَ هُناكَ مِن مُبرِّرٍ لتَفقُّدِ حَالِ الآخَريِنَ عِندَ وُقُوعِ الحَوادِثِ؛ لأنَّنا على يَقِينٍ مُسبَقٍ مِن عَدمِ تَرتُّبِ الآثَارِ السَّيئَةِ، وإنَّ القَوانِينَ الطَّبِيعيَّةَ في هذا العَالَمِ سوفَ تَتخَلَّفُ).
ثم يُشِيرُ جون هيك إلى تَبِعاتِ تَخلُّفِ القَوانِينِ الطَّبِيعيَّةِ في هذا العَالَمِ عن العَمَلِ، فيَقُولُ:
(في هذِهِ الحَالةِ لنْ تَكُونَ هُناكَ مِن حَاجَةٍ إلى تَأسِيسِ العُلُومِ؛ إذ لا يَكُونُ هُناكَ قَواعِدُ بُنيَويَّةٌ ثَابِتةٌ في هذا العَالَمِ حتى يَكُونَ خَاضِعاً لدِرَاسَتِه. ومِن أجلِ رَفعِ المَشَاكلِ والصِّعَابِ المَوجُودَةِ في مُحِيطِنا الوَاقِعيِّ مِن خِلَالِ القَوانِينِ الخَاصَّةِ، سوفَ تَتحوَّلُ الحَياةُ إلى ما يَشْبَهُ الحِلمَ الَّذي نَشعُرُ فيْه بسَعادَةٍ غَامِرةٍ ولكنَّهَا غَيرُ هَادِفةٍ، ولذلِك نَسِيرُ دَاخِلَ دَائِرةِ هذا الحِلمِ في كَافَّةِ الإتِّجاهَاتِ).
ثم يَستطْرِدُ جون هيك قَائِلاً: (إنَّ هذا العَالَمَ رُغمَ أنَّه يُوفِّرُ لنا الحَياةَ السَّعِيدةَ، ولكنَّه لا يُناسِبُ الإنسَانَ إنْ هو أرَادَ الوُصُولَ إلى الرُّقيِّ والكَمَالِ على مُسْتَوى الأخلَاقِ الشَّخصِيَّةِ. بل قد يَكُونُ هذا العَالَمُ مِن أسْوأِ العَوالِمِ المُتصوَّرَةِ في هذا المَجَالِ) (3). انتَهى.
النُّقطَةُ الثَّانِيةُ: عَليْنا الإلتِفَاتُ جِداً إلى أنَّه لا يُوجَدُ شرٌّ مُطلَقٌ في هذا الكَوْنِ، بل كُلُّ ما نَراهُ مِن شُرُورٍ إنَّما هي شُرُورٌ نِسبِيَّةٌ، فالسُّمُّ الَّذي تَحمِلُه الأفعَى هو شَرٌّ بالنِّسبَةِ إليكَ، لكنَّه خَيرٌ بالنِّسبَةِ إليْها ويُعتَبرُ وَسِيلةَ حَياةٍ ودِفَاعٍ عن وُجُودِها، والزَّلازِلُ التي تَخسِفُ بالبُيُوتِ والعِمَارَاتِ هي شَرٌّ بالنِّسبَةِ لأهلِ هذِهِ البُيُوتِ والعِمَارَاتِ لكنَّها بالنِّسبَةِ للأرْضِ هي خَيرٌ لها، ولولَاها لانْفجَرَتْ وتَهشَّمَتْ كمَا يُؤكِّدُ عُلمَاءُ الجيُولُوجيَا، وهكَذا البَراكِينُ هي لَيسَتْ شرّاً مَحْضاً، بل فيْها مِن الفَوائِدِ التي يَذكُرُها العُلمَاءُ مِن تَجدُّدِ القِشرَةِ الأرْضيَّةِ وتَكوِينِ الهِضَابِ والسُّهُولِ، وتَخصِيبِ التُّربَةِ، وخُرُوجِ الضَّغْطِ والحَرارَةِ مِن بَاطِنِ الأرْضِ، وتَكوُّنِ المَاسِ، وفَصْلِ المَعادِنِ، وتَكوِينِ صُخُورِ البَازلت ذَاتِ المَتانَةِ العَاليَةِ التي تُستَخدَمُ في البِنَاءِ، وفي رَصِّ السِّكَكِ الحَدِيديَّةِ وغَيرِها كَثِيرٌ مِن الفَوائِدِ، وحتى هذِهِ الآلَامِ والأوجَاعِ التي تُصِيبُ الإنسَانَ هي مُنبِّهَاتٌ لعِلَاجِ خَطرٍ أكبَرَ، فَالوَجعُ الَّذي يُصِيبُ الأسنَانَ مَثلاً هو مُنبِّهٌ لمُعالجَتِهَا مِن تَلوُّثٍ وضَرَرٍ أكبَرَ قد يَقعُ، وهكَذا.
فعَليْنا أنْ نَلتَفِتَ إلى هذِهِ النُّقطَةِ ولا نَغفُلَ عنْها بأنَّه لا يُوجَدُ شَرٌّ مَحضٌ في هذا العَالَمِ، بل هي شُرُورٌ نِسبِيَّةٌ، والشُّرُورُ النِّسبِيَّةُ تَفرُضُها الطَّبِيعةُ التَّكوِينيَّةُ التي تَقدَّمَتْ الإشَارةُ إليْها في النُّقطَةِ الأولَى والتي اتَّفقَ العُلمَاءُ على أنَّه لا يُمكِنُ أنْ تَختَلِفَ أو تَتخَلَّفَ - هذِهِ الطَّبِيعةُ التَّكوِينيَّةُ - وإلا وَقعَ النَّاسُ والكَونُ في فَوضَى عَارِمةٍ.
النُّقطَةُ الثَّالِثةُ: حتى نَفْهمَ كِتَاباً ما أو رِوايَةً تَقعُ تَحتَ أيدِينَا، لا بُدَّ مِن قِراءَةِ جَمِيعِ فُصُولِها، ولا يَصِحُّ الإكتِفَاءُ بقِراءَةِ فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْها فقط ثم الحُكمُ عَليْها، فهَذا مُخالِفٌ للإنصَافِ والمَوضُوعيَّةِ في الحُكمِ، فأنْتَ مَثلاً لو كُنتَ في يَومٍ ما عُضْواً في لِجْنةٍ لمُناقَشةِ رِسالَةِ دُكتُورَاه قُدِّمَتْ إليكَ حَولَ مَوضُوعٍ ما تَتكَوَّنُ مِن سِتَّةِ فُصُولٍ، فلا يَحِقُّ لك قِراءَةُ فَصْلٍ وَاحدٍ منْها ثم الحُكمُ على مُؤلِّفِهَا بأنَّه غَيرُ مُؤهَّلٍ ولم يَكُنْ مُوفَّقاً في دِرَاسَتِه هذِهِ، فهَذا التَّصرَّفُ منكَ لا يَقبَلُ به أحدٌ وتَكُونُ أنْتَ غَيرَ المُؤهَّلِ للمُناقَشةِ المَذكُورَةِ وليسَ الطَّالِبَ صَاحِبَ الدِّراسَةِ.
وهكَذا حَالُنا نحنُ مع ما يَجرِي في هذا العَالَمِ، فهُو فَصْلٌ وَاحِدٌ أو حَلقَةٌ وَاحِدةٌ مِن سِلسِلَةِ عَوالِمَ وحَلقَاتٍ تَرتَبِطُ بَعضُهَا ببَعْضِ ارْتبَاطاً وَثِيقاً، ولا يُمكِنُ لنا عَزلُ هذا العَالَمِ عن العَوالِمِ الأُخْرَى التي تَرتبِطُ به ثم الحُكمُ عليْه بشِكْلٍ مُجتَزئٍ، فهَذا خَللٌ وتَقصِيرٌ كَبِيرٌ في دِراسَةِ الأمُورِ، وهو مُخالِفٌ للمَوضُوعيَّةِ والعَقلَانيَّةِ جَزماً، لأنَّ مُوجِدَ هذا العَالَمِ قد أخبَرَنا بارْتبَاطِ هذا العَالَمِ بعَالَمٍ آخَرَ اسْمُه عَالَمُ الآخِرَةِ، وأنَّ الكَثِيرَ مِن المصَائِبِ والبَلاءَاتِ التي تَجرِي في هذا العَالَمِ لها عِلَاقةٌ بعَالَمِ الآخِرَةِ، فانْظُرْ إلى هذِهِ الآيَاتِ مِن القُرآنِ الكَرِيمِ حتى تُدرِكَ المَعنَى المَذكُورَ:
يَقُولُ تَعَالى في سُورةِ الأنبِيَاءِ، الآيَة 35: ((ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتْنةً وإليْنا تُرجَعُونَ)).
ويَقُولُ تَعَالى في سُورَةِ البَقَرةِ، الآيَة 155 ((ولِنَبلُوَكُم بشَيءٍ مِن الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِن الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابِريِنَ الَّذينَ إذا أصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إليْه رَاجِعُونَ)).
ويَقُولُ تَعَالى في سُورَةِ السَّجدَةِ، الآيَة 21 ((ولَنُذِيقنَّهُم مِن العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ لعَلَّهُم يَرجِعُونَ)).
ويَقُولُ تَعَالى في سُورَةِ العَنكَبُوتِ، الآيَة 40 (( كُلّاً أخَذنَا بذَنبِهِ فمِنْهُم مَن أرسَلنَا عليْه حَاصِباً ومِنْهُم مَن أخَذَتْه الصَّيحَةُ ومِنْهُم مَن خَسَفْنَا به الأرْضَ ومِنْهُم مَن أغْرَقْنا وما كَانَ اللهُ ليَظْلِمَهُم ولَكنْ كَانُوا أنفُسَهُم يَظْلِمُونَ)).
ففي كُلِّ هذِهِ النُّصُوصِ يُخبِرُنا اللهُ سُبحانَه بعِلَاقةِ ما يَجرِي في هذا الكَوْنِ مِن مَصائِبَ وعَذَابَاتٍ بعَالَمٍ آخَرَ اسْمُه عَالَمُ الآخِرَةِ، وهو عَالَمُ الثَّوابِ والعِقَابِ، فقَد تَكُونُ بَعْضُ هذِهِ البَلاءَاتِ عُقُوبَاتٍ مُعجَّلةً لأهْلِها كمَا تُوضِّحُه لنا الآيَةُ الأخِيرَةُ، وقد يَكُونُ مِنْها ابْتلَاءَاتٌ لأجلِ الإمتِحَانِ والإختِبَارِ ورَفعِ الدَّرجَاتِ كمَا تُوضِّحُه الآيَتَينِ الأوَّلِيَّتَينِ، وقد يَكُونُ مِنْها تَنبِيهَاتٌ وعِظَاتٌ للصَّحْوِ مِن عَالَمِ الغَفلَةِ كمَا تُوضِّحُه الآيَةُ الثَّالِثةُ، وهكَذا.
(وهُنا مُلاحَظةٌ عِلمِيَّةٌ أذكُرُها في هذا المَوضِعِ، لأنَّه قد يُشكِلُ البَعْضُ بأنَّنا نَستَدِلُّ بآيَاتٍ قُرآنيَّةٍ في إثبَاتِ مُدَّعَانا، والطَّرَفُ الآخَرُ هو مِن المُلحِدِينَ الَّذي لا يُؤمِنُ بقُرآنٍ ولا إلَهٍ، فنَقُولُ:
نحنُ نَتكلَّمُ في مَوضُوعِ الشُّرُورِ، وهذا المَوضُوعُ مُتأخِّرٌ عن مَوضُوعِ خَلْقِ العَالَمِ ووُجُودِه، وقد جَعَلَه المُلحِدُ سَبَباً في إلحَادِه، ومِن هُنا أرَدْنا أنْ نُلفِتَ نَظَرَه إلى أنَّك لو أرَدْتَ أنْ تَعرِفَ مَوضُوعَ الشُّرُورِ في هذا العَالَمِ بشِكْلٍ كَامِلٍ فعَليكَ أنْ تَعرِفَ في مَرحَلةٍ سَابِقَةٍ أنْ لهَذا العَالَمِ مُوجِداً وأنَّه قد أوجَدَه وِفقَ هذا النِّظَامِ الَّذي أشَرْنا إليْه ووِفقَ هذِهِ العِلَاقةِ بَينَ العَوالِمِ التي تَقدَّمَ بَيَانُها، ومِن هُنا عَليكَ التَّحقُّقُ في مَرحَلَةٍ سَابِقَةٍ مِن وُجُودِ خَالِقٍ لهذا الكَوْنِ أوَّلاً، ثم التَّحقُّقُ مِن نُصُوصِه التي وَردَتْ إليْنا ثَانِياً، ثم الخَوْضُ في مَوضُوعِ الشُّرُورِ ثَالِثاً، ولا يَحِقُّ لك القَفزُ على هذِهِ الأمُورِ والإنتِهَاءُ إلى نَتِيجَةٍ تَفتَقِرُ للكَثِيرِ مِن التَّحقِيقِ والتَّدقِيقِ، فهَذا مُخالِفٌ للمَوضُوعيَّةِ ولا يَتطَابَقُ مع أيِّ مَنهَجٍ عِلمِيٍّ في دِراسَةِ أيَّةِ ظَاهِرةٍ أو حَالَةٍ في هذا الكَوْنِ).
فإذا عَرَفْنا هذِهِ المُقدِّمَاتِ أو النُّقاطَ الثَّلاثَةَ التي تَقدَّمَ بَيَانُها لا يَأتِي الإشْكَالُ الَّذي يُغرِّدُ به المُلحِدُونَ عَبرَ التَّأرِيخِ بأنَّه لو كَانَ هُناكَ خَالِقٌ لهذا الكَونِ لمَنَعَ هذِهِ الشُّرُورَ والكَوارِثَ الطَّبِيعيَّةَ التي قد يَتضرَّرُ مِنْها أُنَاسٌ أبرِيَاءُ لا ذَنْبَ لهم كَالأطفَالِ مَثلاً مِن الحُدُوثِ؛ فإنَّه قد تَقدَّمَ في النُّقطَةِ الأُولَى بأنَّ هذا الكَوْنَ قد خَلقَه خَالِقُه وِفقَ نِظَامِ العِلِّيَّةِ، فَالحَرائِقُ والفَيضَانَاتُ والزَّلازِلُ والبَراكِينُ المُدمِّرةُ التي تَحْدُثُ لا يُمكِنُ أنْ يَنْجُوَ مِنْها مَن يَقعُ تَحتَ أسبَابِها، طِفلاً كَانَ أو امْرأةً، أو كَانَ الوَاقِعُ تَحتَ أسبَابِها مُطِيعاً لرَبِّه أو عَاصِياً، فنِظَامُ العِلِّيَّةِ هُنا حَاكِمٌ على هذِهِ المَوجُودَاتِ جَمِيعِها، وهو نِظَامٌ لا يَختَلِفُ ولا يَتخَلَّفُ وِفقَ الأسبَابِ الطَّبِيعيَّةِ، فقَد تَكُونُ هذِهِ الإبتِلَاءَاتُ عُقُوبَاتٍ مُعجَّلةً لأهْلِها (كمَا يُشِيرُ إليْه البَعْضُ بأنَّ المنَاطِقَ التي حَدَثَ فيْها زِلزَالُ تسُونَامِي هي مَناطِقُ تَحدُثُ فيْها الفَاحِشةُ كَثِيراً مِن السِّياحَةِ الجِنسِيَّةِ والإتجَارِ بالأطفَالِ ونَحوِ ذلِك مِن المُنكَرَاتِ)، أو تَكُونُ ابْتلَاءَاتٍ الغَرضُ مِنْها رَفعُ دَرجَاتِ أهْلِها الصَّابِرينَ وتَهذِيبِ نُفُوسِهِم (كمَا أشَارَتْ إليْه بَعْضُ الآيَاتِ المُتقدِّمَةِ)، أو تَكُونُ عِظَاتٍ ليَتَّعِظَ مِنْها النَّاسُ ولا تَغُرنَّهم هذِهِ الحَياةُ الدُّنيَا بزُخرُفِها وزِبرِجِها ويُدرِكُوا أنَّ أمرَ اللهِ إذا أتَى هو كَلَمحِ البَصَرِ، تَماماً كهذِهِ الزَّلازِلِ والبَراكِينِ التي تَحدُثُ فُجْأَةً فتَجْرُفُ مَن يَقعُ تَحتَ سَطْوَتِها بلَمحِ البَصَرِ.. أمَّا الأطفَالُ والأبرِيَاءُ مِن النَّاسِ الَّذينَ يَقَعُونَ ضَحايَا لهذِهِ الكَوارِثِ وهم لا يَنطَبِقُ عَليْهم أيُّ وَصفٍ مِن الأوصَافِ المُتقدِّمةِ (العَذَابُ المُعجَّلُ، أو الإبتِلَاءُ لغَرَضِ رَفعِ الدَّرجَاتِ ، أو العِظَةُ والعِبرَةُ) فَالخَالِقُ سُبحانَه بَعدَ أنْ ثَبتَ عِندَنا عَدْلُه بالدَّلِيلِ العَقلِيِّ القَطعِيِّ لا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ أبداً، وقد جَاءَتْ بَعضُ النُّصُوصِ تُشِيرُ إلى أنَّه سُبحانَه سَيُشمِلُهُم برَحمَتِه ويُدخِلُهُم الجنَّةَ مِن غَيرِ حِسَابٍ؛ وعَليْه لم يَبقَ أمَامَ دُعَاةِ الإلحَادِ شَيءٌ يَتشَبَّثُونَ به في المَوضُوعِ المَذكُورِ سِوَى العِنَادِ والمُكَابَرةِ وصَمِّ الآذَانِ عن سَمَاعِ قَولِ العِلمِ والعَقلِ.. والإنسَانُ على نَفسِهِ بَصِيرةٌ ولو ألقَى مَعاذِيرَه.
________________
(1) هناك إله : كيف غيّر أشهر ملحد رأيه ؟ : 18.
(2) جون هيك ، فيلسوف انكليزي ، ولد سنة 1922م ، اهتم بفلسفة الدين كثيرا ، وكانت له مساهمات متعددة في إبستمولوجيا الدين والتعددية الدينية .
(3) فلسفة الدين : 101 و102.
اترك تعليق