حَدِيثُ الغَدِيرِ نصٌّ جَلِيٌّ في خِلَافةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ عليٍّ (ع). 

مُحمَّد جَوَاد/: السَّلامُ علَيكُم.. هُناكَ إشكَالٌ يُطرَحُ بقُوَّةٍ هذِهِ الأيَّامُ حَولَ حَديِثَي الغَدِيرِ والمَنزِلَةِ اللَّذَينِ يُعدَّانِ مِن أقوَى أدِلَّةِ إمَامةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ (ع) إنْ لم يَكُونا أقوَاهَا.  والشُّبهَةُ باخْتِصارٍ هي: أنَّ بَعضَ عُلمَائِنا كالشَّرِيفِ المُرتَضَى في الشَّافِي والشَّيخِ الطُّوسيِّ في تَلخِيصِ الشَّافِي يُقسِّمَانِ نُصُوصَ الإمَامةِ إلى قِسْمَينِ هُما:  1- النَّصُّ الخَفيُّ، وهو النَّصُّ الَّذي لا نَقطَعُ على أنَّ سَامِعِيه مِن الرَّسُولِ (صلَّى اللهُ علْيه وآلِه) عَلِمُوا النَّصَّ بالإمَامةِ منْه اضْطِراراً، ولا يَمتَنِعُ عِنْدَنا أنْ يَكُونُوا عَلِمُوه اسْتِدلَالاً مِن حَيثُ اعْتِبارُ دِلَالةِ اللَّفظِ، وما يَحسُنُ أنْ يَكُونَ المُرَادَ أو لا يَحسُنُ. وقد مثَّلَ المُرتَضَى لهَذا النَّوعِ مِن النَّصِّ بحَدِيثَي الغَدِيرِ وتَبُوكٍ، فهُما مِن النُّصُوصِ الخَفيَّةِ عِندَه.   وقد أكَّدَ أيْضاً في رَسائِلِه ذلِك فقَالَ: (وأمَّا النَّصُّ الخَفيُّ: فهُو الَّذي ليسَ في صَرِيحةِ لَفظِهِ النَّصُّ بالإمَامةِ، وإنَّما ذلِك في فَحوَاهُ ومَعنَاهُ، كخَبَرِ الغَدِيرِ، وخَبَرِ تَبُوكٍ، والَّذينَ سَمِعُوا هَذَينِ النَّصَّينِ مِن الرَّسُولِ على ضَرْبَينِ: عَالِمٌ بمُرَادِه (علْيه السَّلامُ)، وجَاهِلٌ به.   2- النَّصُّ الجَليُّ: وهو ما عَلِمَ سَامِعُوه مِن الرَّسُولِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه) مُرَادَه منْه باضْطِرارٍ، وإنْ كُنَّا الآنَ نَعلَمُ ثُبُوتَه والمُرَادَ منْه اسْتِدلَالاً، وهو النَّصُّ الَّذي في ظَاهِرِه ولَفظِهِ الصَّرِيحِ بالإمَامةِ والخِلَافةِ، ويُسمِّيهِ أصْحَابُنا النَّصَّ الجَليَّ كقَولِه (عليْه السَّلامُ): (سَلِّمُوا على عليٍّ بإمْرةِ المُؤمِنِينَ) و(هَذا خَلِيفَتِي فِيكُم مِن بَعدِي فَاسْمَعُوا له وأطِيعُوا).   الأسئِلةُ:   1- ما هو مَوقِفُ عُلمَاءِ الإمَاميَّةِ مِن هَذا التَّقسِيمِ، فهَل يُوجَدُ في نُصُوصِ إمَامةِ الأمِيرِ (ع) نُصُوصٌ خَفِيةٌ لا يُعلَمُ المُرَادُ مِنْها إلا استِدلَالاً، ونُصُوصٌ جَلِيةٌ يُعلَمُ المُرَادُ مِنْها إضطِراراً؟؟   2- بِنَاءً على هَذا التَّقسِيمِ يَلزَمُ مِن ذلِك أنَّ دِلَالةَ هَذَينِ الحَدِيثَينِ غَيرُ وَاضِحَةٍ وغَيرُ مَعرُوفَةٍ لكُلِّ أحدٍ، وتَحتَاجُ إلى بَذلِ جُهدٍ واسْتِدلَالٍ، فإنَّ حَدِيثَ الغَدِيرِ لا يَدلُّ على إمَامةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ (ع) بشِكْلٍ وَاضِحٍ وصَرِيحٍ، فَالمَسألةُ نَظَريَّةٌ ولَيسَتْ ضَرُوريَّةً.    3- لماذا يَستَخدِمُ رَسُولُ اللهِ (ص) أُسلُوباً كهَذا ليُعبِّرَ عن قَضِيَّةٍ مَصِيريَّةٍ كهذِهِ، أمَا كَانَ عليْه أنْ يَستَخدِمَ نصّاً جَليّاً؟؟    4- وهو الأَهمُّ: ذَكرَ الخَواجةُ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ في كِتَابِه "رِسَالةِ قوَاعِدِ العَقائِدِ" ص 84 ما خُلاصَتُه: أنَّ طَرِيقَ تَعيِينِ الإمَامِ عِندَ الإثنَي عَشَريَّةِ إنَّما يَحصُلُ بالنَّصِّ الجَليِّ لا غَيرَ.  فَيأتِي الإشكَالُ: بما أنَّ حَدِيثَي الغَدِيرِ والمَنزِلَةِ نصَّانِ خَفيَّانِ، والنَّصُّ الخَفيُّ ليسَ طَرِيقاً لتَعيِينِ الإمَامِ، وعليْه فلا يَصُحُّ الإستِدلَالُ بهِما على الإمَامةِ.   هذِهِ هي أسْئلَتِي وأعتَذِرُ عن الإطَالةِ.

: اللجنة العلمية

 الأخُ مُحمَّد المُحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركَاتُه. 

 لا نَتَّفقُ مع السَّيدِ المُرتَضَى (رَحمَه اللهُ) بأنَّ حَدِيثَ الغَدِيرِ هو نَصٌّ خَفيٌّ على إمَامةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ)، بل هو مِن النُّصُوصِ الجَليَّةِ الوَاضِحَةِ على الإمَامةِ والخِلَافةِ، شَهِدَ بذلِك أمِيرُ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ) نَفسُه والصَّحَابةُ والشُّعرَاءُ وعُلمَاءُ أهلِ السُّنةِ أيْضاً، وإليكَ البَيَانُ:

 1- احْتجَّ أمِيرُ المُؤمِنِينَ عليٌّ (عليْه السَّلامُ) نَفسُه بحَدِيثِ الغَدِيرِ عِندَما نُوزِعَ في خِلَافتِه.. فلو لم يَكُنْ حَدِيثُ الغَدِيرِ دالّاً على الخِلَافةِ بشِكْلٍ وَاضِحٍ وجَليٍّ لمَا كَانَ هُناكَ وَجهٌ للإحتِجَاجِ به عِندَ المُنازَعةِ على الخِلَافةِ.. وهَذا الإحتِجَاجُ قد نَصَّ عليْه جَمعٌ مِن عُلمَاءِ أهلِ السُّنةِ في كُتُبِهِم.. نَذكُرُ مِنهُم:

     عليُّ بنُ بُرهانِ الدِّينِ الحَلبِي، المتوَفَّى 841 هـ ، قَالَ في "سِيرَته": (أنَّه كرَّم اللهُ وَجهَه لم يَحتَجْ بذلِك [أي بحَدِيثِ الغَدِيرِ] إلَّا بَعدَ أنْ آلتْ إليْه الخِلَافةُ ردّاً على مَن نَازَعَه فيْه) (1). انتَهى.

 ابنُ حَجَر المَكيُّ، المتوَفَّى سَنة 974هـ، قَالَ في "الصَّواعقِ المُحرِقَةِ": (وفي رِوايَةٍ لأحمدَ أنَّه سَمِعَه مِن النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ) ثَلاثُونَ صَحابِيّاً، وشَهِدُوا به لعِليٍّ لمَّا نُوزِعَ أيَّامَ خِلَافَتِه...) (2). انتَهى.

 المُلا عليٌّ القَارِي، المتوَفَّى سَنة 1014هـ، قَالَ في "مرقَاةِ المَفَاتِيحِ": (في رِوَايةِ أحْمدَ أنَّه سَمِعَه مِن النَّبيِّ ثَلاثُونَ صَحابِيّاً، وشَهِدُوا به لعِليٍّ لمَّا نُوزِعَ أيَّامَ خِلَافَتِه) (3). انتَهى.

 أبو عَبدِ اللهِ الزُّرقَانيُّ المَالِكيُّ، المتوَفَّى 1122هـ، قَالَ في "شَرحِ المَواهِبِ": (وهو مُتوَاترٌ رَوَاه سِتَّةَ عَشرَ صَحابِيّاً، وفي رِوَايةٍ لأحْمدَ أنَّه سَمِعَه مِن النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ) ثَلاثُونَ صَحابِيّاً وشَهِدُوا به لعِليٍّ لمَّا نُوزِعَ أيَّامَ خِلَافَتِه) (4). انتَهى.

     فلو لم يَكُنْ حَدِيثُ الغَدِيرِ دالّاً على الخِلَافةِ بشِكْلٍ وَاضِحٍ وجَليٍّ لم يَحتَجْ به أمِيرُ المُؤمِنِينَ عليٌّ (عليْه السَّلامُ) عِندَما نُوزِعَ في خِلَافَتِه؛ لأنِّ الإحتِجَاجَ بالنُّصُوصِ الخَفيَّةِ في مَقَامِ المُنازَعةِ لا حُجِّيَّةَ لها.

 2- رَوَى أحْمدُ بنُ حَنبَل في "مُسنَدِه" بسَنَدٍ صَحِيحٍ عن رِيَاحِ بنِ الحَرثِ قَالَ: جَاءَ رَهطٌ إلى عليٍّ بالرَّحبَةِ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَليكَ يا مَولَانا. فقَالَ: كيفَ أكُونُ مَولَاكُم وأنتُم قَومٌ عَربٌ؟ قَالُوا: سَـمِعْنا رَسُولَ اللهِ يَقُولُ يَومَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَن كُنتُ مَولَاهُ فهَذا مَولَاهُ. قَالَ رِيَاحٌ: فلمَّا مَضَوا اتَّبعْتُهُم فسَألْتُ: مَن هؤلَاءِ؟ قَالُوا: نَفرٌ مِن الأنصَارِ فِيْهم أبو أيُّوبَ الأنصَاريُّ"(5). 

 فهُنا نَجِدُ هؤلَاءِ الصَّحابَةَ مِن الأنصَارِ الَّذينَ أقبَلُوا إلى الكُوفَةِ والَّذينَ  سَمِعُوا حَدِيثَ الغَدِيرِ مُباشَرةً مِن رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) يُفسِّرُونَه بنُفُوذِ الحُكْمِ والطَّاعةِ، أي نُفُوذُ حُكْمِ عليٍّ (عليْه السَّلامُ) فِيْهم ولُزُومُ إطاعَتِهِم له كمَا يُطِيعُ العَبدُ سَيَّدَه، بدَلِيلِ أنَّ عليّاً (عليْه السَّلامُ) أشكَلَ علَيْهم بإشكَالٍ استِنكَارِيٍّ أرَادَ مِنْهم بَيَانَ الحَقِيقَةِ أكثَرَ للسَّامِعِينَ، فقَالَ لهم: كيفَ أكُونُ مَولَاكُم وأنتُم قَومٌ عَربٌ؟؟!!

  أي كيفَ تَكُونُونَ عَبِيداً لي والحَالُ أنَّكُم مِن العَربِ الأحرَارِ الَّذينِ لا يَصُحُّ اسْتِرقَاقُهُم شَرعاً ولَستُم مِن المَوالِي - الَّذينَ يَجُوزُ اسْتِرقَاقُهُم في ذلكَ الزَّمانِ - كالعَجَمِ والرُّومِ.. فقَالُوا: سَـمِعنَا رَسُولَ اللهِ يَقُولُ يَومَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَن كُنتُ مَولَاهُ فهَذا مَولَاهُ.. فهؤلَاءِ الأصْحَابُ مِن الأنصَارِ فَهِمُوا مِن الوِلَايةِ الوَارِدَةِ في حَدِيثِ الغَدِيرِ أنَّها تَعنِي نُفُوذَ الحُكمِ والطَّاعَةِ لا بمَعنَى الإستِرقَاقِ.

 وهذا دَلِيلٌ صَرِيحٌ على فَهمِ الصَّحَابةِ التَّامِّ لمُرَادِ رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) مِن حَدِيثِه يَومَ غَدِيرِ خُمٍّ، وعليْه يَكُونُ حَدِيثُ الغَدِيرِ مِن النُّصُوصِ الجَلِيَّةِ والوَاضِحَةِ على الإمَامةِ والحُكمِ؛ لأنَّ مَدارَ الوُضُوحِ والخَفَاءِ في الدَّرجَةِ الأولَى يَكُونُ عِندَ السَّامِعِينَ المُبَاشِرِينَ للكَلَامِ وليسَ عِندَ غَيرِهِم!!

 3- رَوَى السُّيُوطيُّ في كِتَابِه (الإزدِهَارُ فيمَا عَقدَه الشُّعرَاءُ مِن الأحَادِيثِ والآثَارِ) مِن شِعْرِ الصَّحَابيِّ حَسَّانِ بنِ ثَابتٍ في نَفسِ وَاقِعةِ غَدِيرِ خُمٍّ، جَاءَ فيْه:

 يُنادِيهِم يَومَ الغَدِيرِ نَبيُّهُم ... بخُمٍّ فَاسْمعَ بالرَّسُولِ مُنادِيا

وقَالَ فمَن مَولَاكُم ووَليُّكُم ... فقَالُوا ولم يَبدُوا هُناكَ تَعاميَا

إلهكَ مَولَانَا وأنتَ وَليُّنا ... ولم يَلفِ منَّا في الوِلَايةِ عَاصِيَا

فقَالَ له قُم يا عليُّ فإنَّني ... رَضِيتُك مِن بَعدِي إماماً وهَادِيَا

فمَن كُنتُ مَولَاه فهَذا وَليُّه ... فكُونُوا له أنصَارَ صِدقٍ مُوالِيَا

هُناكَ دعَا اللَّهُمَّ وَالِ وليَّه ... وكُنْ بالَّذي عَادَى عليّاً مُعادِيَا(6) 

     فهُنا نَجِدُ بكُلِّ وُضُوحٍ أنَّ هذا الصَّحَابيَّ الشَّاعِرَ قد فسَّرَ حَدِيثَ الغَدِيرِ بالإمامَةِ، وهذا البَيَانُ والشِّعْرُ منْه كَانَ مُباشَرةً بَعدَ حَادِثَةِ التَّنصِيبِ في يَومِ الغَدِيرِ، فلو لم يَكُنْ حَدِيثُ الغَدِيرِ دَالّاً بشِكْلٍ وَاضِحٍ  على الإمامَةِ والخِلَافةِ عِندَ الصَّحابَةِ لمَا صَدرَ هذا البَيَانُ مِن الصَّحَابِيِّ حسَّانَ بنِ ثَابتٍ في وَقْتِ الحَادِثةِ نَفسِهَا، وقد أقَرَّه النَّبيُّ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) على فَهمِهِ هذا، وإقرَارُ النَّبيِّ حُجَّةٌ باتِّفَاقِ المُسلِمِينَ. 

 4- رَوَى التِّرمِذيُّ في سُنَنِه وأحْمدُ في مُسنَدِه بسَنَدٍ صَحِيحٍ أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ أقبَلَ إلى أمِيرِ المُؤمِنِينَ عليٍّ (عليْه السَّلامُ) في يَومِ الغَدِيرِ مُهنِّئاً له بالوِلَايةِ وقَائِلاً له: هَنِيئاً لك يا بْنَ أبِي طَالِبٍ أصْبَحتَ وأمْسَيتَ مَولى كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ (7).

 فهَل تَرَاه أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ قد فَهِمَ مِن الوِلَايةِ النُّصرَةَ والمَحبَّةَ وأقبَلَ مُهنِّئاً أمِيرَ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ) بهذِهِ النُّصرَةِ والمَحبَّةِ.. فهَذا لا يَنسَجِمُ مع قَولِه (أصْبَحتَ وأمْسَيتَ)؛ لأنَّ عليّاً (عليْه السَّلامُ) هو نَاصِرُ المُؤمِنِينَ ومُحِبُّهُم مِن أوَّلِ إسلَامِه، فمَا مَعنَى أنْ يُصبِحَ ويُمسِيَ على نُصرَةِ المُؤمِنِينَ ومَحبَّتِهِم في يَومِ الغَدِيرِ؟!!

 لقد فَهِمَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ مِن الوِلَايةِ أنَّها وِلَايةُ الأمْرِ، ومِن هُنا جَاءَ مُهنِّئاً لعِليٍّ (عليْه السَّلامُ) بهَذا المَنصِبِ الجَدِيدِ، وهَذا المَعنَى - مِن إرادَةِ وِلَايةِ الأمْرِ مِن حَدِيثِ الغَدِيرِ - قد نَصَّ عليْه الشَّيخُ ابنُ عُثَيمِينَ في "مَجمُوعِ فَتَاوَاه ورَسَائِلِه" حِينَ سُئِلَ: عن الإنسَانِ إذا خَاطَبَ مَلِكاً: (يا مَولَايَ).. ما المُرَادُ به؟!!

 فقَالَ في بَيَانِ هذا المَعنَى - بَعدَ أنْ ذَكرَ القِسْمَ الأوَّلَ مِن الوِلَايةِ وهِي الوِلَايةُ المُطلقَةُ لِلَّهِ -: (القِسْمُ الثَّانِي: وِلَايةٌ مُقيَّدةٌ مُضَافةٌ، فهذِهِ تَكُونُ لغَيرِ اللهِ، ولها في اللُّغَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْها: النَّاصِرُ، والمُتولِّي للأُمُورِ، والسَّيدُ، قَالَ اللهُ تَعَالى: (وإنْ تَظَاهَرَا عليْه فإنَّ اللهَ هُو مَولَاهُ وجِبرِيلُ وصَالِحُ المُؤمِنِينَ)، وقَالَ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: (مَن كُنتُ مَولَاهُ فعِليٌّ مَولَاهُ)، وقَالَ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: (إنَّما الوَلَاءُ لمَن أعتَقَ)) (8). انتَهى.

 وهو بَيَانٌ وَاضِحٌ منْه على نَحوِ اللَّفِّ والنَّشْرِ المُرتَّبِ، بأنَّ المُرَادَ مِن المَولَى في حَدِيثِ الغَدِيرِ هو المُتوَلِّي للأُمُورِ.

     ومِن عُلمَاءِ أهلِ السُّنةِ مَن صَرَّحَ بأنَّ حَدِيثَ الغَدِيرِ هو نَصٌّ في الخِلَافةِ.

 قَالَ سِبْطُ ابنُ الجَوزِي في كِتَابِه "التَّذكِرَةِ" في بَيَانِ مَعنَى حَدِيثِ الغَدِيرِ: (..(العَاشِرُ) بمَعنَى الأوْلَى، قَالَ اللهُ تَعَالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} أي: أولَى بكُم... والمرَادُ مِن الحَدِيثِ: الطَّاعةُ المَحضَةُ المَخصُوصَةُ، فتَعيَّنَ العَاشِرُ. ومَعنَاه: مَن كُنتُ أولَى به مِن نَفسِهِ فعِليٌّ أولَى به).

 ثمّ قَالَ: (وقد صَرَّحَ بهَذا المَعنَى الحَافِظُ أبو الفَرَجِ يَحيَى ابنُ سَعِيدٍ الثَّقفِيُّ الأصْبهَانيُّ في كِتَابِه المُسمَّى بمَرَجِ البَحرَينِ، فإنَّه رَوَى هَذا الحَدِيثَ بإسنَادِه إلى مَشَايِخِه وقَالَ فيْه: فأخَذَ رَسُولُ اللهِ بيَدِ عليٍّ وقَالَ: مَن كُنتُ وَلِيَّه وأولَى به مِن نَفسِهِ فعَليٌّ وَلِيُّه. فعَلِمَ أنَّ جَمِيعَ المَعَانِي رَاجِعةٌ إلى الوَجْهِ العَاشِرِ. ودلَّ عليْه أيضاً قَولُه (عليْه السَّلامُ): ألَستُ أولَى بالمُؤمِنِينَ مِن أنفُسِهِم؟ وهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ في إثبَاتِ إمامَتِه وقَبُولِ طَاعَتِه) (9). انتَهى.

     وقد تَسأَلُ هُنا: إذا كَانَ فَهْمُ الصَّحَابةِ وفَهْمُ عُمرَ بنِ الخطَّابِ مِن حَدِيثِ الغَدِيرِ هو إرادَةَ الإمامَةِ والخِلَافةِ بشِكْلٍ وَاضِحٍ وجَلِيٍّ فلِمَاذَا خَالَفُوا هَذا النَّصَّ الجَليَّ ولم يَمتثِلُوا لأمْرِ رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) بتَسلِيمِ الخِلَافةِ لعِليٍّ (عليْه السَّلامُ)؟!!

 نَقُولُ: يُجِيبُك على هَذا السُّؤَالِ عَالِمٌ كَبِيرٌ مِن عُلمَاءِ أهلِ السُّنةِ أنفُسِهِم، وهو الإمَامُ الغَزاليُّ الَّذي شَهِدَ بدِلَالَةِ حَدِيثِ الغَدِيرِ الجَليَّةِ على الإمَامَةِ، وأنَّ الصَّحَابةَ فَهِمُوا مِن الحَدِيثِ هذِهِ الدِّلَالةَ الوَاضِحَةَ على إمَامَةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ) وخِلَافَتِه، ولكنْ غَلِبَ علَيْهم حُبُّ الرِّئاسَةِ فخَالَفُوا نَبيَّهُم في هَذا الأمْرِ، وهو ما حذَّرَهُم منْه رَسُولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) حِينَ قَالَ لهُم: (إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ). (رَوَاه مُسلِمٌ). 

 قَالَ الإمَامُ الغَزالِيُّ في كِتَابِه "سِرِّ العَالَمِينَ": (لكنْ أسفَرتْ الحُجَّةُ وَجهَهَا، وأجمَعَ الجَماهِيرُ على مَتنِ الحَدِيثِ، مِن خُطبَتِه في يَومِ غَدِيرِ خُمٍّ، باتِّفَاقِ الجَمِيعِ، وهُو يَقُولُ: مَن كُنتُ مَولَاهُ فعَليٌّ مَولَاهُ. فقَالَ عُمرُ: بَخٍ بَخٍ يا أبا الحَسَنِ، لقَد أصْبَحتَ مَولَايَ ومَولَى كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ. فهَذا تَسلِيمٌ ورِضىً وتَحكِيمٌ، ثمّ بَعدَ هذا غَلِبَ الهَوَى لحُبِّ الرِّياسَةِ، وحَملِ عَمُودِ الخِلَافةِ، وعُقُودِ البُنُودِ، وخَفقَانِ الهَوَى في قَعقَعةِ الرَّايَاتِ، واشْتِباكِ ازْدحَامِ الخُيُولِ، وفَتحِ الأمصَارِ؛ سَقَاهُم كأسَ الهَوَى، فعَادُوا إلى الخِلَافِ الأوَّلِ، فَنبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِم، واشْتَروْا به ثَمناً قَلِيلاً) (10). انتَهى.

هذا كُلُّه فيمَا يَتعلَّقُ بحَدِيثِ الغَدِيرِ، مع أنَّنا وَجدْنَا السَّيِّدَ المُرتَضَى (رَحِمَه اللهُ) قد قَالَ في كِتَابِه "الشَّافِي" ج 3 ص 99 ما نَصُّه: (قد دَللْنَا على ثُبُوتِ النَّصِّ على أمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ) بأخبَارٍ مُجمَعٍ على صِحَّتِها مُتَّفَقٍ علَيْها، وإنْ كَانَ الإختِلَافُ وَاقِعاً في تَأوِيلِهَا، وبيَّنَّا أنَّها تُفِيدُ النَّصَّ عليْه (عليْه السَّلامُ) بغَيرِ احْتِمَالٍ ولا إشكَالٍ كقَولِه (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه): (أنتَ مِنِّي بمَنزِلةِ هَارُونَ مِن مُوسَى) و(مَن كُنتُ مَولَاهُ فعليٌّ مَولَاهُ)). انتَهى.. فهُنا كَلَامُه (رَحِمَه اللهُ) وَاضِحٌ بأنَّ حَدِيثَ الغَدِيرِ يُفِيدُ النَّصَّ على إمامَةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليْه السَّلامُ) وخِلَافَتِه مِن غَيرِ احْتِمَالٍ ولا إشكَالٍ، وبهَذا يَكُونُ حَدِيثُ الغَدِيرِ نصّاً جَليّاً وليسَ خَفيّاً بحَسَبِ هَذا البَيَانِ مِن السَّيِّدِ المُرتَضَى، وعليْه نَحمِلُ كَلَامَه السَّابِقَ بإرادَةِ النَّصِّ الخَفيِّ هو ذلكَ النَّصُّ الَّذي وَقعَ التَّأوِيلُ فيْه بَعدَ زَمنِ الصُّدُورِ، وإلَّا ففِي زَمنِ الصُّدُورِ - كمَا بيَّنَّاهُ مِن خِلَالِ الشَّواهِدِ المُتقَدِّمةِ - كَانَ النَّصُّ جَليّاً في بَيَانِ المُرَادِ، والمَدَارُ على الإستِدلَالِ للمُدَّعَى إنَّما هو في زَمنِ صُدُورِ النَّصِّ لا بَعدَه؛ وإلَّا فمَا أكثَرُ الشُّبُهاتِ التي رَانَتْ على قُلُوبِ النَّاسِ حتى حَوَّلتْ الوَاضِحَاتِ إلى رُكَامٍ مِن المُتشَابِهاتِ!!

  وأمَّا حَدِيثُ المَنزِلَةِ فيُمكِنُ أنْ يُقَالَ عنْه أنَّه نَصٌّ خَفيٌّ على الخِلَافةِ والإمامَةِ لحَاجَةِ السَّامِعِ إلى تَطبِيقِ قَاعِدَتَي إفادَةِ اسْمِ الجِنْسِ المُضَافِ للعُمُومِ وإفادَةِ الإستِثنَاءِ للعُمُومِ، مع أنَّنا لا نَشُكُّ في فَهمِ العَربِ الأقحَاحِ لهذِهِ المَعَانِي مِن كَلَامِ رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ) فهُم أهلُ اللُّغَةِ وأسَاطِينُها ومِنْهم نَأخُذُ القَواعِدَ ونَستَدِلُّ بها!! ولكنْ مع ذاكَ قد جَاءَتْ أحَادِيثُ صَرِيحةٌ وَاضِحَةٌ في الدِّلَالةِ على إمامَةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ عليٍّ (عليْه السَّلامُ) لا يُنازِعُ فيْها إلَّا مُكَابِرٌ، كقَولِه (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ): {عليٌّ مِنِّي وأنا منْه، وهُو وَليُّ كُلِّ مُؤمِنٍ بَعدِي} (11).

 فهُنا كَلِمةُ (بَعدِي) تَقطَعُ أيَّ احْتِمَالٍ آخرَ للمُرَادِ مِن كَلِمةِ (وَلي) في حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ)؛ إذ لا يَنطَبِقُ علَيْها أيُّ مَعنىً آخرَ يُرَادُ تَطبِيقُه في المَقَامِ مِن مَعانِي الوَليِّ سِوَى وِلَايةِ الأمْرِ، فلا يَصلُحُ أنْ تُفسَّرَ الكَلِمةُ بإرادَةِ النُّصرَةِ أو المَحبَّةِ، فيَكُونُ المُرَادُ أنَّ  عليّاً (عليْه السَّلامُ) هو نَاصِرُ المُؤمِنِينَ ومُحِبُّهُم بَعدَ رَسُولِ اللهِ (ص)، فهَذا الكَلَامُ لا مَعنَى له ولا تَحصِيلَ، فانْحَصَرَ المُرَادُ بالوِلَايةِ في الحَدِيثِ بوِلَايةِ الأمْرِ لا غَيرَ، ومِن هُنا قَالَ المباركفوري عِندَ شَرْحِه لِلحَدِيثِ المَذكُورِ مِن سُنَنِ التِّرمذِيِّ: ((وظَاهِرٌ أنَّ قَولَه (بَعدِي)، في هَذا الحَدِيثِ ممَّا يَقوَى به مُعتَقدُ الشِّيعَةِ)) (12). انتَهى.

 وأيضاً جَاءَ عن النَّبيِّ (ص) قَولُه: {أنتَ وَليُّ كُلِّ مُؤمِنٍ بَعدِي ومُؤمِنَةٍ} (13).

 وأيضاً جَاءَ عن النَّبيِّ (ص) قَولُه لِبريدَة: {لا تَقعُ في عليٍّ فإنَّه مِنِّي وأنا منْه، وهو وَليُّكُم بَعدِي -يُكرِّرُها مَرَّتَينِ-} (14).

 فأحَادِيثُ الإستِخلَافِ لعِليٍّ (عليْه السَّلامُ) الوَاضِحَةُ الدِّلَالةِ كَثِيرَةٌ ومُتَعدِّدةٌ لا يَسعُ المَجَالُ لذِكرِهَا كُلِّها، فَضلاً عمَّا وَردَ مِن نَصٍّ صَرِيحٍ في خِلَافةِ أهلِ البَيتِ (علَيْهم السَّلامُ) في حَدِيثِ الثَّقلَينِ حِينَ قَالَ رَسُولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْه وآلِه وسلَّمَ): {إنِّي تَارِكٌ فِيكُم خَلِيفَتَينِ: كِتَابَ اللهِ، حَبلٌ مَمدُودٌ ما بَينَ الأرْضِ والسَّمَاءِ، وعِترَتِي أهلَ بَيتِي، وإنَّهُما لنْ يَتفَرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوضَ} (15). 

 ودُمتُم سَالِمينَ.

_______

(1)السيرة الحلبية 3: 303.

(2)الصواعق المحرقة 1: 107.

(3)مرقاةالمفاتيح 11: 248.

(4) شرح المواهب- للزرقاني - 7: 13.

(5)مسند أحمد 17:36 ، قال حمزة أحمد الزين ( المحقّق للمسند ) : إسناده صحيح .

(6)الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار - السيوطي - : 18.

(7)انظر: سن الترمذي 5: 633، قال عنه : حسن صحيح ، ومسند أحمد 14: 185، قال أحمد الزين : اسناده حسن ، وعن شعيب الأرنوؤط في تعليقته على مسند أحمد 30: 4430 ، قال : صحيح لغيره.. وفي البداية والنهاية لابن كثير 11: 74 قال عمر: (أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم).  

(8)مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين 3: 126 ، 127.

(9)تذكرةالخواص: 38، 39.

(10) مجموعة رسائل الإمام الغزالي، كتاب سر العالمين: 483.

(11)أخرج هذا الحديث الترمذي في سننه 297:2 برقم3712 وقال عنه :حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان .. وعقب عليه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 261:5 بقوله: وهو ثقة من رجال مسلم، وكذلك سائر رجاله، ولذلك قال الحاكم: صريح على شرط مسلم. (انتهى ما أفاده الألباني).

(12)شرح سنن الترمذي146:10.

(13)رواه الحاكم في مستدركه 144:3 وصححه، ووافقه عليه الذهبي.

(14)رواه أحمد في مسنده356:5 عن طريق أجلح الكندي، قال المناوي الشافعي في الفيض 471:4:(( قال جدنا للأم الزين العراقي :الأجلح الكندي وثقه الجمهور، وباقي رجاله رجال الصحيح)).

وعن الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة262:5:((إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير الأجلح، وهو أبو عبد الله، مختلف فيه، وفي التقريب:صدوق شيعي... (ثم قال الألباني:) فإن قال قائل: راوي هذا الشاهد شيعي، وكذلك في سند المشهود له شيعي آخر، وهو جعفر بن سليمان، أفلا يعد هذا طعنا في الحديث، وعلة فيه؟

فأقول:كلا، لأن العبرة في رواية الحديث إنما هو الصدق والحفظ، وأما المذهب فهو بينه وبين ربه، فهو حسيبه، ولذلك نجد صاحبي الصحيحين وغيرهما قد أخرجوا لكثير من الثقات المخالفين، كالخوارج والشيعة وغيرهم)). انتهى ما أفاده الألباني.

(15)صحيح الجامع الصغير للألباني 1: 482.