ما معنى الحديثِ القُدسيّ في مضمونِه : لا تسبّوا الدّهرَ ، فإنَّ الدّهرَ هوَ الله ؟ 

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

أوّلاً : هذا الحديثُ لم يروَ مِن طُرقِ الشّيعةِ ، فلا نجدُ لهُ عيناً ولا أثراً في تراثِهم الحديثيّ ، رواهُ أبناءُ العامّةِ عَن أبي هُريرةَ وأبي قُتادةَ عنِ النّبيّ (ص) ، وهوَ حديثٌ صحيحٌ عندَهم ، فقَد رواهُ البُخاريُّ بسندِه عن أبي هريرةَ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ (ص) : قالَ اللهُ : يسبُّ بنو آدمَ الدّهرَ وأنا الدّهرُ بيدي اللّيلُ والنّهار . (صحيحُ البُخاري : 7 / 115) وروى مسلمٌ بسندِه عن أبي هُريرةَ عنِ النّبي (ص) قالَ : لا تسبّوا الدّهرَ ، فإنَّ اللهَ هوَ الدّهر . ( صحيحُ مسلمٌ : 7 / 45 ، ومثله أحمد في مسندِه : 5 / 311 عن أبي قتادة) وروى أحمدُ بسندِه عَن أبي هريرةَ قالَ رسولُ اللهِ (ص) : لا تسبّوا الدّهرَ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قالَ أنا الدّهرُ الأيامُ والليالي لي أجدّدُها وأبليها وآتي بملوكٍ بعدَ ملوكٍ . (مسندُ أحمد : 2 / 395) وغيرُهم .  

 

ثانياً : هذا الحديثُ لا يمكنُ إجراؤه على ظاهره ، وذلكَ لأنّ الدّهرَ هوَ الزّمانُ ، واللهُ خالقُ الزّمانِ ، فلا يصحُّ نسبتُه إلى اللهِ حقيقةً ومن دونِ عنايةٍ ، فالدّهرُ ليسَ هوَ اللهُ ولا مِن صفاتِه ، فلا بدّ أن يكونَ إطلاقاً مجازيّاً ، وإلّا فلو كانَ إطلاقاً حقيقيّاً وكانَ مِن صفاتِه أو أسمائه لما صحَّ ذمُّ الدّهريّةِ الذينَ ينسبونَ هلاكَهم إلى الدّهرِ كما حكى عنهم اللهُ تعالى ثمَّ ذمَّهم قائِلاً : وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا يُهلِكُنَا إِلَّا الدَّهرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِن عِلمٍ إِن هُم إِلَّا يَظُنُّونَ } [الجاثيةُ 24]  

وقد ذكرَ العلماءُ وجوهاً في تأويلِها :  

الوجهُ الأوّلُ : أنّه ُمجازٌ في الإسنادِ ، فيكونُ في الكلامِ حذفٌ ، مِن قبيلِ : { واسألِ القريةَ } والمرادُ : واسأل أهلَ القريةِ ، وفي هذا الحديثِ أيضاً كذلك : ( لا تسبّوا الدّهرَ ) فإنَّ الدّهرَ لا فعلَ له ( فإنّ اللهَ هوَ الدّهر ) يعني : خالقَ الدّهر ، أو مُدبّرَ ومُصرّفَ الدّهر ، أو ربّ الدّهر ، وهكذا ...  

قالَ السّيّدُ المُرتضى : وقد ذكرَ قومٌ في تأويلِ هذا الخبرِ أنَّ المُرادَ بهِ لا تسبّوا الدّهرَ فإنّه لا فعلَ لهُ وإنَّ اللهَ مُصرّفُه ومُدبّرُه فحذفَ منَ الكلامِ ذكرَ المُصرّفِ والمُدبّرِ وقالَ هوَ الدّهرُ . (أمالي المُرتضى (الغررُ والدّرر) : 1 / 34) 

وقالَ النّحّاسُ : في معناه ثلاثةُ أقوالٍ : منها : أنَّ المعنى : لا تسبّوا خلقاً مِن خلقِ اللهِ ، فيما لا ذنبَ له فيه ( فإنَّ اللهَ هوَ الدّهر ) أي خالقُ الدّهر ، كما قالَ تعالى ( واسألِ القريةَ ) ... (معاني القرآنِ للنّحّاس : 6 / 429) . 

 

الوجهُ الثّاني : قالَ السّيّدُ المُرتضى : وفي هذا الخبرِ وجهٌ آخر هوَ أحسنُ مِن ذلكَ الذي ذكرناهُ وهوَ أنَّ المُلحدينَ ومَن نفى الصّانعَ منَ العربِ كانوا ينسبونَ ما ينزلُ بهم مِن أفعالِ اللهِ كالمرضِ والعافيةِ والجدبِ والخصبِ والبقاءِ والفناءِ إلى الدّهرِ جهلاً منهم بالصّانعِ جلَّت عظمتُه ويذمّونَ الدّهرَ ويسبّونهَ في كثيرٍ منَ الأحوالِ مِن حيثُ إعتقدوا أنّهُ الفاعلُ بهم هذهِ الأفعالَ فنهاهُم النّبيُّ (ص) عَن ذلكَ وقالَ لا تسبّوا مَن فعلَ بكُم هذهِ الأفعالَ ممَّن تعتقدونَ أنَّهُ الدّهرُ فإنَّ اللهَ تعالى هوَ الفاعلُ لها . . وإنّما قالَ إنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ مِن حيثُ نسبوا إلى الدّهرِ أفعالَ اللهِ وقَد حكى اللهُ سُبحانَه عنهُم قولَهم : { ما هيَ إلّا حياتُنا الدّنيا نموتُ ونحيا وما يهلكُنا إلّا الدّهرُ } . – ثمَّ نقلَ السّيّدُ أشعاراً للعربِ ثمَّ قالَ -  

وكلُّ هؤلاءِ الذينَ روينا أشعارَهم نسبوا أفعالَ اللهِ التي لا يشاركُه فيها غيرُه إلى الدّهرِ فحسُنَ وجهُ التّأويلِ الذي ذكرناه . (أمالي المُرتضى (الغررُ والدّرر) : 1 / 35) . 

وقالَ الفراهيديُّ : وقولُه : لا تسبّوا الدّهرَ فإنَّ اللهَ هوَ الدّهر. يعني : ما أصابكَ منَ الدّهرِ فاللهُ فاعله ، ليسَ الدّهرُ ، فإذا سببتَ الدّهرَ أردتَ بهِ اللهَ عزَّ وجل . (العينُ للفراهيديّ : 4 / 23 ، وانظُر غريب الحديثِ لأبي عبيد : 2 / 145 ، لسانُ العرب 4 / 292) .

وقالَ النّوويُّ : قالَ العلماءُ وهو مجازٌ وسببُه أنَّ العربَ كانَ شأنُها أن تسبَّ الدّهرَ عندَ النّوازلِ والحوادثِ والمصائبِ النّازلةِ بها مِن موتٍ أو هرمٍ أو تلفِ مالٍ أو غيرِ ذلكَ فيقولونَ يا خيبةَ الدّهرِ ونحوِ هذا مِن ألفاظِ سبِّ الدّهرِ فقالَ النّبيّ (ص) لا تسبّوا الدّهرَ فإنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ أي لا تسبّوا فاعلَ النّوازلِ فإنّكُم إذا سببتُم فاعلَها وقعَ السّبُّ على اللهِ تعالى لأنّهُ هوَ فاعلُها ومُنزِلُها وأمّا الدّهرُ الذي هوَ الزّمانُ فلا فعلَ له بَل هوَ مخلوقٌ مِن جملةِ خلقِ اللهِ تعالى ومعنى فإنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ أي فاعلُ النّوازلِ والحوادثِ وخالقُ الكائناتِ واللهُ أعلم . (شرحُ صحيحِ مُسلم : 15 / 3)  

وقالَ إبنُ حجرٍ العسقلانيّ : ومحصِّلُ ما قيلَ في تأويلِه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها أنَّ المُرادَ بقولِه أنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ أي المُدبّرُ للأمورِ ثانيها أنّهُ على حذفِ مُضافٍ أي صاحبُ الدّهرِ ثالثُها التّقديرُ مُقلّبُ الدّهرِ ولذلكَ عقّبَهُ بقولِه بيدي اللّيلُ والنّهار . (فتحُ الباري : 10 / 466) . 

 

الدّهرُ ليسَ منَ الأسماءِ الحُسنى :

وما ذهبَ إليهِ بعضُ أبناءِ العامّةِ مِن أنّ الدّهرَ مِن أسماءِ اللهِ فهوَ غلطٌ واشتباهٌ، قالَ الزّبيديُّ : قالَ شيخُنا : وعَدُّه في الأَسماءِ الحُسنَى من الغَرَابة بمَكَانٍ مَكِينٍ ، وقد رَدَّه الحافِظ إبنُ حَجَر ، وتَعَقَّبَه في مَواضِعَ من فَتحِ البَارِي ، وبسَطَه في التّفسيرِ وفي الأدِب وفي التوحيد ، وأَجادَ الكلاَمَ في شُرَّاحُ مُسلِم أيضاً عِياضٌ والنَّوَوِيّ والقُرطُبُّي وغيرُهُم ، وجَمَع كَلامَهم الآبِي في الإِكمالِ . وقالَ عِياضٌ : القَولُ بأنَّه من أَسماءِ اللِه مَردُودٌ غَلَطٌ لا يَصِحّ ، بل هُو مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنيَا ، إنتهى . (تاجُ العروس : 6 / 425) . وقالَ إبنُ كثير : وقد غلطَ إبنُ حزمٍ ومَن نحا نحوَه منَ الظّاهريّةِ في عدِّهم الدّهرَ منَ الأسماءِ الحُسنى أخذاً مِن هذا الحديثِ . (تفسيرُ إبنِ كثير : 4 / 163) وقالَ القاضي عيّاض : زعمَ بعضُ مَن لا تحقيقَ لهُ أنَّ الدّهرَ مِن أسماءِ اللهِ وهوَ غلطٌ فإنَّ الدّهرَ مُدّةُ زمانِ الدّنيا . (فتحُ الباري لإبنِ حجر : 10 / 466)  

وقالَ الفضلُ بنُ شاذان مُشنّعاً على أبناءِ العامّةِ الذين يحملونَ الحديثَ على ظاهرِه ويجعلونَه مِن أسمائه : ومنهُم أصحابُ الحديثِ : عامّةُ أصحابِ الحديثِ مثلَ سفيانَ الثّوري و يزيدَ بنِ هارونَ وجريرٍ بنِ عبدِ اللهِ ووكيعٍ بنِ الجرّاحِ وأشباهِهم منَ العُلماءِ الذينَ يروونَ أنَّ النّبيَّ - صلّى اللهُ عليهِ وآله - قالَ : لا تسبّوا الدّهرَ فإنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ فهُم على معنى ما رووا أنَّ اللهَ هوَ الدّهرُ لا يعيبونَ أن يقولوا : يا دهرُ إرحمنا ، ويا دهرُ إغفِر لنا ، ويا دهرُ إرزُقنا ، يضاهونَ ما قالتِ اليهودُ : إنّهم يعبدونَ اللهَ الذي عزيرٌ إبنُه ، والنّصارى الذينَ قالوا : نعبدُ اللهَ الذي المسيحُ إبنُه . (الإيضاحُ للفضلِ بنِ شاذان ص7) 

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .