هل الذي لا يعملُ بالتقليدِ آثمٌ؟

إن كانَ لي حقُّ الاختيارِ بينَ الفقهاء، أفلا يعني أنّ لي القدرةَ على التمييز، وبالتالي يبطلُ وجوبُ التقليد؟ هل التقليدُ في الفروعِ أو الأصول؟ أنتُم تنقلونَ الرواياتِ عن رجالِ الإماميّةِ القُدماء، فهل هُم معصومونَ عن الخطأ، وهل هناكَ احتمالٌ أنّهم لفّقوا الرّوايات؟  

: السيد رعد المرسومي

السلامُ عليكُم ورحمة الله، 

أمّا ما يتعلّقُ بالفقرةِ الأولى مِن سؤالِك، فقد أجابَ العلماءُ عن ذلكَ بالقول: إنّ عملَ غيرِ المُجتهد بلا تقليدٍ ولا احتياطٍ باطل، إلّا أن يحصلَ له العلمُ بموافقتِه لفتوى الفقيهِ الذي كانَ يجبُ عليهِ أن يُقلّدَه فعلاً. [ينظر الرّسائلُ العمليّةُ للفقهاءِ المسألةُ الثانيةُ مِن مسائلِ التقليد].  

وأمّا الجوابُ عن الفقرةِ الثانيةِ مِن سؤالك، فإنّ الذي جعلَ لكَ حقَّ الاختيارِ  بينَ الفقهاءِ هُم العلماءُ أنفسُهم، وذلكَ حينَ يكونُ الفقهاءُ متساوينَ في العلمِ والورعِ والتثبّتِ، فهُنا قالوا: إنّ المُكلّفَ مُخيّرٌ بينَ أن يُقلّدَ المرجعَ رقم (1) أو المرجعَ رقم (2) أو المرجعَ رقم (3) ، لأنّ النتيجةَ من تقليدِ أحدِهم ستكونُ واحدةً ما داموا مُتساوينَ في رتبةِ العلم والاجتهاد، فهذا – إذن - طريقٌ منَ الطرقِ المؤدّيةِ إلى التقليدِ في مثلِ هذهِ الحالةِ كما في المسألةِ الثامنةِ من مسائلِ التقليدِ التي نوّهَ بها علماؤنا الأعلامُ في رسائلِهم العمليّةِ، وأمّا الذي لديهِ القدرةُ في أن يُميّزَ بينَ العلماءِ إن كانَ أحدُهم أعلمُ منَ الآخر أو هوَ مساوٍ له فهوَ مَن كانَ مُجتهداً أو مُراهقاً للاجتهادِ بحيثُ توفّرَت لديهِ الوسائلُ كافّة،  وعُرفَ مِن خلالِ دروسِ المُجتهدينَ أو من تأليفاتِهما وتحقيقاتِهما بأنّ أحدَهما أعلمُ منَ الآخر أو أنّهما متساويان، فَمَن كانَ يتّصفُ بتلكَ المقدرةِ على التمييزِ وفقَ الشروطِ العلميّةِ المُعتبرةِ والحيثيّاتِ المأخوذةِ في اعتبارِ شيءٍ أو عدمِ اعتباره، فهذا مِن حقِّه أن لا يُقلّد، معَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ أنّ هذا الأمرَ لا يعرفُه مَن هوَ دونَ ذلكَ فضلاً عن عامّةِ المُكلّفين، وأٌقرّبُ لكَ المسألةَ مِن خلالِ هذا المثال: لو شاهدنا عمارةً جميلةً ذاتَ طوابقَ كثيرةٍ، فمَن الذي يُميّزُ أنّها بُنيَت على أسسٍ متينةٍ قويّةٍ وفقَ شروطِ الهندسةِ المدنيّةِ المُعتبرة، أليسَ المهندسونَ مِن ذوي الاختصاصِ أو ممَّن حصلَ على شهادةِ الماجستير أو الدكتواره وكانَ لديهِ خبرةٌ لا بأسَ بها في حقلِ البناءِ والتخطيط، فهُم مَن يُميّزونَ جودةَ هذهِ البنايةِ مِن عدمِها، ولا يعرفُ ذلكَ حتّى طلبةُ الهندسةِ خصوصاً مَن كانَ منهم في المراحلِ الأوليّةِ لدراسةِ الهندسة. وهكذا الحالُ في المسائلِ الطبيّةِ والصناعيّةِ وغيرِها، فإنّ الذي يُقيّمُ الأشياءَ وفقَ شروطِها المُعتبرةِ لا بُدّ مِن أن يكونَ مِن ذوي الاختصاصِ في ذلكَ الحقل، وإلّا فلا. فإذا عرفتَ ذلكَ فهكذا الحالُ في المسائلِ الشرعيّةِ بفرعيها العباديّةِ والمُعاملاتيّة.  

وأمّا الجوابُ عن الفقرةِ الثالثةِ مِن سؤالِك، فإنّ التقليدَ يكونُ في الفروع، وليسَ في الأصول.  

وأمّا الجوابُ عن الفقرةِ الرّابعةِ مِن سؤالِك فإنّ علماء الشيعة الاماميّة كانوا - ولا يزالون - ملتزمين دائماً بإخضاع كافّة الرواياتِ والأحاديث وجميع الرُّواة والمحدّثين من دون استثناء للتمحيص والتدقيق حتّى يتعرّفوا على حالِ الرواية من حيثُ المتنُ والسند، فمن جهة السند يدرسونَ حالَ رواتها من حيث الوثاقةُ وعدمها، فيميّزون الصالحينَ منهم عن الطالحين، والمؤمنينَ عن المنافقين، ليتسنّى لهم الأخذُ من الصالحين والمؤمنين الموثوقين دون غيرهم، ثمَّ من بعد ذلك تأتي مرحلة دراسةِ متن الحديث، فيخضعونهُ لضوابط رصينةٍ أخرى لمعرفة إنْ كان هذا المتنُ مخالفاً للكتاب العزيز أو كان مخالفاً للسنّة المتواترةِ أو المستفيضة أو كان مخالفاً للعقلِ الحصيف أو ما اتّفق عليه المسلمون، فإذا لم يخالفها نأخذ به، و إذا خالفها نطرحهُ وإن كان سندهُ نقيّاً.[ينظر: كتاب أصول الحديث : للعلّامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضليّ، وكتاب الحديث النبوي بين الرواية والدراية ، للعلّامة الشيخ جعفر السبحانيّ].

وهاهنا أمر لا بُدَّ من مراعاته وأخذه في الاعتبار لكلِّ مَن يعرض لدراسة حديثٍ ما، وهو:

ينبغي أن يُعلم أنّ الرواية إذا كانت صحيحة السند، أي كان رجالها ثقات وإسنادها متّصلٌ، فهي في الأعمِّ الأغلب تكون روايةً صحيحةً صادرةً عن المعصوم عليه السلام، ولكن هذا الأمر ليس كذلك دائماً، إذ في أحيانٍ أخرى يتوفّر شرط الوثاقة في الرواة والاتّصال في الإسناد، ولكنْ متن الرواية يكون منكراً لأسبابٍ عديدة، منها: 

1-أنْ تكون الرواية ربّما صدرت من المعصوم عليه السلام تقيّةً، وفي هذه الحالة إذا كانت الرواية صادرة عن تقيّةٍ فهي لا تعبّر عن واقها الحقيقيّ كما لا يخفى على أهل العلم. 

2- أو أنْ يكون أحد رواة الحديث الناقل لهذه الرواية وإنْ كان ثقةً في نفسه، لكنّه ليس بمعصومٍ من الخطأ، فيشتبه عليه الأمرُ وينسى أو يدخل عليه حديثٌ في حديث أو يسهو أو نحو هذه الأمور التي يعرفها أهل الصّنعة المشتغلون بنقد الحديث سنداً ومتناً، فلذا لا ينبغي الاغترارُ بكون روايةٍ ما رجالها ثقات وإسنادها متّصل معناها أنّها صحيحة وصادرةٌ من المعصوم عليه السلام دائماً، فليس الأمر كذلك؟ 

3-وبعكس هذا الحال لو وجدنا روايةً في سندها راوٍ ضعيفٌ أو ضعيفٌ جدّاً أو كانت مرسلةً فليس دائماً أنّها روايةٌ ضعيفةٌ وغير صادرة عن المعصوم عليه، إذْ هناك عدّة روايات ضعيفة الإسناد صحيحة المتن قد احتفّت بقرائن وشواهد تُثبت صحّتها، ولذا عمل بها جمهورُ العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين، وهذا الأمر معروفٌ لدى جميع علماء المذاهب الإسلاميّة وليس عند الإماميّة فحسب، إذْ هم يعلمون أنّ هناك أحاديث ضعاف في مختلفِ الأبواب ولكنْ عليها العمل بغير خلاف. 

4- وننبّهُ في نهاية المطاف الى أنّ مسألة تصحيح الأحاديث والأخذ بها أو ردّها هي ليست من السّهولة بحيث يقوم بها أيّ أحدٍ من طلبة العلوم الدينيّة فضلاً عن غيرهم مِـمّنْ عرف شيئاً عن علم الحديث والرجال، وإنّما يقوم بهذا  الأمر المشتغلون بنقد الحديث الذين مارسوا نقد الرواية كثيراً وغاصوا في كتب الحديث وفي بيان أحوال رواتها، ولم تأخذهم العجلة في الحكم على الحديث، بل إنّهم يتأنّون كثيراً قبل أنْ يحكموا على الحديث، لأنّهم إنْ لم يفعلوا ذلك ولم يحتاطوا كثيراً في هذه المسألة، فالنتيجة المترتّبة على العجلة في الحكم على الحديث أنّ مثل هذا الحديث إذا حُكِمَ عليه بالصحّة فسيدور على الألسن وتتناولهُ الكتبُ والأقلام في ثقة واطمئنان، وإذا حُكِمَ عليه بالضعف والردِّ فسيطويه الإهمالُ والنسيان. فلذا ينبغي لنا الحذر الشديد في هذه المسألة حتّى لا نصحّح من الأحاديث ما لا يصحُّ، ولا نضعّف منها ما ليس بضعيف، ولندع مهمّة هذا الأمر الخطير بيد العلماء من نقّاد الحديث. 

 وفّقنا الله تعالى وإيّاك لمراضيه وجنّبنا معاصيه وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين، والحمدُ لله ربّ العالمين.