هل يصحُّ ما يرويهِ أهلُ السنّةِ في كتبِهم عن رسولِ اللهِ (ص) أنّه قالَ: حدّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرج؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،إنّ لعلمائِنا الأعلامِ منَ الطائفةِ المُحقّةِ أقوالاً - في مُجملِها - تنتهي إلى أنّ هذا المقطعَ منَ الحديثِ لا يصحُّ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وإليكَ بعضاً مِن هذهِ الأقوال: 1- الظاهرُ: أنّ حديثَ ( حدّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرج )، ليسَ كذباً كلّه ، بل هوَ - فيما نظنُّ - تحريفٌ للكلمةِ المأثورةِ عن رسولِ الله « صلّى اللهُ عليهِ وآله » : حدّثوا عنّي ولا حرج ، ومَن كذبَ عليَّ مُتعمّداً فليتبوّأ مقعدَه منَ النار . حسبَما رواهُ أبو هُريرة ! ! وأبو سعيدٍ الخُدري ، وأنسٌ بنُ مالك، إلّا أن يكونَ المرادُ منَ الحديث: حدّثوا بما حدّثَكم بهِ منَ مخازي وانحرافاتِ بني إسرائيل ولا حرج ، ويكونُ هؤلاءِ الناسُ قد أساؤوا فهمَ هذا الحديثَ ، واستفادوا منهُ لتنفيذِ سياساتِهم ومآربِهم .[ينظر كتابُ: الصحيحُ مِن سيرةِ النبيّ الأعظم ( ص ) للسيّدِ جعفر مُرتضى العاملي، ج ١/ص ١١٧]. 2- إنّ هذا الحديثَ يكتنفُه كثيرٌ منَ الغموضِ وذلكَ لأُمورٍ : أوّلاً : إنّ الإمامَ أحمد أخرجَه في مُسندِه (3/46) عن أبي سعيدٍ الخُدري بلا زيادةِ قوله : « حدّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرج» فقالَ : إنّ النبيَّ « صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم » قالَ : لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن ، فمَن كتبَ عنّي شيئاً فليمحه ، وقالَ : حدّثوا عنّي ومَن كذبَ عليَّ مُتعمّداً فليتبوّأ مقعدَه منَ النار. وثانياً : قد أخرجَه مسلمٌ في صحيحِه (8/229) عن أبي سعيدٍ الخُدري بلا هذهِ الزيادةِ وقالَ : إنّ رسولَ اللّهِ « صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم » قالَ : لا تكتبوا عنّي ، ومَن كتبَ عنّي غيرَ القرآنِ فليمحه وحدّثوا عنّي ولا حرج ومَن كذبَ عليَّ - قالَ هُمام : احسبُه قالَ مُتعمّداً - فليتبوّأ مقعدَه منَ النار. نعم، أخرجَ البُخاري في صحيحِه (4/170) عن عبدِ اللّهِ بنِ عمرو أنّ النبيَّ « صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم » قالَ : بلّغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرج، ومَن كذّبَ عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعدَه منَ النار. وفي سندِ البُخاري أبي كبشة السلولي ، قالَ ابنُ حجر : وليسَ لهُ في البُخاري سوى هذينِ الحديثين. والذي يسيءُ الظنَّ بصحّةِ ما رواهُ البُخاري هوَ أنّ الراوي هوَ عبدُ اللّهِ بنُ عمرو بنِ العاص الذي أكثرَ الروايةَ عن كتبِ بني إسرائيلَ والذي عثرَ على زاملتينِ مِن كتبِ أهلِ الكتاب، فحدّثَ عنهُما كثيراً. ثمّ إنّ هُنا روايةٌ أُخرى أخرجَها البُخاري عن أبي هريرةَ قالَ : كانَ أهلُ الكتابِ يقرأونَ التوراةَ بالعبرانيّة ويفسّرونَها بالعربيّةِ لأهلِ الإسلام ، فقالَ رسولُ اللّه «صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم » : لا تصدّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذّبوهم ، وقولوا : آمنّا باللّهِ وما أنزلَ إلينا وما أنزلَ إليكم. وظاهرُها يُعربُ عن أنّ أبا هريرةَ شاهدَ الواقعةَ ورأى أنّ أهلَ الكتابِ كانوا يقرأونَ بالعبرانيّةِ ويفسّرونَ بالعربيّة ، وعندَ ذلكَ قالَ النبيّ « صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّم » ما قالَ، معَ أنّه أسلمَ بعدَ فتحِ خيبر، وقد أُجليَتِ اليهودُ منَ الجزيرةِ العربيّة كبني قينقاع وبني النّضير ، واجتثَّ جذورهم ، فكيفَ شاهدَ هذهِ الواقعة ؟ ولعلّه سمعَها مِن غيرِه ولم يذكُر اسمَه، وقد مرّ في ترجمةِ أبي هريرةَ أنّه كانَ يُدلّسُ في الإسناد. وثالثاً: إنّ الإنسانَ لا يقتنعُ مهما أحسنَ الظنَّ برواةِ الصّحاحِ والمسانيد، إذ كيفَ يأمرُ النبيّ « صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّم » بالتحدّثِ عنهم معَ أنّ كتابَه يصفُهم بأنّهم اقترفوا الكذبَ والتحريفَ والوضعَ في الكتبِ التي أنزلَت على أنبياءِ بني إسرائيل . إنّ الاعتمادَ على هذهِ الأحاديثِ وأمثالِها جرَّ الويلاتِ على المُسلمينَ حيثُ حشُّوا كتبَهم بخرافاتِ وأقاصيصِ بني إسرائيل لا يصدّقُها العقلُ والنقل. [ينظر: الحديثُ النبويّ بينَ الروايةِ والدراية، للشيخِ السبحانيّ، ص ٥٣٩]. 3- على فرضِ التنزّلِ والتسليمِ بصحّةِ هذا المقطعِ منَ الحديثِ، فلا يُحملُ على جميعِ ما حدّثوا به ، وإنّما يُحملُ على ما عُلمَ صدقُه مِن أخبارِهم التي يُحدّثون بها لقرائنَ تؤيّدُ ذلك. [ينظر: بحوثٌ في المللِ والنحل، ج ١، الشيخُ السُّبحاني، ص ٩٣]. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق