هل هناك دليل عقلي على الخلق من العدم ؟

:

نحن لا نقول إن الله خلقنا من العدم، وإنما نقول إن الله خلقنا وأوجدنا بعد أن كنا عدماً، والفرق كبير بين القولين، ففي الأول يكون العدم هو مصدر الوجود ومادته، وهذا ممتنع بحكم الاستحالة العقلية؛ لأن العدم واللا شيء لا يكونا أساساً وأصلاً للوجود وللأشياء، وفي القول الثاني، تكون إرادة الله ومشيته هي مصدر كل مخلوق، ومن المعلوم أن قدرة الله على الخلق والإيجاد لا تتوقف على وجود مادة قديمة لتكون أصلاً لوجود الأشياء، وإنما يكفي تعلق إرادة الله بالشيء ليتحقق وجوده في الخارج، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فبمجرد تعلق إرادة الله بالشيء يخرج من طور العدم إلى طور الوجود، ولا يعني ذلك أن العدم كان بمثابة المادة الأولية لذلك الشيء، وإنما يعني أن الله أوجده بمشيئته بعد أن كان عدماً، فمثلاً عندما يصنع الإنسان شيء، فإن ذلك الشيء قبل أن يُصنع كان عدماً، ولكن مادته التي صنع منها كانت موجودة، ومن المستحيل على الإنسان أن يصنع شيئاً من لا شيء، وإنما الله وحده هو القادر على ذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لا يكون الشيء لا من شيء إلا الله).وعليه فإن كان السائل يسأل عن الدليل العقلي على أن العدم كيف أصبح مادة للوجود؟ فإنا لا نقول بان العدم هو مادة الأشياء، لاستحالة ذلك بحكم العقل، أما إن كان يسأل؛ كيف وجدت الأشياء بعد أن لم تكن موجودة؟ فإن الدليل العقلي يحكم بضرورة وجود علة أوجدتها؛ وذلك لاستحالة أن توجد الأشياء نفسها بنفسها من نفسها، ومتى ما ثبت ذلك حكم العقل بوجود علة أوجدت الأشياء، فمجرد الاعتراف بحدوثها كافي لأثبات وجود المحدث، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا من شيء كون ما قد كان، المستشهد بحدوث الأشياء على أزلية)، فالله تعالى هو خالق الأشياء بمشيئته دون الحاجة إلى مادة أزلية، ففي الخطبة الفدكية لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) قالت: (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته، وإعزازاً لدعوته)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية)، وفي خطبه أخرى: (أنشأ صنوف البرية لا عن أصول كانت أبدية).وأما ان كان السؤال عن الدللي الفيزيائي فالحالة التي يوجد عليها العدم يمكن الحديث عنها في عصرنا هذا بدلالة ما يسمى (تذبذبات الخلاء Vacum Fluctuations)، وإذا كان بالإمكان أن توجد تذبذبات خلاء للطاقة، فإنها بالتالي يمكن أن تتمظهر بشكل ما في الزمان والمكان، إذا ما توفرت ظروف معينة. أحد هذه الظروف أن يتوفر تحدب زمكاني موجب قد يؤدي الى تحويل تذبذبات الخلاء الى وجود مادي حقيقي وكثافة موجبة للطاقة في حيز ما. بمعنى ان تذبذبات الخلاء هذه ستخلق حيزها وما يتحيز ما ان يتوفر التحدب الموجب. وربما كان علينا ان نتذكر أن تذبذبات الخلاء هي بصيغة او أخرى جسيمات او مجالات مجازية بحسب ما تقرره نظرية المجالات الكمومية.يسمى تمظهر طاقة الخلاء هذا تأثير كازمير منسوباً الى مكتشفه الهولندي هندريك كازمير (1909 ـ 2000)، الذي وجد نظرياص عام 1948 أن قوة تجاذبية تظهر بين لوحين موصلين متعادلين عند نقريبهما الى بعضها الى مسافة صغيرة جداً، وهذه القوة تكون أقوى كلما تقارب اللوحان من بعضهما أكثر، وهذا يعني تخليق طاقة سالبة بكثافة تسمى طاقة كازمير، وقد تم التحقق من وجودها عملياً وقياسها بدقة كبيرة في مختبرات بيل بالولايات المتحدة الامريكية.وعلينا أن نتذكر أن طاقة الخلاء لا تتمظهر إلا بوجود تأثير خارجي كالتحدب الزمكاني مثلاً، وهنا يأتي دور الله تعالى في خلق هذا التحدب.ولكن كيف تنشأ طاقة كازمير؟يمكننا فهم ما يحصل عندما نضع لوحين موصلين مقابل بعضهما على أنه تغيير في بنية الفضاء الهندسية، فإن وجود اللوحين يؤدي الى قطع تذبذبات الخلاء (المجازية) ويحولها الى تذبذبات حقيقية ونظراً لأن التذبذبات الخارجية أكبر من الداخلية التي بين اللوحين فإن هذا يؤدي الى نشوء ضغط موجب من الخارج على اللوحين وينشأ ضغط سالب ما بين اللوحين وهذا ما يؤدي الى تجاذبهما كما موضح في الشكل. هكذا يمكن أن تولد الطاقة وتتخلق عنها المادة بعد ذلك.-    يمكن القول أن المرحلة الكازميرية للكون هي مرحلة ما قبل الانفجار العظيم وهناك دراسات أوسع للمراحل البدائية للكون فيما بعد المرحلة الكازميرية المبكرة جداً. وفي هذه المراحل التالية تحصل تحولات طورية عديدة، يتقلب فيها الكون اطواراً حتى تتخلق الجسيمات الأولى. وفيما بعد ذلك يمر الكون بمرحلة من التضخم السريع بحسب تأويلات نظريات التضخم يتم خلالها تحقيق انبساط الكون وتوزيع الطاقة والمادة حتى يصبح ممكناً أن تنشأ المجرات، ثم يحصل من اندماج الجزيئات تحت الذرية نواة الذرة المكونة من البروتونات والنيوترونات وبعدها تصبح قادرة على جذب الالكترونات حولها فتتكون العناصر الأولية التي تكون مادة لأجسام أكبر وهكذا ظهرت المادة للوجود.