دَعْوَى إِحْرَاجِ النَّبِيِّ (ص) مِنْ قِبَلِ النَّضرِ بْنِ الحَارِثِ!!

عَ سِ عَ /: مَا رَدُّكُمْ عَلَى المَقَالَةِ التَّالِيَةِ: (بَعْدَ مَا ادَّعَى مُحَمَّدٌ النُّبُوَّةَ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ اسْمُهُ النَّضرُ بْنُ الحَارِثِ، وَكَانَ مُثَقَّفَ عَصْرِهِ فِي قُرَيْشٍ، طَافَ بِلَادَ الرُّوْمِ وَالفُرْسِ وَنَجْرانَ وَتَعَلَّمَ عُلُومَهَا وَعَرَفَ أَسَاطِيرَهَا وَقِصَصَهَا وَتَارِيخَهَا، وَلِهَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ، وَقَالَ عَنْ قَصَصِ القُرْآنِ إنَّهَا أَسَاطِيرُ، وَبِسَبَبِ إِصْرَارِ مُحَمَّدٍ عَلَى اِدِّعَائِهِ جَهَّزَ لَهُ النَّضرُ ثَلَاثَ أَسْئِلَةٍ لِيَخْتَبِرَ نُبُوَّتَهُ. وَكَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يَأْتِيَ فِي اليَوْمِ التَّالِي بِالجَوَابِ، لَكِنَّهُ غَابَ لِأَكْثَرَ مِنْ 10 أَيَّامٍ (قَالَ: إنَّ الوَحْيَ تَأَخَّرَ، لِأَنَّ أَطْفَالَ عَلِيٍّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ يَمْلِكُونَ جُرْوًا صَغِيرًا، وَالمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ عَلَى مَنْزِلٍ فِيهِ كَلْبٌ) فَهَلْ نَجَحَ مُحَمَّدٌ فِي الإخْتِبَارِ؟ 1 - النَّضرُ: مَا هِيَ الرُّوحُ؟ الرَّسُولُ: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلْمِ إلَّا قَلِيلًا) (يَخْسَرُ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ تَهَرَّبَ مِنْ الإِجَابَةِ. السُّؤَالُ كَانَ: مَا هِيَ الرُّوحُ؟ وَلَيْسَ مَا مَصْدَرُ الرُّوحِ). لَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ لِمَاذَا لَمْ يُخْبِرْكَ رَبُّكَ بِمَاهِيَّةِ الرُّوحِ؟ 2 - النَّضرُ: مَا هُوَ عَدَدُ أَهْلِ الكَهْفِ؟ الرَّسُولُ: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) (يَخْسَرُ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ العَدَدِ.. وَأَنْتَ تَقُولُ: (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) 3 أَوْ 4 يُمْكِنُ 5 - أَلَيْسَ رَبُّكَ هُوَ مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَكَ؟ إِذًا لِمَاذَا لَا يُخْبِرُكَ؟ 3 - النَّضرُ: مَنْ هُوَ الرَّجُلُ الطَّوَّافُ الَّذِي يَبْلُغُ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ؟ الرَّسُولُ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) (يَخْسَرُ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَتَهَرَّبَ عَنْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ الأُسْلُوبِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ).  النَّتِيجَةُ: خَسِرَ الرَّسُولُ بِفَضِيحَةٍ ثَقَافِيَّةٍ مَعَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِالإِلَهِ. وَنَجَحَ مُثَقَّفُ قُرَيْشٍ فِي الإخْتِبَارِ. وَلِهَذَا قَتَلَهُ مُحَمَّدٌ بَعْدَ أَنْ أُسِرَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.

: اللجنة العلمية

       الأَخُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

       عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ بِوُجُودِ هَكَذَا قِصَّةٍ مِنْ تَوَجُّهِ النَّضرِ بْنِ الحَارِثِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) - وَإِلَّا فَهِيَ قَدْ جَاءَتْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ حَيْثُ يَرْوِيهَا بِسَنَدٍ فِيهِ شَخْصٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ المُسْتَشْرِقِينَ عَلَى كِذْبِهَا، كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ (تَارِيخُ اليَهُودِ فِي بِلَادِ العَرَبِ) ص98 - فَمَا أَفَادَهُ صَاحِبُ المَقَالِ لَيْسَ صَحِيحًا، بَلْ هُوَ تَدْلِيسٌ عَلَى القَارِىءِ لَا أَكْثَرَ.

      فَالأَسْئِلَةُ لَمْ تَكُنْ للنَّضرِ بْنِ الحَارِثِ نَفْسِهِ، بَلْ كَانَتْ لِليَهُودِ مِنْ يَثْرِبَ، وَهُوَ قَامَ بِحَمْلِهَا لِلنَّبِيِّ (ص) فَقَطْ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الرِّوَايَةُ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا دَوْرَ لَهُ فِي إِيرَادِ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَا يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ وَالتَّدْلِيسَ بِهِ صَاحِبُ المَقَالِ.

      وَلِنَنْقُلَ الرِّوَايَةَ بِتَمَامِهَا عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ السِّيرَةِ ثُمَّ نَرُدَّ عَلَيْهَا حَتَّى يُتَابِعَ القَارِىءُ مَعَنَا تَدْلِيسَاتِ هَذَا الشَّخْصِ صَاحِبِ المَقَالِ وَيَنْظُرَ مَدَى فَهْمِهِ وَمُسْتَوَاهُ الذِّهْنِيِّ فِي فَهْمِ الحَادِثَةِ!

  قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ: (حَدَّثَنا أَحْمَدُ حَدَّثَنا يُونُسُ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ فِي النَّضرِ ثَمَانِيَ آيَاتٍ مِنْ القُرْآنِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).      

      وكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ الأَسَاطِيرُ مِنْ القُرْآنِ، فَلَمَّا قَالَ النَّضرُ ذَلِكَ بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي معيطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودٍ بِالمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَولِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهَلُ الكِتَابِ الأَوَّلِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا المُدِينَةَ فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَأَخْبَرُوهُمْ بِبَعْضِ قَولِهِ وَقَالُوا لَهُمْ: إنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ فَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودٍ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ فإنْ أخْبرَكُمْ بهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَان لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَأَهُ، وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ رَجُلٌ مُتقَوِّلٌ فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرْنَا أَحْبَارُ يَهُودٍ أَنَّ نْسْأَلَه عَنْ أُمُورٍ وَأَخْبِرُوهُمْ بِهَا، فَجَاؤُوا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا. فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): أُخْبِرُكُمْ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا. وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَحْيًا وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلَ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَاليَوْمُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ حَتَّى حَزِنَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَكْثُ الوَحْيِ عَنْهُ وَشُقَّ عَلَيْهِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللهِ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ فِيهَا مُعاتَبَتُه إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ وَخَبَرِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الفِتْيَةِ وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)). [سِيرَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ ج4 ص 182 و183].

       فَمِنْ الوَاضِحِ مِنْ النَّصِّ المُتَقَدِّمِ - وَهُوَ النَّصُّ الَّذِي يُذْكَرُ عَادَةً فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ - أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ) :فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودٍ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ).. فَهِيَ إِذَنْ أَسْئِلَةُ اليَهُودِ لَا أَسْئِلَةُ النَّضرِ وَلَا غَيرِهِ مِمَّنْ جَاءَ هَذَا الرَّجُلُ يُغَرِّدُ بِثَقَافَتِهِمْ!!

       وَسَبَبُ التَّأْخِيرِ فِي الإِجَابَةِ عَلَى هَذِهِ الأَسْئِلَةِ مِنْ النَّبِيِّ )ص) قَدْ جَاءَ فِي الآيَاتِ نَفْسِهَا الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الحَادِثَةِ، وَهِيَ تَكْشِفُ عَنْ أَدَبٍ عَظِيمٍ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ لِلنَّبِيِّ (ص) لِأَنَّهُ قَالَ للْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوهُ هَذِهِ الأَسْئِلَةَ عَنْ اليَهُودِ: (أُخْبِرُكُمْ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا) وَلَمْ يُرْدِفْهَا بِقَولِهِ: (إِنْ شَاءَ اللهُ)، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى مُعَاتِبًا إِيَّاهُ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّةُ} الكَهفُ 23 وَ24.

       وَهَذَا المَعْنَى يُطَابِقُ المَأْثُورَ عَنْ النَّبِيِّ (ص) الَّذِي جَاءَ فِيهِ: (أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي)، وَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى وَحْيَانيَّةِ القُرْآنِ وَأَنَّه كَلَامٌ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (ص) كَمَا يُحَاوِلُ المُرْجِفُونَ; وَإِلَّا فَهَلْ يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ يَذْكُرُ فِيهِ تَأْدِيبَ نَفْسِهِ!!؟

      أَمَّا الأَجْوِبَةُ الَّتِي جَاءَتْ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ فَهِيَ جَاءَتْ مُطَابِقَةً تَمَامًا لِطَبِيعَةِ الأَسْئِلَةِ المَطرُوحَةِ، وَحَسَبَ القَاعِدَةِ البَلَاغِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ بِلُزُومِ التَّكَلُّمِ وِفْقَ مُقْتَضَى الحَالِ، أَيْ مِنْ دُونِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقِيصَةٍ عَمَّا يَقْتَضِيهِ ظَرْفُ الْبَيَانِ، وَهَذَا هُوَ أُسُّ البَلَاغَةِ وَأَسَاسُهَا فِي لُغَةِ العَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِبَيَانِهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ، يَعْرِفُهُ كُلُّ دَارِسٍ دَرَسَ كِتَابًا وَاحِدًا فِي بَلَاغَةِ العَرَبِ.

      فَاليَهُودُ سَأَلُوا النَّبِيَّ (ص) بِوَاسِطَةِ النَّضرِ بْنِ الحَارِثِ عَنْ أَمْرِ الفِتْيَةِ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ عَدَدِهِمْ، فَهُمْ قَالُوا للنَّضرِ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيطٍ: (سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُ كَان لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ).

      وَالقُرْآنُ الكَرِيمُ قَدْ أَجَابَ بِتَفْصِيلٍ كَبِيرٍ عَنْ مَوْضُوعِ أَهْلِ الكَهْفِ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ ذَكَرَ مُبتَدَاهُمْ وَمُنْتَهَاهُمْ فِي أَرْبَعِ عَشْرَةَ آيَةً، حَتَّى سُمِّيَتْ السُّورَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا هَذِهِ الآيَاتُ بِسُورَةِ الكَهْفِ، بَيْنَمَا صَاحِبُ المَقَالِ دَلَّسَ عَلَى القَارِىءِ وَقَالَ: إنَّ النَّضرَ سَأَلَهُ عَنْ عَدَدِ أَهْلِ الكَهْفِ فَلَمْ يُجِبْ. وَهَذِهِ غَايَةُ الخِيَانَةِ فِي النَّقْلِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الآخَرِينَ.

       وَأَمَّا ذُو القَرْنَيْنِ فَاليَهُودُ قَالُوا: (وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَان نَبَأَهُ)، فَالسُّؤَالُ كَانَ عَنْ (نَبَأِ ذِي القَرْنَيْنِ وَأَخْبَارِهِ) لَا عَنْ اسْمِهِ، وَصَاحِبُ المَقَالِ دَلَّسَ هُنَا أَيْضًا حِينَ قَالَ: إِنَّ النَّضرَ سَأَلَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا (ص) عَنْ اسْمِ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ الَّذِي يَبْلُغُ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ وَلَمْ يُجِبْ!!

  وَهُنَا أَيْضًا أَجَابَ القُرْآنُ الكَرِيمُ بِتَفْصِيلٍ كَبِيرٍ جِدًّا عَنْ نَبَأِ ذِي القَرْنَيْنِ وَأَخْبَارِهِ تَنَاوَلَتْهُ الآيَاتُ مِنْ 83 إِلَى 98 مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ.

  فَفِي كِلَا المُوْرِدَيْنِ - المُتَقَدِّمَيْنِ - خَانَ صَاحِبُ المَقَالِ الأَمَانَةَ فِي نَقْلِهِ وَدَلَّسَ عَلَى قَارِئِهِ بُغْيَةَ تَسْوِيقِ الجَهَالَةِ مِنْ مُرَادِهِ.

  وَأَمَّا تَعْلِيقَتُهُ عَلَى السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَجَوَابُهُ فَهُوَ قَدْ كَشَفَ فِيهِ عَنْ خُلُوٍّ تَامٍّ مِنْ الذَّكَاءِ وَلَمْ يُدْرِكْ فِيهِ أَنَّ جَوَابَ القُرْآنِ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ.

  فَالسُّؤَالُ هَكَذَا كَانَ: (وَسَلُوْهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ) فَكَانَ جَوَابُ القُرْآنِ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85((  [ الإِسْرَاءُ: 85].

  فَالقُرْآنُ الكَرِيمُ قَدْ أَجَابَ جَوَابًا إِعْجَازِيًّا وَاضِحًا مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ المُرَادَ مِنْ الرُّوحِ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هُوَ مُطْلَقُ الرُّوحِ الوَارِدُ ذِكْرُهَا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، أَمْ هِيَ رُوحُ الحَيَاةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الجَنْبَةُ البَشَرِيَّةُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) هُوَ جَوَابٌ مُثْبِتٌ وَإنَّ (مِنْ (بَيَانِيَّةٌ هُنَا تُوَضِّحُ بِأَنَّ الرُّوحَ هِيَ مِنْ عَالَمِ الأَمْرِ لَا مِنْ عَالَمِ المَادَّةِ، أَمْ قُلْنَا هُوَ تَرْكٌ لِلجَوَابِ وَصَرْفٌ لِلسُّؤَالِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الحَالَاتِ قَدْ طَرَحَ القُرْآنُ الكَرِيمُ تَحَدِّيًا وَاضِحًا لِلآخَرِينَ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)) بِأَنْ يَأْتُوا بِتَعْرِيفٍ وَاضِحٍ لِلرُّوحِ، وَهُوَ قَدْ رَمَاهُمْ بِالجَهْلِ صَرَاحَةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ بِالذَّاتِ، وَهَذِهِ الحَالَةُ تُعَدُّ مِنْ أَخْطَرِ حَالَاتِ التَّحِدِي الَّتِي تُوَجَّهُ لِلخُصُومِ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ إِحَاطَةٌ شُمُولِيَّةٌ بِعَجْزِ الآخَرِينَ مُطْلَقًا عَنْ الإِجَابَةِ، وَمَا زَالَ هَذَا التَّحَدِّي قَائِمًا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالبَشَرِيَّةُ عَاجِزَةٌ فِي الكَشْفِ عَنْ كُنْهِ الرُّوحِ مَا هُوَ، وَهَذَا يَدُلُّ دِلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ القُرْآنَ هُوَ وَحْيٌ مَنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ اخْتِرَاعِ البَشَرِ أَوْ بَيَانِهِمْ; فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ يَمْلِكُ هَذِهِ الإِحَاطَةَ الشُّمُولِيَّةَ بِعَجْزِ البَشَرِ عَنْ الإِجَابَةِ عَنْ كُنْهِ الرُّوحِ إِلَّا اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ). 

      فَمَا أَعْظَمَ القُرْآنَ الكَرِيمَ وَمَا أَعْظَمَ دَلَائِلَهُ.

      وَأَمَّا دَعْوَى صَاحِبِ المَقَالِ بِأَنَّ النَّبِيَّ (ص) قَدْ قَتَلَ النَّضرَ بْنَ الحَارِثِ بَعْدَ أَسْرِهِ فَهِيَ لَمْ تَثْبُتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ بِهِ، وَتُعَارِضُهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى تَقُولُ: إنَّهُ مَاتَ مِنْ أَثَرِ جِرَاحَةٍ أَصَابَتْهُ يَوْمَ بَدْرٍ.

      وَالنَّتِيجَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ المَقَالِ هُوَ تَدْلِيسٌ عَلَى الآخَرِينَ وَتَسْوِيقٌ لِبِضَاعَةٍ كَاسِدَةٍ فِي زَمَنٍ أَصْبَحَ فِيهِ كَشْفُ المُدَلِّسِينَ مِنْ أَسْهَلِ المُهِمَّاتِ عَلَى البَاحِثِينَ.

       وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.