هل اللوحُ المحفوظُ يمنعُ إرادةَ الإنسان؟

يعتقد المسلمون وغيرُهم من أتباع الدِّيانات أن هناك سجلاً أو كتاباً يُدعى "اللَّوح المحفوظ"، يحتوى هذا السجلُّ على أدقِّ المعلوماتِ والتفاصيل والأحداث بخصوص كل ما سيتعرضون له، وقد كُتِبَ هذا السجلُ قبل أن يَخلُقَ الرَّبُ الأرضَ بـخمسين ألفَ سنة ( أي قبل حوالي 4.5 مليار سنة من الآن ). وإذا كانَ كلُّ شيءٍ مكتوباً قبل أن نُولدَ بملياراتِ السنيين، والرَّبُ قد قرَّرَ كُلَّ ما سنفعلُهُ وذلك قبل أن نُولَدَ، فلماذا نستحقُ العقوبةَ والحالة هذه ؟ سيقولُ لكَ المسلمُ :- الإنسانُ مُخيَّرٌ في أفعالِهِ وتصرفاتِهِ، فالله يَعلمُ مُسبقاَ بالأحداث فقط، ولكنه لا يتدخلُ في هدايةِ شخصٍ وضلالِه.  ويمكنُ تفنيد حُجةِ المسلمِ عن طريق الإتيان بالدليل من القرآن نفسه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).. الرعد 27. فتبيَّنَ لنا - من خلال هذا المقطع - أن الله فعلاً يتدخلُ في هداية وإضلال الناس، وأن الأمر ليس عائداً لهم، فإذا أرادَ اللهُ أنْ يُضلَّك فسَيُضِلك.. وسيعاقبك في الآخرة على ضلالِكَ مع أنه مَن اختارَ أن يُضلَّك.. أين منطقُ العدلِ الإلهي هنا ؟

: اللجنة العلمية

أولاً: لابُدَّ من مناقشة المبدأ الذي بُنِيَ عليه الإشكال، وهو وجودُ لوحٍ محفوظٍ يُمثِلُ قدراً ثابتاً لا يتغيرُ ولا يتبدَّل، وعليه يُصبحُ ما يقعُ على الإنسان في هذه الحياة ليس شيئاً خارجاً عمَّا سُطِرَ سلفاً.

 وهذا ليس صحيحاً لأنَّ الأقدارَ التي كُتِبَتْ في اللوح المحفوظ خاضعةٌ للبَدَاء، وهو إمكانية التغيير والتبديل بحسب فعل العبد الاختياري، وحتى نقدِّمَ فهماً واضحاً لهذا الأمر لابُدَّ أن نتحدَّثَ وبشكلٍ مختصرٍ عن عقيدة البَدَاء؛ لأنه يرفع اللبسَ الذي وقع فيه صاحبُ الإشكال عندما تصوَّرَ أنَّ اللوحَ المحفوظَ يُصَادِرُ إرادةَ الإنسان.

عقيدةُ البَدَاء تشكلُ سِرَّ العلاقة بينَ الإنسانِ صاحبِ الإرادة الحرة، وبينَ اللهِ العالِمِ بحال الإنسان وما يصيبه في الحياة الدنيا، والمقصودُ من البَدَاء في المعتقد الشيعي هو (الإنشاء) أي لله مشيئةٌ ماضِيَةٌ حتى على اللوح المحفوظ، حيث يقع ضمن هيمنة الله وقدرته المطلقة، وبالتالي ليس هناك مشيئةٌ واحدةٌ هي التي أوجَدَتِ اللَّوحَ المحفوظ، وإنما هناك مشيئةٌ بعد مشيئةٍ، وإرادةٌ بعد إرادةٍ، قال تعالى: ﴿ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾، أي للهِ الأمرُ قبلَ الخلقِ وبعدَ الخلقِ، ومِنْ قبلِ التقديرِ وبعدَ التقديرِ، ومِنْ قبلِ الأمرِ ومِنْ بعدِ الأمرِ، ومِنْ قبلِ الإرادةِ ومِنْ بعد الإرادة، وهكذا مِنْ قبل اللوح المحفوظ ومِنْ بعدِهِ، وبالتالي للهِ مشيِئَةٌ ماضِيَةٌ على اللَّوحِ المحفوظ يغيِّرُ فيه ويُبدِّلُ بمشيِئتِهِ سبحانه، والله قد علَّقَ أسبابَ التغييرِ في اللوح على فعل العبد واختياره، فمَن كُتِبَ عليه الشقاءُ  فليست الكتابةُ قدراً جازماً وإنما كانتْ بفعله الاختياري، فإن عمِل صالِحاً يتمُ محوُ اسمِهِ من الأشقياء ويُكتَبُ مع السعداء، ولا يُعَدُّ اللوحُ المحفوظُ عقبةً أمام مشيئة الله وإرادته، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال في قول الله عز وجل: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾: لم يعنوا أنه هكذا، ولكنهم قالوا: قد فَرَغ من الأمر فلا يزيدُ ولا ينقُصُ، فقال اللهُ جلَّ جلالُه تكذيباً لقولهم: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾، ألم تسمع الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) ﴾ . وقد فسر الإمام الصادق (ع) قوله تعالى ﴿يَمحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ بقوله: (وهل يمحو الله إلاّ ما كان؟ وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟). مما يعني أن اللوحَ المحفوظَ قابلٌ للمحوِ والإثبات وقد علَّق الله ذلك على اختيارات الإنسان في الحياة، وبالتالي يُصبِحُ البَدَاءُ بمعنى مسؤولية الإنسان عن مصيره في الدنيا.

وقصة النبيِّ يونُسَ عليه السلام مع قومه تأكيدٌ لحقيقة البَداء، وهي قدرةُ اللهِ على الفعل والإرادة متى يشاء وكيف يشاء، إذ أمَرَهُ الله تعالى بمغادرة المدينة لأن العذاب سينزل على قومه، فامتثلَ لهذا الأمر وخرج، ولما عاد بعد مدة، وجدهم على ما تركهم عليه، لم يُصِبْهم شيءٌ، فسأل ربَّه متعجباً عن سرِّ ذلك، فأنبأه الله بأن قومه قد آمنوا قُبَيْلَ وقوع العذاب، فانتفتْ حكمةُ العقاب، قال سبحانه: ﴿ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ﴾،فإيمانُ قوم يونس نفعهم وصرف عنهم العذاب الحتمي ودفع عنهم القدر، حتى سيدنا يونس (ع)، لولا تسبيحُه واستغفاره، للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون. 

فلو قدّر الله على إنسانٍ أن يكون شقياً، بسبب شقاء والديه، أو بسبب جريمةٍ ارتكبها، أو بسبب الظروف المحيطة به، فرغم ذلك القدر، يبقى أمامه الأملُ مشرقاً، إذ يمكن أن يغيِّرَ الله ذلك الشقاء، ويستبدلَ تلك الحياة بحياةٍ سعيدة، بقدرته اللامتناهية، ولكن بشرط أن يُقبِلَ إليه متضرعاً تائباً، مقدِّماً بين يديه العمل الصالح.

مثل هذا النوع من التفكير، يرتكز على حقيقةٍ وجدانيةٍ وحالةٍ فطرية، تَعَايَشَ الناس معها وتفاعلوا بها في شتى ضروب الحياة، فلو لم يكن هناك بَداء، وكان الله عاجزاً عن محو ما كان ثابتاً، وتثبيت ما لم يكن، فكيف إذن والحال هذه أن يكلِّف الله العباد؟، فمن خطل الرأيِّ القول: أن الله أوجب على الناس أن يعبدوه وأن يعملوا صالحاً، في حين أنه قد قدّر لهم مقاديرَهم ومصائرَهم بشكلٍّ حتميٍّ ونهائيٍّ، وهذا عين التناقض، فلو كان قد قدّر لنا أن نكون سعداء أو أشقياء ونحن في بطون أمهاتنا - ولا محيص عن تغيير ذلك- فما معنى أن يأمرنا- جميعاً- بالسعي نحو السعادة والخير، وينهانا عن الوقوع في مهاوي الشقاء ؟!. 

ثانياً: قوله أن الله يتدخل في هداية الإنسان، فصحيحٌ؛ لأن الله هو الذي زوَّد الإنسان بالعقل والفطرة، وبعث إليه الأنبياء والرسل لكي يدلّوه على طريق الحق. 

وقولُهُ: أن الله هو الذي يُضِلُّ العباد على نحو الجبر والقهر فليس صحيحاً، والآية التي استشهد بها وهي قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) لا تدل على مطلوبه وأن الله يجبرهم على الضلال؛ لأن مشيئة الله معلقة على مشيئة الإنسان واختياره، وليست متعلقة بذاتِ الفعل في الخارج، بمعنى أن الله يشاء لهم الكفر طالما شاءوا هم أنفسهم ذلك، ومشيئة الله هنا هي فقط الخذلان وإيكال الإنسان إلى نفسه، وسببُ الخذلانِ هو تكبُّرُ الإنسانِ وجحودُهُ وعدمُ تسليمِهِ بالحقِ وقد وصفت الآياتُ السابقةُ لهذه الآية حالهم بقوله (يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ..) فهؤلاء تعمدوا الضلال باختيارهم فلا يجبرهم الله على الهداية. 

 وفي الختام أحببت ذِكرَ روايةٍ تُفصِّلُ الرَدَّ على صاحب الإشكال، فلو تأمل فيها لوجد ما يبحث عنه - إن كان يبحث عن الحق- وهي عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديقُ أبا عبد الله عليه السلام فقال: أخبرني عن الله عز وجل، كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحِّدين، وكان على ذلك قادراً؟

قال عليه السلام: لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب؛ لان الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إياه العقاب.

 قال (الزنديق): فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشر من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح، العبد يفعله والله به أمره، والعملُ الشرُّ، العبدُ يفعلُهُ والله عنه نهاه.

 قال: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير، قدَرَ بها على الشرِّ الذي نهاه عنه.

 قال: فإلى العبدِ من الأمر شيء؟

 قال: ما نهاهُ اللهُ عن شيءٍ إلَّا وقَدْ علِمَ أنَّه يطيقُ تَرْكَهُ، ولا أمره بشيء إلَّا وقَدْ علِمَ أنَّه يستطيع فعله، لأنه ليس من صفته الجوْرُ والعَبَثُ والظُلمُ وتكليفُ العِبَادِ ما لا يطيقون.

 قال: فمَنْ خلقَهُ اللهُ كافراً يستطيعُ الإيمانَ وله عليه بتركهِ الإيمانَ حجة؟

 قال عليه السلام: إن الله خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرَهُم ونَهَاهُم، والكفرُ اسمٌ يلحقُ الفعلَ حين يفعلُهُ العبدُ، ولم يخلقْ اللهُ العبدَ حين خلقه كافراً، إنه إنما كَفَرَ من بعد أن بلغ وقتاً لزمتْهُ الحُجَّةُ من الله، فعرَضَ عليه الحقَّ فجَحَدَهُ، فبإنكارِهِ الحقَّ صار كافراً.

 قال الزنديق: فيجوزُ أنْ يُقدِّرَ على العبدِ الشَّرَ، ويأمرُهُ بالخيرِ وهو لا يستطيعُ الخيرَ أن يعمَلَهُ ويُعذّبهُ عليه؟

 قال عليه السلام: إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يُقدِّرَ على العبد الشَّرَ ويريدُه منه، ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه، والانزاع عما لا يقدر على تركه، ثم يعذّبُهُ على تركِ أمرِهِ الذي عَلِمَ أنه لا يستطيع أخذه).