إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَخْطِئَةَ عَلِيٍّ (ع) بِأَيِّ سَبِيلٍ.. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُفْلِحُوا وَلَنْ يُفْلِحُوا أَبَدًا!!
أَحْمَدُ العِرَاقِيُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ. نَرْجُو الرَّدَّ الشَّافِيَ عَلَى هَذَا المُدَّعَى. أَخْطَاءُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَنَكْتَفِي بِذِكْرِ بَعْضِ الأَمْثِلَةِ مِنْ الفَتَاوَى الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِضَرُورَةِ إِثْبَاتِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَا نَبْغِي تَجْرِيحَهُ وَلَا الطَّعْنَ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ هَذَا المُوسَوِيُّ مَعَ عُمَرَ وَإِنَّمَا رَدًّا لِحُجَّةِ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةِ، مُقْتَبِسِينَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي رَدِّهِ عَلَى ابْنِ المُطَهَّرِ، إِذْ قَالَ (المُنْتَقَى) (ص363 - 364): (فَقَدْ قَضَى عَلِيٌّ فِي الحَامِلِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّهَا تَعْتَّدُ أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ مَعَ صِحَّةِ خَبَرِ سبيعَةَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْهُ، وَقَضَى فِي المُفَوِّضَةِ أَنَّ مَهْرَهَا يَسْقُطُ بِالمَوْتِ مَعَ قَضَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ فِي بروع بِأَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ حَتَّى غَضِبَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِمَّا لَمْ يَقْدَحْ فِي عَلِيٍّ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ أُولِي العِلْمِ إِذَا اجْتَهَدُوا، وَقَالَ: إِذَا اخْتَارَتْ المَرْأَةُ زَوْجَهَا فَهِيَ طَلْقَةٌ. مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَيَّرَ نِسَاءَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَالأُمُورُ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي لِعَلِيٍّ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ الأُمُورِ الَّتِي كَانَ لِعُمَرَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا، مَعَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ رَجَعَ عَنْ عَامَّةِ تِلْكَ الأُمُورِ، وَعَلِيٌّ عُرِفَ رُجُوعَهُ عَنْ بَعْضِهَا فَقَطْ كَرُجُوعِهِ عَنْ خِطْبَةِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَمَّا بَعْضُهَا كَفُتْيَاهُ بِأَنَّ الحَامِلَ المُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَّدُ أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ، وَأَنَّ المُفَوِّضَةَ لَا مَهْرَ لَهَا إِذَا مَاتَ عَنْهَا الزَّوْجُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ المُخَيَّرَةَ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ. فَهَذِهِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بَقَاؤُهُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ. وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي (كِتَابِ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ) وَذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المرُوزِي فِي (كِتَابِ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ) وَأَكْثَرُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الكُتُبِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ...) أ. ه. وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (مِنْهَاجِ السُّنَّةِ) (3 / 136 – 137)، فَلَمْ يَعُدْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَطْعَنٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَوْ كُنَّا مِثْلَ الخَوَارِجِ أَوْ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا وَيُبْغِضُونَهُ لَسَرَدْنَا أَقْوَالَهُمْ وَمَطَاعِنَهُمْ فِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُمْ فِي الحُجَّةِ المَنْطِقِيَّةِ العَقْلِيَّةِ أَرْجَحُ مِنْ الرَّوَافِضِ هَؤُلَاءِ - مَعَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ أَيْضًا - مِثْلَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ عَلَى المُسْلِمِينَ وَتَرَكَ قِتَالَ الكُفَّارِ، وَأَوَّلَ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي انْقِسَامِ الأُمَّةِ وَاخْتِلَافِهَا، وَأَوَّلَ مَنْ تَرَكَ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ (وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ المَدِينَةَ وَحَوَّلَ دَارَ الخِلَافَةِ مِنْهَا مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ امْتَدَحَهَا وَبَيَّنَ فَضَائِلَهَا العَظِيمَةَ حَتَّى إِنَّهُ طَعَنَ بِمَنْ يَتْرُكُهَا فَقَالَ: المَدِينَةُ كالكير، تَنْفِي خُبْثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا (- كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عِنْدَ البُخَارِيِّ (1883) وَغَيْرِهِ -، وَهَذَا لَوْ ظَفَرَ بِهِ الرَّوَافِضُ هَؤُلَاءِ لَطَارُوا بِهِ فَرَحًا، وَنَحْنُ لَا نَسْتَعْمِلُهُ فِي الطَّعْنِ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَنَا مَعْذُورٌ فِيمَا فَعَلَ، وَنَحْنُ نَتَأَوَّلُ لَهُ فِعْلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، لَكِنَّا أَرَدْنَا كَمَا قُلْنَا إِسْكَاتَ هَؤُلَاءِ المَهَازِيلِ فِي طَعْنِهِمْ بِصَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَأَظُنُّ ذَلِكَ حَاصِلًا إِنْ شَاءَ الله.
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
لَا يُهِمُّنَا مَا تَنْقُلُونَهُ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَقَدْ شَهِدَ عُلَمَاءُ المُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبُغْضِهِ وَمُعَادَاتِهِ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ فِي (الدُّرَرِ الكَامِنَةِ ج2 ص 144) أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ يَنْسِبُ ابْنَ تَيْمِيَّةَ لِلنِّفَاقِ لِما بَدَرَ مِنْهُ مِنْ كَلِمَاتٍ مُهِينَةٍ وَمُشِينَةٍ فِي حَقِّ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
وَهُوَ تَطْبِيقٌ مِنْهُمْ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يُبْغِضُ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَّا مُنَافِقٌ، وَلَا يُحِبُّهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ.
وَمَعَ ذَاكَ سَنُجِيبُكُمْ بِالتَّفْصِيلِ حَوْلَ مَا نَقَلْتُمُوهُ مِنْ قَضَايَا تَدَّعُونَ أَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) خَالَفَ فِيهَا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، وَنَقُولُ لَكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ:
الأَوْلَى بِكُمْ أَوْ بِابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنْ تَجْعَلُوا الأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الوَارِدَةَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَفَضْلِهِ هِيَ الحَاكِمَةُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الأَحَادِيثِ وَالنُّقُولَاتِ المُخْتَلَفِ فِي شَأْنِهَا، فَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) "أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ" أَوْ "أَقَضَاهُمْ عَلِيٌّ"، حَدِيثٌ صَحِيحٌ شَهِدَ بِصِحَّتِهِ عُلَمَاءُ الحَدِيثِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا (رَاجِعُوا صَحِيحَ الجَامِعِ لِلأَلْبَانِيِّ: 868).
وَمَنْ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فِي القَضَاءِ فَهُوَ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بِلَا مُنَازِعٍ; لِأَنَّ القَضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى كُلِّ عِلْمٍ، وَأَعْلَمُهُمْ فِيهِ أَعْلَمُهُمْ بِكُلِّ العُلُومِ.
أَمَّا القَضِيَّةُ الأُولَى المُدَّعَى أَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) خَالَفَ فِيهَا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، وَهِيَ قَوْلُهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِأَنَّ عِدَّةَ الحَامِلِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ أَبْعَدُ الأَجَلَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ الحَدِيثِ الوَارِدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ فِي حَقِّ سبيعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ زَوَجَّهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا حِينَ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَعَلَيْهِ تَكُونُ عِدَّةُ الحَامِلِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ وَضْعُ الحَمْلِ لَا أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ حَسَبَ الحَدِيثِ المَذْكُورِ.
نَقُولُ: الحَدِيثُ الوَارِدُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مُخَالِفٌ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ آيَتَانِ الأُولَى تُشِيرُ إِلَى عِدَّةِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (وَالثَّانِيَةُ تُشِيرُ إِلَى عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ الحَامِلِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
وَحَدِيثُ البُخَارِيِّ مُوَافِقٌ لِلآيَةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ وَمُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الآيَةِ الأُولَى، وَالحَدِيثُ المُخَالِفُ لِصَرِيحِ القُرْآنِ يَنْبَغِي ضَرْبُهُ عَرْضَ الجِدَارِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ العَمَلُ بِالجَمْعِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ وَالأَخْذُ بِأَبْعَدِ الأَجَلَيْنِ، هَذَا مَا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ العِلْمِيَّةُ وَالفِقْهِيَّةُ.
فَحُكْمُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي المَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ هُوَ حُكْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الأُمَّةِ مُوَافِقٌ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ.
أَمَّا القَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَهْرُ المُفَوِّضَةِ الَّتِي تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَيْ المَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ وَفَوَّضَتْ الأَمْرَ إِلَى زَوْجِهَا أَوْ وَلِيِّهَا، فَقَدْ حَكَمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِأَنَّهُ لَهَا الإِرْثُ وَلَا شَيْءَ لَهَا فِي المَهْرِ، بَيْنَمَا ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ المِثْلِ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الأَشْجَعِي القَائِلِ بِأَنَّ رَسُولَ اللهِ قَضَى لبرُوعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَهِيَ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا صَدَاقٌ وَقَدْ تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِأَنَّ لَهَا مَهْرَ المِثْلِ.
نَقُولُ: المَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ رَدَّ حَدِيثَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الأَشْجَعِي، وَقَالَ فِيهِ: (حَدِيثُ أَعْرَابِيٍّ يَبُولُ عَلَى عقبَيْهِ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الأَعْرَابِيِّ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ).
وَفِي رِوَايَةِ هَذَا الحَدِيثِ اضْطِرَابٌ الأَمْرُ الَّذِي دَعَا الشَّافِعِيَّ إِلَى عَدَمِ الأَخْذِ بِهِ وَالحُكْمِ فِي المَسْأَلَةِ كَمَا حَكَمَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَجِهَةُ الإِضْطِرَابِ أَنَّهُ تَارَةً يُقَالُ: إِنَّ رَاوِيَ هَذَا الحَدِيثِ هُوَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ. وَأُخْرَى يُقَالُ: مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ. وَثَالِثَةٌ يُقَالُ: رَاوِيَةُ رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ. وَرَابِعَةٌ: نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ. وَمِنْ هُنَا تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ فِي الأَخْذِ بِهِ (انْظُرْ: كِتَابَ الأُمِّ للشَّافِعِي ج 7 ص 172، وَمُخْتَصَرَ الْمُزْنِيِّ فِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ ج1 ص 181). فَهُوَ لَيْسَ حَدِيثاً مَقْطُوعَ الصُّدُورِ حَتَّى يُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) خَالَفَ فِيهِ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ).
وَبِمَا حَكَمَ بِهِ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي المَسْأَلَةِ، حَكَمَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَالُوا: لَا صَدَاقَ لَهَا وَلَهَا المِيرَاثُ وَعَلَيْهَا العِدَّةُ. (رَاجِعْ: المَصْدَرَ السَّابِقَ).
أَمَّا مَوْضُوعُ تَعَرُّضِهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِخِطْبَةِ ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ الأَمْرُ الَّذِي أَغْضَبَ البَضْعَةَ الزَّهْرَاءَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) وَذَهَبَتْ إِلَى أَبِيهَا رَسُولِ اللهِ غَاضِبَةً فَقَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ عَدُوِّ اللهِ مَعَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ.
نَقُولُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الشِّيعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوَّلًا، وَلِأَنَّهُ تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ الوَضْعِ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ ثَانِيًا، وَيَكْفِينَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ ثَلَاثَةً مِنْ رُوَاتِهَا وَهُمْ: (أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالمُسَوَّرُ بْنُ مخْرمَةَ)، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ المُنْحَرِفِينَ عَنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَانْحِرَافُهُ عَنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَمُيُولُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَكَذِبُهُ فِي الأَحَادِيثِ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى، وَضَرْبُ عُمَرَ لَهُ بِالدُّرَّةِ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ انْظُرْ: (شَرْحَ نَهْجِ البَلَاغَةِ لِابْنِ أَبِي الحَدِيدِ المُعْتَزِليِّ ج4 ص 67، تَذْكِرَةَ الحُفَّاظِ لِلذَّهَبيِّ ج1 ص 7، وَجَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ ج 2 ص 121).
أَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَعَدَاوَتُهُ لِعَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَدْ بَلَغَتْ بِهِ حَدًّا أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فِي أَرْبَعِينَ جُمُعَةٍ حَتَّى لَا يَذْكُرَ آلَ مُحَمَّدٍ مَعَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذِكْرِهِ إِلَّا أَنْ تَشْمَخَ رِجَالٌ بِآنَافِهَا (انْظُرْ: مُرُوجَ الذَّهَبِ للمَسْعُودِيِّ ج3 ص 73، وَشَرْحَ النَّهْجِ للمُعْتَزِليِّ ج4 ص (62).
وَهُوَ الَّذِي جَاءَ لِخَالَتِهِ عَائِشَةَ بِخَمْسِينَ رَجُلًا يَشْهَدُونَ زُورًا بِأَنَّ المَكَانَ الَّذِي هِيَ فِيهِ لَيْسَ بِمَاءِ الحَوْأَبِ حَتَّى تُوَاصِلَ طَرِيقَهَا فِي حَرْبِهَا لِعَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَكَانَتْ أَوَّلَ شَهَادَةِ زُورٍ فِي الإِسْلَامِ (انْظُرْ :الإِمَامَةَ وَالسِّيَاسَةَ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالمِعْيَارَ وَالمُوَازَنَةَ للإِسْكَافِي ص 56).
أَمَّا المُسَوَّرُ بْنُ مخْرمَةَ، فَحَدِيثُ عُرْوَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي (سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ) ج3 ص 151، وَفِي (تَارِيخِ الإِسْلَامِ) ج5 ص 246، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ: فَلَمْ أَسْمَعْ المُسَوَّرَ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ. انْتَهَى.
يَكْفِينَا أَنْ نَعْرِفَ مِنْ خِلَالِهِ وَاقِعَ الرَّجُلِ وَمُيُولِهِ لِخُصُومِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَى دَرَجَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ.
فَحَدِيثٌ هؤلاءِ رُوَاتُهُ مَرْفُوضٌ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَلَا حُجِّيَّةَ فِيهِ أَبَدًا.
أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ لِلزَّوْجَةِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ مَعًا، وَلَا يُوجَدُ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ، لَا مِنْ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ يُمْكِنُ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ فَهْمٌ وَاجْتِهَادٌ فَقَطْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتِ الآرَاءُ فِي هَذَا المَوْضُوعِ جِدًّا.
قَالَ الجَصّاصُ الحَنَفِيُّ فِي "أَحْكَامِ القُرْآنِ": (وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ" وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ زَاذانِ عَنْهُ، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيٍّ: "أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ". وَقَالَ عَمْرٌو عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي الخَيَارِ وَأَمْرُك بِيَدِك: "إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الخَيَارِ: "إِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ". وَقَالَ فِي أَمْرِك بِيَدِك: "إِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ".
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرٌ وَمُحَمَّدٌ... إلخ). انْتَهَى [أَحْكَامُ القُرْآنِ 3: 468 - 469].
فَالمَسْأَلَةُ - كَمَا تَرَى - خِلَافِيَّةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا، وَبَيْنَ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ وَفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ ثَانِيًا، كَمَا أَنَّ نَفْسَ النُّقُولَاتِ عَنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مُخْتَلِفَةٌ فِي المَقَامِ، فَبَعْضٌ يَقُولُ: إِنَّهُ قَالَ :إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَبَعْضٌ يَقُولُ: إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ.
وَمَعَهُ، كَيْفَ يَجْزِمُ هَذَا النَّاقِلُ بِأَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) خَالَفَ القُرْآنَ أَوْ السُّنَّةَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَهِيَ - كَمَا نَرَاهَا - مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ بَيْنَ الخَلَفِ وَالسَّلَفِ، بَلْ وَحَتَّى فِي النَّقْلِ عَنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْفُسِهِمْ؟!!
وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ البَعْضُ مِنْ دِلَالَةِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلَى تَخْيِيرِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لِنِسَائِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} سُورَةُ الأَحْزَابِ.
فَنَقُولُ: لَا يُسْتَفَادُ مِنْ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَعَدَمُهُ بِمُجَرَّدِ الإِخْتِيَارِ، فَقَدْ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَأَكْثَرُ الإمَامِيَّةِ أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ بِيَدِ الرَّجُلِ شَرْعًا، وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ، وَمَا جَاءَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى تَخْيِيرِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لِزَوْجَاتِهِ إِنْ أَرَدْنَ اللهَ فَيَبْقَيْنَ فِي عِصْمَتِهِ، أَوْ يُرِدْنَ مَتَاعَ الدُّنْيَا فَيَقُومُ هُوَ بِتَطْلِيقِهِنَّ لَا أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ لِأَنْفُسِهِنَّ يَكُونُ طَلَاقًا. [انْظُرْ: المُحَلَّى - ابْنَ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّ - 10 :216، المَبْسُوطَ - لِلشَّيْخِ الطُّوسِيِّ - 2: 29].
وَهَذَا المَعْنَى الَّذِي قَالَ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ وَأَكْثَرُ الإمَامِيَّةِ تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ نَفْسُهَا: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}، قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (وَقَوْلُهُ: (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) يَقُولُ: وَأُطَلِّقُكُنَّ عَلَى مَا أَذِنَ اللهُ بِهِ). [جَامِعُ البَيَانِ - للطَّبَرِيِّ - 21: 187].
فَدَعْوَى مُخَالَفَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) هُنَا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ لِلقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ هِيَ مِنْ المُجَازَفَةِ بِمَكَانٍ، لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَصٍّ وَاضِحٍ عَنْهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي مَرْوِيَّاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوَّلًا، وَلِعَدَمِ وُجُودِ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنْ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الطَّلَاقُ وَعَدَمُهُ بِفِعْلِ التَّخْيِيرِ هَذَا ثَانِيًا، بَلْ الظَّاهِرُ عَدَمُ اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ كَمَا أَسْلَفْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (إِنَّ عَلِيًّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ عَلَى المُسْلِمِينَ وَتَرَكَ قِتَالَ الكُفَّارِ) فَهُوَ الطَّامَّةُ الكُبْرَى وَاقِعًا.. فَقَدْ حَارَبَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) النَّاكِثِينَ وَالقَاسِطِينَ وَالمَارِقِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ).
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي "تَلْخِيصِ الحبير": (قَوْلُهُ: ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانِ بُغَاةٌ، هُوَ كَمَا قَالَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ: أُمِرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالقَاسِطِينَ وَالمَارِقِينَ. رَوَاهُ النِّسَائِيُّ فِي الخَصَائِصِ وَالبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ). انْتَهَى [تَلْخِيصُ الحبير فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرَّافِعِيِّ الكَبِيرِ - ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانيُّ 4: 84].
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (بِأَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي انْقِسَامِ الأُمَّةِ وَاخْتِلَافِهَا).
نَقُولُ: هَذَا مِنْ المُغَالَطَاتِ الَّتِي يُحَاوِلُونَ تَرْوِيجَهَا وَاقِعًا، فَلَمْ يَكُنِ السَّبَبَ فِي انْقِسَامِ الأُمَّةِ وَرَفْعِ البَرَكَةِ عَنْهَا إِلَّا تَنَازُعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْعُهُمْ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مِنْ كِتَابَةِ كِتَابِهِ الَّذِي أَرَادَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ فِي تِلْكَ الحَادِثَةِ الَّتِي كَانَ يَبْكِي ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ يَتَذَكَّرُهَا وَيَقُولُ: (إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ (ص) وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) [صَحِيحُ البُخَارِيِّ 5: 138].
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي "فَتْحِ البَارِي" ج8 ص 101 فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ عَنْ رَزِيَّةِ يَوْمِ الخَمِيسِ: (قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ:" فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ" مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ مُصَمِّمًا عَلَى الإِمْتِثَالِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمْ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ الإِخْتِلَافُ ارْتَفَعَتِ البَرَكَةُ كَمَا جَرَتِ العَادَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ). انْتَهَى.
وَقَالَ فِي ص (103): "فَاخْتَلَفَ أَهْلُ البَيْتِ" أَيْ مَنْ كَانَ فِي البَيْتِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُرِدْ أَهْلَ بَيْتِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). انْتَهَى.
إِذَنْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ الأَقْدَسِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هُوَ سَبَبُ رَفْعِ البَرَكَةِ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَحُصُولِ المُنَازَعَاتِ فِيهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ وَلَيْسَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
تَقُولُ: إِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ هُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَنَعُوا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مِنْ كِتَابَةِ كِتَابِهِ الَّذِي أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ لِلأُمَّةِ كُلَّ مَا يَجِبُ تَبْلِيغُهُ.. وَهَذَا خَلَلٌ فِي نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ؟!!
نَقُولُ: لَقَدْ أَجْمَعَ شُرَّاحُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ بِأَنَّ الكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَتَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِ الشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ لِلنَّصِّ عَلَى الخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ أَكْثَرُهُمْ الثَّانِيَ وَجَاؤُوا لَهُ بِمُؤَيِّدَاتٍ عَدِيدَةٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البَارِي ج1 ص 186:
(وَاخْتُلِفَ فِي المُرَادِ بِالكِتَابِ فَقِيلَ: كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يَنُصُّ فِيهِ عَلَى الأَحْكَامِ لِيَرْتَفِعَ الإِخْتِلَافُ. وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَسْامِي الخُلَفَاءِ بَعْدَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بَيْنَهُمُ الإِخْتِلَافُ. قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَيينةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ فِي أَوَائِلِ مَرَضِهِ وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ: ادْعِي لِي أَبَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ). انْتَهَى.
وَسَوَاءٌ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِأَنَّ الكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَتَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هُوَ بِحَقِّ أَبِي بَكْرٍ - مَعَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ جَزْمًا وَإِلَّا كَيْفَ نَتَصَوَّرُ مَنْعَ عُمَرَ لِلنَّبِيِّ (ص) أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَ هَذَا الكِتَابِ الَّذِي فِيهِ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ لَهَا - أَوْ لَمْ تَصِحَّ، فَمَوْضُوعُ الخِلَافَةِ كَانَ قَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بِبَيَانَاتٍ كَثِيرَةٍ وَحُجَجٍ وَاضِحَةٍ فِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ وَغَيْرِهِ، مِمَّا دَعَاهُ لِلإِسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابَتِهِ فِي رَزِيَّةِ يَوْمِ الخَمِيسِ حِينَ شَاهَدَ تَنَازُعَهُمْ أَمَامَهُ فَطَرَدَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ لَهُمْ: (قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ) [صَحِيحُ البُخَارِيِّ 1: 37].
وَبِتَمَامِ الحُجَّةِ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ ثُمَّ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ الإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فِي "سِرِّ العَالَمِينَ":
(لَكِنْ أَسْفَرَتِ الحُجَّةُ وَجْهَهَا، وَأَجْمَعَ الجَمَاهِيرُ عَلَى مَتْنِ الحَدِيثِ مِنْ خُطْبَتِهِ فِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ، بِاتِّفَاقِ الجَمِيعِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: بَخٍ بَخٍ يَا أَبَا الحَسَنِ، لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. فَهَذَا تَسْلِيمٌ وَرِضًى وَتَحْكِيمٌ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا غَلَبَ الهَوَى لِحُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَحُمِلَ عَمُودُ الخِلَافَةِ، وَعُقُودُ البُنُودِ، وَخَفَقَانُ الهَوَى فِي قَعْقَعَةِ الرَّايَاتِ، وَاشْتِبَاكُ ازْدِحَامِ الخُيُولِ، وَفَتْحُ الأَمْصَارِ; سَقَاهُمْ كَأْسُ الهَوَى، فَعَادُوا إِلَى الخِلَافِ الأَوَّلِ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). انْتَهَى [مَجْمُوعَةُ رَسَائِلِ الإِمَامِ الْغَزَّالِي، كِتَابُ سِرِّ العَالِمِينَ: 483].
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق