مُخَالَفَةُ آدَمَ (عَ) لَيْسَتْ مَعْصِيَةً شَرْعِيَّةً وَلَا هِيَ إِثْمٌ.

حَامِدٌ الكَرْبَلَائِيُّ:      السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.      نَحْنُ نُقِرُّ بِعِصْمَةِ الأَنْبِيَاءِ (عَ) لَكِنْ مِمَّا يَرِدُ مِنْ إِشْكَالٍ هُوَ فِي قِصَّةِ آدَمَ (عَ) المَذْكُورَةِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ. وَكَيْفَ يُعَبِّرُ القُرْآنُ بِقَوْلِهِ: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ) فَمَا هَذَا العِصْيَانُ؟ وَأَلْحَقَهَا القُرْآنُ بِالإِشَارَةِ إِلَى التَّوْبَةِ عَلَى آدَمَ (عَ) أَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلذَّنْبِ وَالمَعْصِيَةِ، فَهَلْ أَذْنَبَ آدَمُ (عَ) ؟ وَعَبَّرَ القُرْآنُ أَيْضًا بِقَوْلِ: (أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) فَهَلْ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ؟ وَكَيْفَ أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ بَعْدَ أَنْ طُرِدَ إِبْلِيسُ؟ هَلْ المُرَادُ بِالشَّيْطَانِ هُنَا غَيْرُ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ؟      وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَآلِ بَيْتِهِ الأَطْهَارِ الأَبْرَارِ.

: اللجنة العلمية

الأَخُ حَامِد المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     1- يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ إِطْلَاقَ العَرَبِ لِلكَلِمَةِ وَاللَّفْظِ وَالمُصْطَلَحِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ مُتَشَرِّعِيَّةٍ كَيْ لَا تَخْتَلِطَ عَلَيْنَا الأُمُورُ وَلَا نَقَعَ فِي المَحْذُورِ وَمُخَالَفَةِ ضَرُورِيَّاتِ العَقْلِ وَثَوَابِتِ الدِّينِ. فَنَقُولُ: إِنَّ العِصْيَانَ فِي اللُّغَةِ - حَيْثُ إِنَّ القُرْآنَ فِي الأَصْلِ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ العَرَبِ وَلِلعَرَبِ وَمَعَ العَرَبِ -: اسْمٌ مِنْ عَصَى يَعْصِي عَصِيًّا وَعِصْيَانًا وَمَعْصِيَةً، وَتَدُلُّ مَادَّتُهُ عَلَى أَصْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّجَمُّعِ، وَيَدُلُّ الآخَرُ عَلَى الفُرْقَةِ.

     فَمِنَ الأَوَّلِ :العَصَا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِ يَدِ مُمْسِكِهَا عَلَيْهَا.

     وَالأَصْلُ الآخَرُ: العِصْيَانُ وَالمَعْصِيَةُ، يُقَالُ عَصَا، وَهُوَ عَاصٍ، وَالجَمْعُ عُصَاةٌ وَعَاصُونَ. (رَاجِعْ مَقَايِيسَ اللُّغَةِ 4 / 334).

      وَجَعَلَ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِيُّ العِصْيَانَ مِنْ العَصَا (يَعْنِي عَلَى المَعْنَى الأَوَّلِ وَهُوَ الجَمَاعَةُ) فَقَالَ: وَعَصَا عِصْيَانًا إِذَا خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِعَصَاهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ) (طه (1) / 121) وَقَالَ: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) (النِّسَاءُ / 14) وَيُقَالُ فِيمَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ: فُلَانٌ شَقَّ العَصَا. (المُفْرَدَاتُ: 386).

     وَقِيلَ: العِصْيَانُ تَرْكُ الإِنْقِيَادِ، وَهُوَ خِلَافُ الطَّاعَةِ... وَيُقَالُ لِلجَمَاعَةِ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ: قَدْ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ. وَفِي الحَدِيثِ: (لَولَا أَنْ نَعْصِيَ اللهَ لَمَا عَصَانَا) أَيْ لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ إِجَابَتِنَا إِذَا دَعَوْنَاهُ، فَجَعَلَ الجَوَابَ بِمَنْزِلَةِ الخِطَابِ فَسَمَّاهُ عِصْيَانًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (آلُ عِمْرَانَ / 54). وَالعَاصِي: الفَصِيلُ إِذَا لَمْ يَتْبَعْ أُمَّهُ. (الصِّحَاحُ للجَوْهَرِي 6 / 2429، التَّعْرِيفَاتُ للجُرْجَانِي: 151، النِّهَايَةُ لِابْنِ الأَثِير3 / 250، وَلِسَانُ العَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ 15/68). وَقَالَ الرَّازِي فِي المَحْصُولِ (2 / 61): وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَعْصٍ عَلَى الحِفْظِ أَي مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا الحَطَبُ مُسْتَعْصٍ عَلَى الكَسْرِ.

     نَقُولُ: وَهَذَا وَاضِحٌ أَيْضًا فِي عَدَمِ دِلَالَةِ إِطْلَاقِ العَاصِي عَلَى المُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِ الطَّاعَةِ وَالإِثْمِ وَمُخَالَفَةِ الأَمْرِ مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ بِدَلِيلِ عَدَمِ اتِّبَاعِ الفَصِيلِ لِأُمِّهِ، وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) وَعَدَمُ الحِفْظِ وَامْتِنَاعُهُ، وَكَذَا اسْتِعْصَاءُ الحَطَبِ عَلَى الكَسْرِ لِقُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ، فَافْهَمْ.

     وَأَمَّا العِصْيَانُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الجُرْجَانِيُّ: العِصْيَانُ هُوَ تَرْكُ الإِنْقِيَادِ. (التَّعْرِيفَاتُ: 156).

     وَقَالَ المنَّاوِيُّ: هُوَ الإِمْتِنَاعُ عَنْ الإِنْقِيَادِ. (التَّوْقِيفُ: 242، وَالكُلِّيَّاتُ لِأَبِي البَقَاءِ الكفوي: 656).

     نَقُولُ: وَعَدَمُ الإِنْقِيَادِ أَوْ تَرْكُهُ أَوْ الإِمْتِنَاعُ عَنْهُ لَيْسَ باللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً بِمَعْنَى مُخَالَفَةِ الأَمْرِ، بَلْ هُوَ مُطْلَقُ الإِنْقِيَادِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى فَصِيلِ النَّاقَةِ حِينَ عَدَمِ مُتَابَعَتِهِ لِأُمِّهِ فِي مَسِيرِهِ، وَكَذَا حِينَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَاتَيْنِ الحَالَتَيْنِ صُدُورُ أَمْرٍ وَمِنْ ثَمَّ مُخَالَفَةُ اللهِ تَعَالَى أَوْ الفَصِيلِ لِتِلْكَ الأَوَامِرِ فَافْهَمْ.

     وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ الكفوي :العِصْيَانُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ المُخَالَفَةُ لمُطْلَقِ الأَمْرِ، أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيُرَادُ بِهِ المُخَالَفَةُ لِلأَمْرِ التَّكْلِيفِيِّ خَاصَّةً. (الكُلِّيَّاتُ: 41).

     نَقُولُ: فَمِنْ الوَاضِحِ جِدًّا مِنْ التَّعْرِيفِ الأَخِيرِ لِأَبِي البَقَاءِ الكفوي أَنَّ العِصْيَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ مُخَالَفَةُ مُطْلَقِ الأَمْرِ وَلَا يَنْحَصِرُ بالإِصْطِلَاحِ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَمْرِ التَّشْرِيعِيِّ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ يَشْمُلُ لُغَةً مُخَالَفَةَ كُلِّ أَمْرٍ مَهْمَا كَانَ، أَيْ مَا يَشْمُلُ الأَمْرَ الإِرْشَادِيَّ وَهُوَ النُّصْحُ، وَكَذَلِكَ الأَمْرَ التَّشْرِيعِيَّ الوُجُوبيَّ المَوْلَوِيَّ فَافْهَمْ.

     2- وَكَذَلِكَ الحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّوْبَةِ فَنَقُولُ فِي مَعْنَى التَّوْبَةِ: قَالَ الشَّربِينِيُّ فِي الإِقْنَاعِ فِي حَلِّ أَلْفَاظِ أَبِي شُجَاعٍ 2 / 198: التَّوْبَةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَنْ ذَنْبٍ. وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُهُ (ص): إِنِّي لأَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً. فَإِنَّهُ (ص) رَجَعَ عَنْ الإِشْتِغَالِ بِمَصَالِحِ الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ). وَإِنَّمَا فَعَلَ (ص) ذَلِكَ تَشْرِيعًا وَلِيَفْتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ لِلأُمَّةِ لِيُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ أَكَابِرِ القَوْمِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَبَّهَ بِتَوْبَةِ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ عَلَى تَوْبَةِ مَنْ أَذْنَبَ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَقَامًا مِنْ المَقَامَاتِ الصَّالِحَةِ إِلَّا تَابِعًا لَهُ (ص (فَلَوْلَا تَوْبَتُهُ (ص) مَا حَصَلَ لِأَحَدِ تَوْبَةٌ. وَأَصْلُ هَذِهِ التَّوْبَةِ أَخْذُ العُلْقَةِ مِنْ صَدْرِهِ الكَرِيمِ (ص)، وَقِيلَ: هَذِهِ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. وَشَرْعًا: الرُّجُوعُ عَنْ التَّعْوِيجِ إِلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ.

     وَقَالَ مَحْمُودٌ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَبْدُ المُنْعِم فِي مُعْجَمِ المُصْطَلَحَاتِ الفِقْهِيَّةِ 2 /381:

    التَّوْبَةُ لُغَةً: مُطْلَقُ الرُّجُوعِ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الذَّنْبِ.

    وَفِي الإِصْطِلَاحِ: الرُّجُوعُ عَنْ أَفْعَالٍ مَذْمُومَةٍ إِلَى أَفْعَالٍ مَحْمُودَةٍ شَرْعًا.

    وَقَالَ الجُرْجَانيُّ فِي التَّعْرِيفَاتِ 1 / 70: التَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ بِحَلِّ عُقْدَةِ الإِصْرَارِ عَنْ القَلْبِ، ثَمَّ القِيَامُ بِكُلِّ حُقُوقِ الرَّبِّ. ثُمَّ قَالَ: الإِنَابَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّوْبَةِ لُغَةً وَعُرْفًا.

    وَلِنَرَ مَا قَالُوا فِي الإِنَابَةِ: قَالَ ابْنُ الأَثِير: يُقَالُ أَنَابَ يُنِيبُ إِنَابَةً، فَهُوَ مُنِيبٌ، إِذَا أَقْبَلَ وَرَجَعَ. وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: "وَإِلَيْكَ أُنِيبُ". (النِّهَايَةُ 5 / 123).

     وَاصْطِلَاحًا: الإِنَابَةُ: إِخْرَاجُ القَلْبِ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ. وَقِيلَ: الإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ مِنْ الكُلِّ إِلَى مَنْ لَهُ الكُلُّ. وَقِيلَ: الإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ مِنْ الغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، وَمِنْ الوَحْشَةِ إِلَى الأُنْسِ.

    وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ الكفوي: الإِنَابَةُ :الرُّجُوعُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى. الكُلِّيَّاتُ: 308.

     وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: الإِنَابَةُ: الإِسْرَاعُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِخْلَاصِ العَمَلِ لَهُ. (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ 1 / 467).

     فهَا هُمْ العُلَمَاءُ يُقَرِّرُونَ أَنَّ الإِنَابَةَ وَكَذَلِكَ التَّوْبَةَ إِنَّمَا هِيَ مُطْلَقُ الرُّجُوعِ لُغَةً، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ اصْطِلَاحًا، فَلَا تَدُلُّ بِذَاتِهَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فَتَأَمَّلْ.

     فَتَبَيَّنَ عَدَمُ لُزُومِ مَعْصِيَةِ آدَمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالمَعْنَى الشَّرْعِيِّ حِينَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) وَأَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ تَتَوَافَقُ بِكُلِّ وُضُوحٍ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعَانٍ خُصُوصًا لَوْ لَاحَظْنَا عَدَمَ تَوْبِيخِ اللهِ تَعَالَى لَهُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى تَعَالَى بِبَيَانِ شَقَائِهِ وغِوَايَتِهِ وَتَعَبِهِ وَمُعَانَاتِهِ لَوْ هُوَ فَعَلَهَا.

     3- كَمَا نَعْلَمُ لَوْ تَأَمَّلْنَا مِنْ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ أَنَّ هُنَاكَ أَمْرًا شَرْعِيًّا مَوْلَوِيًّا وَأَمْرًا إِرْشَادِيًّا، وَيُمْكِنُ بِكُلِّ وُضُوحٍ بَلْ هُوَ الأَلْيَقُ وَالأَقْرَبُ شَرْعًا وَعَقْلًا حَمْلُ الأَمْرِ الإِلَهِيِّ هُنَا عَلَى النُّصْحِ وَلَيْسَ التَّشْرِيعَ وَالتَّحْرِيمَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ تَعَالَى تَعَبَهُ وَغِوَايَتَهُ وَشَقَاءَهُ لَوْ هُوَ خَالَفَ ذَلِكَ الأَمْرَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ جَلِيًّا حِينَمَا أَشَارَ إِلَى حُصُولِ ذَلِكَ بِكَشْفِ السَّوْأَةِ بَعْدَ الأَكْلِ وَنُزُولِهِمَا إِلَى الأَرْضِ بَدَلًا عَنْ خُلُودِهِمَا فِي الجَنَّةِ المُرِيحَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا :أَنْ لَا يَجُوعَ فِيهَا وَلَا يَعْرَى.

    4- أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) فَلَوْ قَرَأْتُمْ الآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ مَعْنَاهَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ بِوُضُوحٍ (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) وَهُوَ أَنَّهُ أَبْعَدَهُمَا عَنْ الجَنَّةِ بِوَسْوَسَتِهِ لَهُمَا وَلَيْسَ هُوَ مَنْ كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى آدَمَ (عَ) وَسَيْطَرَةٌ بِحَيْثُ إِنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَيْهِمَا وَسَيْطَرَ وَتَغَلَّبَ دُونَ أَدْنَى مُقَاوَمَةٍ مِنْهُمَا لَهُ أَوْ إِرَادَةٍ لِمَعْصِيَتِهِ وَطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْهُمَا أَبَدًا وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَصْلًا.

     وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ مِنْ إِبْلِيسَ فَقَالَ (عَزَّ وَجَلَّ) لَهُ: (يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فَيَكُونُ مَعْنَى "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا" أَنَّهُ تَسَبَّبَ بِإِخْرَاجِهِمَا مِنْهَا.

     وَقَالَ المُلَّا فَتْحُ اللهِ الكَاشَانيُّ فِي زُبْدَةِ التَّفَاسِيرِ (1 / 127 - 129): نَسَبَ الإزْلَالَ إِلَى الشَّيْطَانِ لَمَّا وَقَعَ بِدُعَائِهِ وَوَسْوَسَتِهِ، أَوْ أَزَلَّهُمَا عَنْ الجَنَّةِ بِمَعْنَى أَذْهَبَهُمَا عَنْهَا وَأَبْعَدَهُمَا، كَمَا تَقُولُ: زَلَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، وَزَلَّ عَنِّي ذَلِكَ، إِذَا ذَهَبَ عَنْكَ. وَيَعْضِدُهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: فَأَزَالَهُمَا، وَهُمَا مُتَقَارَبَانِ فِي المَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ أَزَلَّ تَقْتَضِي عَثْرَةً مَعَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الإِزَالَةِ.

     5- ثُمَّ قَالَ الكَاشَانيُّ فِي وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ وَكَوْنِهِ هُوَ هُوَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ: وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِ إِبْلِيسَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ حَتَّى وَسْوَسَ إِلَيْهِمَا، وَإِبْلِيسُ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ الجَنَّةِ حِينَ أَبَى السُّجُودَ وَهُمَا فِي الجَنَّةِ، فَقِيلَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، وَإِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الدُّنُوِّ مِنْهُ، فَكَانَ يُكَلِّمُهُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ وَبَعْدَ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ الجَنَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَلَّمَهُمَا مِنْ الأَرْضِ بِكَلَامٍ عَرَفَاهُ وَفَهِمَاهُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي فُقْمِ الحَيَّةِ وَخَاطَبَهُمَا مِنْ فُقْمِهَا، وَالفُقْمُ: جَانِبُ الشَّدقِ . وَقِيلَ: تَمَثَّلَ بِصُورَةِ دَابَّةٍ فَدَخَلَ وَلَمْ تَعْرِفْهُ الخَزَنَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنِعَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى جِهَةِ التَّكْرِمَةِ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ مَعَ المَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَدْخُلَ لِلوَسْوَسَةِ ابْتِلَاءً لِآدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاسَلَهُمَا بِالخِطَابِ. وَظَاهِرُ القُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ شَافَهَهُمَا بِالخِطَابِ. وَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ.

     وَعَلَى التَّقَادِيرِ (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أَيْ: مِنْ الكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ. أَضَافَ الإِخْرَاجَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِيهِ. وَإِنَّمَا أَخْرَجَ اللهُ آدَمَ مِنْ الجَنَّةِ، لِأَنَّ المَصْلَحَةَ اقْتَضَتْ بَعْدَ تَنَاوُلِهِ الشَّجَرَةَ إِهْبَاطَهُ إِلَى الأَرْضِ وَابْتِلَاءَهُ بِالتَّكْلِيفِ وَسَلْبَهُ ثِيَابَ الجَنَّةِ، كَمَا تَقْتَضِي الحِكْمَةُ الإِفْقَارَ بَعْدَ الإِغْنَاءِ وَالإِمَاتَةَ بَعْدَ الإِحْيَاءِ. وَمِنْ جُمْلَةِ المَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لُطْفًا لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ فِي اجْتِنَابِ الأَوْلَى وَالخَطَايَا وَاتِّقَاءِ المَآثِمِ، وَالتَّنَبُّهِ عَلَى أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْ الجَنَّةِ بِتَرْكِ الأَوْلَى، فَكَيْفَ يَدْخُلُهَا ذُو خَطَايَا جَمَّةٍ؟! (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) أَيْ :انْزِلُوا مِنْ الجَنَّةِ، خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، لِقَوْلِهِ: (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا). وَجَمَعَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا الإِنْسِ، فَكَأَنَّهُمَا الإِنْسُ كُلُّهُمْ، أَوْ هُمَا وَإِبْلِيسُ أُخْرِجَ مِنْهَا ثَانِيًا بَعْدَ مَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِلوَسْوَسَةِ. وَقِيلَ: مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ.

 *   (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) * حَالٌ اسْتُغْنِيَ فِيهَا عَنِ الوَاوِ بِالضَّمِيرِ. وَالمَعْنَى:

     مُتَعَادِينَ يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِتَضْلِيلِهِ، يَعْنِي: آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ وَإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آدَمَ إِلَيْهِ مَا يُوجِبُ عَدَاوَتَهُ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ حَسَدَهُ المَلْعُونُ وَخَالَفَهُ، فَنَشَأَتْ بَيْنَهُمَا العَدَاوَةُ، فَعَدَاوَةُ آدَمَ لَهُ إِيمَانٌ وَعَدَاوَةُ إِبْلِيسَ لَهُ كُفْرٌ. وَأَمَّا عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَنَّ الخِطَابَ يَخْتَصُّ بِآدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذُرِّيَّتَهُمَا يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَعُلِّقَ الخِطَابُ بِهِمَا للتَّلَازُمِ بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَبَيْنَ أَصْلِهَا.

     هَذَا، وَقَدْ اسْتَدْلَلْنَا بِكَلَامِ المُخَالِفِينَ فِي أَصْلِ المَوْضُوعِ تَقْوِيَةً لِلحُجَّةِ عَلَى المُشَكِّكِينَ فِي عِصْمَةِ الأَنْبِيَاءِ (عَ) الَّتِي يُشَكِّكُونَ فِيهَا كَثِيرًا وَيُنْكِرُونَهَا أَشَدَّ نَكِيرٍ مَعَ إِثْبَاتِهَا بِشَكْلٍ غَرِيبٍ لِجَمِيعِ مَنْ سَمَّوْهُمْ صَحَابَةً عَمَلِيًّا وَفِيهِمْ العُصَاةُ وَالفُسَّاقُ وَالمُنَافِقُونَ وَالمُرْتَدُّونَ بِنَصِّ القُرْآنِ الكَرِيمِ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِكَلَامِ أَحَدِ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ فِي الجَوَابِ عَنْ الأَمْرِ الهَامِشِيِّ فِي قَضِيَّةِ إِبْلِيسَ، مَعَ العِلْمِ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ يُوجَدُ قَائِلُونَ كَثِيرُونَ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الفَرِيقَيْنِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَعَلَى العِصْمَةِ. وَالحَمْدُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَاللهُ العَالِمُ.

     دُمْتُمْ سَالِمِينَ.