الإِمَامُ الكَاظِمُ (ع) رَاهِبُ آلِ مُحَمَّدٍ.

سَعِيدٌ اللَّامِيُّ: السِّلَامُ عَلَيْكُمْ .. هَلْ يَصِحُّ القَوْلُ عَنِ الإِمَامِ الكَاظِمِ{ع}بِأَنَّهُ رَاهِبُ آلِ مُحَمَّدٍ؟

: اللجنة العلمية

     الأَخُ سَعِيدٌ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     هَذِهِ الصِّفَةُ (الرَّهْبَانِيَّةُ) أَطْلَقَهَا العَبَّاسِيُّونَ عَلَى الإِمَامِ الكَاظِمِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَبِالخُصُوصِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، لِمَا رَأَوْهُ مِنْ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِ وَانْقِطَاعِهِ للهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فِي سِجْنِهِ الَّذِي سَجَنُوهُ فِيهِ.

     رَوَى الشَّيْخُ الصَّدُوقُ فِي "عُيُونِ أَخْبَارِ الرِّضَا (ع)" عَنْ أَبِي العَبَّاسِ الخَرَزِيِّ، قَالَ :حَدَّثَنَا الثَّوْبَانِيُّ قَالَ: كَانَتْ لِأَبِي الحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) بِضْعُ عَشْرَةَ سَنَهً كُلُّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ انْقِضَاضَ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَكَانَ هَارُونُ رُبَّمَا صَعِدَ سَطْحًا يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الحَبْسِ الَّذِي حُبِسَ أَبُو الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَكَانَ يَرَى أَبَا الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) سَاجِدًا فَقَالَ لِلرَّبِيعِ :يَا رَبِيعُ مَا ذَاكَ الثَّوْبُ الَّذِي أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ المَوْضِعِ؟! فَقَالَ :يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَا ذَاكَ بِثَوْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) لَهُ كُلُّ يَوْمِ سَجْدَةٌ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ. قَالَ الرَّبِيعُ :فَقَالَ لِي هَارُونُ :أَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ رُهْبَانِ بَنِي هَاشِمٍ. قُلْتُ: فَمَا لَكَ قَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْهِ الحَبْسَ؟ قَالَ :هَيْهَاتَ لَابُدَّ مِنْ ذَلِكَ! [ج1ص89].

     وَالمُرَادُ بِالرَّهْبَانِيَّةِ المُشَارِ إِلَيْهَا هُنَا هِي كَثْرَةُ العِبَادَةِ وَالإِنْقِطَاعِ إِلَى اللهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الإِطْلَاقَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): (لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلَامِ)، فَالمُرَادُ بِهَا الرَّهْبَانِيَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّصَارَى الَّذِينَ عَطَّلُوا المَعَاشَ وَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا لَمْ يُضَيِّقْ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَنَهَى الإِسْلَامُ عَنْ ذَلِكَ.

     جَاءَ فِي" الوَافِي" لِلْفَيْضِ الكَاشَانِيِّ: (وَالرَّهْبَانِيَّةُ مِنْ الرَّهْبَةِ بِمِعْنَى الخَوْفِ، كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ بِالتَّخَلِّي مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ مَلَاذِّهَا، وَالزُّهْدِ فِيهَا، وَالعُزْلَةِ عَنْ أَهْلِهَا، وَتَعَمُّدِ مَشَاقِّهَا، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُخْصِي نَفْسَهُ وَيَضَعُ السِّلْسِلَةَ فِي عُنُقِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، فَنَفَاهَا النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَنَهَى المُسْلِمِينَ عَنْهَا وَقَالَ: "لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلَامِ") [ج7ص499]. 

     أَمَّا كَثْرَةُ التَّعَبُّدِ وَالإِنْقِطَاعِ إِلَى اللهِ فِي بَعْضِ الحَالَاتِ، كَأَيَّامِ الحَبْسِ الَّتِي عَاشِهَا الإِمَامُ الكَاظِمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، أَوْ لَيَالِي الْجُمَعِ، أَوْ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَنَحْوِهِ، مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى حَالَةِ التَّوَازُنِ فِي تَحْصِيلِ المَعَاشِ وَعَدَمِ تَعْطِيلِ شُؤُونِ الحَيَاةِ الأُخْرَى، فَهَذَا أَمْرٌ لَا ضَيْرَ فِيهِ، بَلْ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ هُوَ الرَّهْبَنَةُ فِي اللَّيْلِ.

     رَوَى الشَّيْخُ الكُلَيْنِيُّ فِي "الكَافِي": (قَالَ: مَرَّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِمَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ بِيضٌ ثِيَابُهُمْ، صَافِيَةٌ أَلْوَانُهُمْ، كَثِيرٌ ضِحْكُهُمْ، يُشِيرُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، ثُمَّ مَرَّ بِمَجْلِسٍ لِلأَوْسِ وَالخَزْرَجِ فَإِذَا قَوْمٌ بُلِيَتْ مِنْهُمْ الأَبْدَانُ، وَدَقَّتْ مِنْهُمْ الرِّقَابُ وَاصْفَرَّتْ مِنْهُمْ الأَلْوَانُ، وَقَدْ تَوَاضَعُوا بِالكَلَامِ، فَتَعَجَّبَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنْ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ لِآلِ فُلَانٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ، وَمَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ لِلأَوْسِ وَالخَزْرَجِ فَوَصَفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَجَمِيعٌ مُؤْمِنُونَ، فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ بِصِفَةِ المُؤْمِنِ؟ فَنَكَسَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عِشْرُونَ خُصْلَةً فِي المُؤْمِنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ لَمْ يَكْمُلْ إيمَانُهُ، إِنَّ مِنْ أَخْلَاقِ المُؤْمِنِينَ يَا عَلِيُّ: الحَاضِرُونَ الصَّلَاةَ، وَالمُسَارِعُونَ إِلَى الزَّكَاةِ، وَالمُطْعِمُونَ المِسْكِينَ، المَاسِحُونَ رَأْسَ اليَتِيمِ، المُطَهِّرُونَ أَطْمَارَهُمْ، المُتَّزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، الَّذِينَ إِنْ حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا لَمْ يَخْلُفُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا تَكَلَّمُوا صَدَقُوا، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، أُسْدٌ بِالنَّهَارِ، صَائِمُونَ النَّهَارَ، قَائِمُونَ اللَّيْلَ، لَا يُؤْذُونَ جَارًا، وَلَا يَتَأَذَّى بِهِمْ جَارٌ، الَّذِينَ مَشْيُهُمْ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا، وَخُطَاهُمْ إِلَى بُيُوتِ الأَرَامِلِ وَعَلَى أَثَرِ الجَنَائِزِ، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ المُتَّقِينَ). انْتَهَى [ج2ص232].

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.