هَلِ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ شَخْصِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي التَّارِيخِ؟
كُلُّ مَا وَصَلَنَا عَنْ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ وَسِيرَتِهِ وَالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَتَى حَصْرًا مِنْ مَصَادِرَ إِسْلَامِيَّةٍ، فَالمَرَاكِزُ الحَضَرِيَّةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ (بِيزَنْطَةُ وَفَارِسُ) لَمْ تَنْتَبِهْ إِلَى أَنَّ شَيْئًا مَا يَجْرِي فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ مُحَمَّدٍ، وَبِالتَّالِي فَلَا يُوجَدُ أَيُّ ذِكْرٍ لِسَنَوَاتِ الإِسْلَامِ الأُولَى فِيهَا إِطْلَاقًا.
لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الدِّقَّةِ المَقْصُودَ مِنْ هَذَا الكَلَامِ، هَلْ هُوَ مُجَرَّدُ سُؤَالٍ عَنْ مَصَادِرَ تَارِيخِيَّةٍ كُتِبَتْ بِأَقْلَامٍ غَيْرِ إِسْلَامِيَّةٍ، أَمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَشْكِيكٍ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ المَلَاحِدَةِ فِي وُجُودِ شَخْصِيَّةٍ تَارِيخِيَّةٍ تُسَمَّى بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَبِكِلَا الإِحْتِمَالَيْنِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ إِثْبَاتَ الحَدَثِ التَّارِيخِيِّ لَهُ مَنْهَجِيَّتُهُ الخَاصَّةُ، وَتَقُومُ هَذِهِ المَنْهَجِيَّةُ عَلَى دِرَاسَةِ الوَثَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا ذِكْرُ ذَلِكَ الحَدَثِ، وَلِكُلِّ حَدَثٍ تَارِيخِيِّ وَثَائِقُهُ الخَاصَّةُ الَّتِي تُنَاسِبُهُ، فَمَثَلًا حُدُوثُ حَرْبٍ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ فِي اليَمَنِ لَا نَبْحَثُ عَنْهُ فِي المَصَادِرِ التَّارِيخِيَّةِ المُهْتَمَّةِ بِالأَحْدَاثِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي شِمَالِ أَفْرِيقيَا مَثَلًا، وَإِذَا لَمْ نَجِدْهَا فِي تِلْكَ المَصَادِرِ لَا يَعْنِي أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ، فَعَدَمُ ذِكْرِهَا هُنَاكَ إِنَّمَا لِعَدَمِ وُجُودِ دَوَافِعَ لِتَوْثِيقِهَا وَكِتَابَتِهَا لِكَوْنِهَا لَا تُشَكِّلُ مَحَلَّ اهْتِمَامٍ، وَهَكَذَا التَّارِيخُ الإِسْلَامِيُّ لَهُ وَثَائِقُهُ الخَاصَّةُ الَّتِي نَجِدُهَا عِنْدَ المُؤَرِّخِينَ المُهْتَمِّينَ بِتَوْثِيقِ أَخْبَارِهِ وَإِحْدَاثِهِ، وَلَا يُقَالُ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَلَا مِصْدَاقِيَّةَ لِخَبَرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَوْفَ يَنْسَحِبُ عَلَى كُلِّ التَّارِيخِ الإِنْسَانِيِّ، فَمَا مِنْ مُؤَرِّخٍ إِلَّا وَيُؤَرِّخُ لِلحَضَارَةِ أَو القَوْمِيَّةِ أَو البَلَدِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَبِالتَّالِي لَا يَكُونُ مَوْثُوقًا فِي نَقْلِهِ، وَالمَنْهَجِيَّةُ التَّارِيخِيَّةُ قَدْ تَجَاوَزَتْ مُشْكِلَةَ الوُثُوقِ فِي المَصْدَرِ التَّارِيخِيِّ مِنْ خِلَالِ وَضْعِ ضَوَابِطَ عِلْمِيَّةٍ لِتَصْدِيقِ القَضَايَا التَّارِيخِيَّةِ مِثْلِ وَثَاقَةِ الرُّوَاةِ، وَوَثَاقَةِ المُؤَرِّخِ، وَتَوَاتُرِ الأَخْبَارِ، وَالمُقَارَنَةِ بَيْنَ المَصَادِرِ المُخْتَلِفَةِ، وَالمُؤَيِّدَاتِ الحِسِّيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الدَّارِسُ لِلتَّارِيخِ.
وَقَوْلُهُ: "إِنَّ الحَضَارَةَ الفَارِسِيَّةَ وَالبِيزَنْطِيَّةَ لَمْ تَنْتَبِهْ إِلَى مَا يَجْرِي فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ" قَوْلٌ يَعْتَمِدُ عَلَى الإِسْتِحْسَانِ وَالثِّقَةِ الزَّائِدَةِ فِي تِلْكَ الحَضَارَاتِ، أَيْ أَنَّهَا فِي زَعْمِهِ لاَبُدَّ أَنْ تَهْتَمَّ بِحَدَثِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ حَضَارَةٍ، وَهَذَا الإِسْتِحْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَابَلَ بِاسْتِحْسَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَهَامِّ تِلْكَ الحَضَارَاتِ تَوْثِيقُ الإِحْدَاثِ الَّتِي تَقَعُ لِغَيْرِهَا مِنَ الأُمَمِ، وَالَّذِي يَقْطَعُ هَذَا الخِلَافَ هُوَ أَنْ يَأْتِيَنَا بِوَثِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ تُثْبِتُ اهْتِمَامَهُمْ بِتَوْثِيقِ كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ مِمَّا يَقَعُ حَوْلَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى ذَلِكَ.
أَمَّا مَا هِيَ الوَثَائِقُ التَّارِيخِيَّةُ الَّتِي تَشْهَدُ بِوُجُودِ شَخْصِيَّةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ ؟ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهَا فِي نُقَاطٍ:
1- القُرْآنُ الكَرِيمُ، الَّذِي يُعَدُّ أَهَمَّ وَأَصْدَقَ مَصْدَرٍ يُوَثِّقُ حَيَاةَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (ص) وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الكِتَابُ بِالتَّوَاتُرِ جِيلًا عَنْ جِيلٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلِذَلِكَ أَصْبَحَ مِنْ أَهَمِّ المَصَادِرِ التَّارِيخِيَّةِ المَوْثُوقَةِ، وَلِذَا كَانَ مَوْضِعَ اهْتِمَامِ جَمِيعِ الدَّارِسِينَ سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ.
2 - الأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تُمَثِّلُ أَقْوَالَ وَأَفْعَالَ النَّبِيِّ (ص) وَقَدِ اهْتَمَّتْ الأُمَّةُ بِنَقْلِهَا وَتَوْثِيقِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ شَوَاهِدُ مُتَّصِلَةٌ وَمُسْنَدَةٌ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ العَظِيمَةِ.
3 - وَالوَثَائِقُ وَالمَخْطُوطَاتُ المُنْتَشِرَةُ فِي مَتَاحِفِ وَمَكْتَبَاتِ العَالَمِ، وَبَعْضُهَا يُثْبِتُ نِسْبَةَ القُرْآنِ لِتِلْكَ الحُقْبَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَعْضُهَا يُثْبِتُ أَحْدَاثًا لَهَا عِلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ مُبَاشَرَةً.
4 - الآثَارُ الحِسِّيَّةُ المَوْجُودَةُ فِي مَكَّةَ وَالمُدِينَةِ، مِثْلُ مَكَانِ وِلَادَتِهِ وَمَسْجِدِهِ وَمَكَانِ دَفْنِهِ وَكَثِيرٍ مِنَ الآثَارِ الشَّاهِدَةِ عَلَى تِلْكَ الفَتْرَةِ التَّارِيخِيَّةِ.
5-كُتُبُ التَّارِيخِ المُتَعَدِّدَةُ الَّتِي كَتَبَهَا المُسْلِمُونَ وَغَيْرُ المُسْلِمِينَ، بَلْ كُلُّ تَارِيخِ هَذِهِ المِنْطَقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ، وَاللَّحْظَةُ الَّتِي نُشَكِّكُ فِي تَارِيخِهِ الشَّرِيفِ هِيَ ذَاتُهَا اللَّحْظَةُ الَّتِي يَتَبَخَّرُ فِيهَا تَارِيخُ العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ وَالمِنْطَقَةِ، فَوُجُودُ أُمَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ خَيْرُ دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ رَسُولِ الإِسْلَامِ، وَالتَّشْكِيكُ فِي ذَلِكَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ عَبْطًا فِكْرِيًّا.
6 - عَوَائِلُ السَّادَةِ وَالأَشْرَافِ المُنْتَشِرِينَ فِي كُلِّ العَالَمِ وَالَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَبِالأَسَانِيدِ الشَّفَهِيَّةِ وَوَثَائِقِ الأَنْسَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ.
اترك تعليق