هَلْ فِي القُرْآنِ تَنَاقُضٌ؟

الشُّبْهَةُ: مَا سَأَذْكُرُهُ لَكُمْ هُوَ أَمْرٌ عَجِيبٌ حَتَّى بِمَقَايِيسِ القُرْآنِ نَفْسِهِ، فَاللهُ هُنَا يُخْبِرُنَا عَنْ سُؤَالِهِ لِلمُشْرِكِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ سَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِهِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ إِذْ لَوْ شَاءَ لَهُمْ عَدَمَ الإِشْرَاكِ لَمَا أَشْرَكُوا. وَهَذَا مَنْطِقٌ مُتَّسِقٌ مَعَ المَنْطِقِ الدِّينِيِّ القَائِلِ بِأَنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَيَعِيبُ عَلَيْهِمُ اللهُ هَذَا القَوْلَ وَيَتَّهِمُهُمْ بِالكَذِبِ وَالتَّخَرُّصِ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ - الأَنْعَامُ) وَلَكِنْ يَبْدُو أَنَّهُ نَسِيَ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَنَرَاهُ يُقَرِّرُ بِكُلِّ ثِقَةٍ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ مَا عَابَهُ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ - الأَنْعَامُ) فَهُوَ يُقِرُّ صَرَاحَةً بِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي إِشْرَاكِهِمْ، فَنَحْنُ هُنَا أَمَامَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشِيئَةُ اللهِ سَبَبًا فِي إِشْرَاكِهِمْ كَمَا قَالُوا وَيَكُونُونَ بِهَذَا صَادِقِينَ فِي كَلَامِهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي هَذَا الزَّعْمِ وَيَكُونَ القُرْآنُ كَاذِبًا أَيْضًا بِتَكْذِيبِهِمْ.

: اللجنة العلمية

     مِنَ الوَاضِحِ أَنَّ العَقْلِيَّةَ الإِلحَادِيَّةَ أَوْ اللَّادِينِيَّةَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، تَنْطَلِقُ مِنْ قَنَاعَاتٍ مُسْبَقَةٍ تَمْنَعُهَا مِنْ رُؤْيَةِ الخَصْمِ بِصُورَةٍ مَوْضُوعِيَّةٍ، فَأَكْثَرُ الإِشْكَالَاتِ الَّتِي تُثِيرُهَا عَلَى الإِسْلَامِ لَيْسَ فِيهَا حِيَادِيَّةٌ; بَلْ القَصْدُ مِنْهَا وَبِشَكْلٍ مُتَعَمِّدٍ التَّشْوِيشُ وَالتَّهْرِيجُ، بَيْنَمَا الإِنْصَافُ العِلْمِيُّ يَقْتَضِي فَهْمَ المُخَالِفِ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ لَا كَمَا يُحِبُّ هُوَ أَنْ يَفْهَمَهُ، وَهَذَا مَا لَمْ نَلْمَسْهُ عِنْدَ دُعَاةِ الإِلْحَادِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ فَهْمًا خَاطِئًا وَمُنْحَرِفًا لِعَقَائِدِ الإِسْلَامِ وَمِنْ ثَمَّ التَّسْوِيقُ لَهَا عَلَى أَنَّهَا الفَهُمْ المَنْطِقِيُّ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مُصَادَرَةً مُجْحِفَةً لِعُقُولِ الآخَرِينَ وَتَشْوِيهًا لِلحَقِيقَةِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ المُتَقَدِّمَةُ حَوْلَ تَنَاقُضَاتِ القُرْآنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَيْثُ حَاوَلَ فَقَطْ التَّشْوِيشَ عَلَى السُّذَّجِ مِنَ النَّاسِ.

     تَحْلِيلُ الشُّبْهَةِ:

     الآيَةُ الأُولَى: قَالَ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (148 المَائِدَةُ).

     الآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (107 المَائِدَةُ)

     نَوْعُ الشُّبْهَةِ: وُجُودُ تَنَاقُضٍ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، حَيْثُ كَذَّبَ اللهُ قَوْلَ المُشْرِكِينَ فِي الآيَةِ الأُولَى عِنْدَمَا قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا، وَفِي آيَةِ أُخْرَى يَنْسِبُ اللهُ الشِّرْكَ إِلَى مِشْيَتِهِ.

     مُلَاحَظَاتٌ مَنْهَجِيَّةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ: حَتَّى تَسْتَقِيمَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لاَبُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ بَعْضِ الشُّرُوطِ.

     أَوَّلًا: حَتَّى يَصِحَّ الإِشْكَالُ لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ المَشِيئَةُ مَانِعَةً لِإِرَادَةِ الإِنْسَانِ وَاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَشِيئَةُ اللهِ مُتَعَلِّقَةً بِمَشِيئَةِ العَبْدِ وَمِنْ ثَمَّ العَبْدُ هُوَ الَّذِي يَشَاءُ لِنَفْسِهِ مَا يَشَاءُ، فَحِينَهَا لَا تَسْتَقِيمُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ المَشِيئَةِ فِي الآيَةِ الأُولَى (المُخَاطَبُونَ) هم غَيْرُ المُخَاطَبِينَ فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَبِاخْتِلَافِهِمْ يَنْتَفِي وُجُودُ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ.

     ثَانِيًا: لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ المَشِيئَةُ فِي الآيَتَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الشِّرْكِ فِي الخَارِجِ، أَيْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي بِمِشْيَتِهِ يَجْعَلُ المُشْرِكَ مُشْرِكًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُرِيدًا لِذَلِكَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ المَشِيئَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمُقَدِّمَاتِ الفِعْلِ مِثْلِ القُدْرَةِ وَالإِسْتِعْدَادِ الفِطْرِيِّ عَلَى الإِيمَانِ أَوْ الشِّرْكِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُشْرِكَ وَيَرْفُضَ تِلْكَ الهِدَايَةَ الفِطْرِيَّةَ فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللهِ لَا تُجْبِرُهُ وَإِنَّمَا تُوكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ مَشِيئَةُ اللهِ تَعْنِي خُذْلَانَ العَبْدِ وَإِيكَالَهُ إِلَى نَفْسِهِ.

     ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبُ اللهِ مُتَوَجِّهاً لِأَصْلِ الفِكْرَةِ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ تَكْذِيبِ ادِّعَاءِ المُشْرِكِينَ، وَلِتَوْضِيحِ ذَلِكَ نَقُولُ: قَدْ أَثْبَتَتِ الآيَةُ الثَّانِيَةُ وُجُودَ مَشِيئَةٍ للهِ فِي حُصُولِ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) وَبِهَذَا تُثْبِتُ هَذِهِ الآيَةُ فِكْرَةً مُحَدَّدَةً وَهِيَ أَنَّ الشِّرْكَ لَهُ عِلَاقَةٌ مُبَاشِرَةٌ بِمَشِيئَةِ اللهِ. أَمَّا الآيَةُ الأُولَى فَكَذَّبَتْ قَوْلَهُمْ إِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي شَاءَ لَهُمْ الشِّرْكَ، وَعَلَيْهِ أَمَامَنَا خَيَارَانِ:

     الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّكْذِيبُ قُصِدَ بِهِ تَكْذِيبُ الفِكْرَةِ القَائِلَةِ إِنَّ للهِ مَشِيئَةً فِي حُصُولِ الشِّرْكِ لِلمُشْرِكِينَ، وَهَذَا يُثْبِتُ التَّنَاقُضَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ.  

     وَالخَيَارُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ مِنَ التَّكْذِيبِ هُوَ تَكْذِيبَ ادِّعَاءِ المُشْرِكِينَ عِنْدَمَا نَسَبُوا شِرْكَهُمْ لِمَشِيئَةِ اللهِ لَا لِذَوَاتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا الإِحْتِمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ التَّكْذِيبِ اخْتَلَفَ مِنَ الآيَةِ الأُولَى إِلَى الآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَسِيَاقُ الآيَةِ يُثْبِتُ أَنَّ التَّكْذِيبَ تَوَجَّهَ لِقَوْلِهِمْ أَيْ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا الصَّوَابَ عِنْدَمَا قَالُوا (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا)، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الأَمْرَ ذَيْلُ الآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلَّا ظَنًّاً وَتَخَرُّصًا. 

     وَالمُتَأَمِّلُ فِي آيَاتِ الهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ فِي القُرْآنِ سَوْفَ يَرَى بِوُضُوحٍ مَسْؤُولِيَّةَ الإِنْسَانِ عَنْ ضَلَالِهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِلُّ إِلَّا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ 27 مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: (وَيُضِلُّ اللهُ الظّالِمِينَ). وَالآيَةِ 34 مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ). وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ.

     وَالبَاحِثُ حَقًّا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ فِي كُلِّ القُرْآنِ وَيَجْمَعَ بَيْنَ آيَاتِهِ حَتَّى تَكْتَمِلَ عِنْدَهُ الرُّؤْيَةُ، أَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْبِسَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَيَخْدَعَ بَعْضَ المُغَفَّلِينَ فَسَوْفَ يَكُونُ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ عَسِيرًا.