هلِ اِحتمالُ وجودِ اللهِ يؤسّسُ لموقفٍ سلبيٍّ أم إيجابيٍّ؟
يقولُ الملحدونَ: لنفترضْ بأنَّ هنالكَ اِحتمالاً صغيراً لوجودِ اللهِ، وعلى الرّغمِ مِن ذلكَ يمكننَا القولُ بأنّكَ يمكنُ أن تحيا حياةً أفضلَ لو راهنتَ على عدمِ وجودهِ، وليسَ لو راهنتَ على وجودهِ، والذي يعنِي ضياعَ وقتٍ ثمينٍ فِي عبادتهِ وتقديمِ الأضاحي لهُ، والقتالِ في سبيلهِ والموتِ لأجلهِ الخ، فلماذا ننشغلُ ونخسرُ الأفضلَ في هذهِ الحياةِ، ونعيشُ تعساءَ؟
يبدو أنَّ صاحبَ الإشكالِ فكّرَ بصورةٍ عكسيّةٍ للمسارِ الطّبيعيِّ لدليلِ الاِحتمالِ، فاِحتمالُ الوجودِ ليسَ كاِحتمالِ العدمِ، فمَن يحتملُ عدمَ مرضهِ لا يذهبُ إلى الطّبيبِ؛ وذلكَ لأنَّ العدمَ لا يَستتبِعُ موقفاً عمليّاً، فمَن يحتملُ عدمَ وجودِ المطرِ لا يحملُ معهُ مظلّةً، وهكذا كلُّ الاِحتمالاتِ العدميّةِ لا يترتّبُ عليهَا موقفٌ إيجابيٌّ، بخلافِ اِحتمالِ الوجودِ فإنّهُ يفرضُ على صاحبهِ إتّخاذَ موقفٍ يَتناسبُ معَ الإحتمالِ، فمَن يحتملُ المرضَ يذهبُ إلى الطّبيبِ، والذّهابُ إلى الطّبيبِ هوَ الموقفُ الذي يترتّبُ على هذا الإحتمالِ، والعاقلُ لا يتخلّى عَن هذا الموقفِ بحجّةِ أنَّ الذّهابَ يستهلكُ الوقتَ أو الجهدَ أو يحرمهُ مِن متعةٍ معيّنةٍ، وهذا بالضّبطِ ما وقعَ فيهِ صاحبُ الإشكالِ حينَ إحتملَ وجودَ اللهِ ثمَّ لم يرتِّبْ عليهِ موقفاً إيجابيّاً وإنّمَا اِكتفى بالموقفِ السّلبيِّ، وهذا مخالفٌ لمنطقِ العقلِ الذي يوجبُ اتّخاذَ موقفٍ إذا احتُمِلَ وجودُ الشّيءِ، والأمرُ الذي غفلَ عنهُ المُستشكلُ هوَ أنَّ الإحتمالَ عندمَا يكونُ إيجابيَّاً لا يصحُّ معهُ المراهنةُ على العدمِ؛ لأنَّ الرّهانَ يكونُ معَ تساوي احتمالاتِ الوجودِ والعدمِ فإمَّا أن يُراهِنَ على الوجودِ وإمّا على العدمِ، وهذا موقفُ اللّاأدريينَ وهوَ موقفٌ لا يستقيمُ معَ ما أرادَ الوصولَ إليهِ، فإذا إحتملنَا وجودَ اللهِ فلابدَّ حينهَا منَ البحثِ عنهُ والسّعيّ لمرضاتهِ، ولا يكونُ الإنسانُ معذوراً بالقولِ أنَّ البحثَ قد يكلِّفهُ وقتاً وجهداً كمَا يزعمُ صاحبُ الإشكالِ.
وبالتّالي فالمسارُ الطّبيعيُّ لاحتمالِ وجودِ اللهِ يرجِّحُ كفّةَ البحثِ عنهُ حتّى لو افترضنَا وجودَ خسارةٍ مَا فِي هذا البحثِ، لأنَّ ضياعَ الحقيقةِ أيضاً يُعدُّ خسارةً، هذا مضافاً للخسارةِ الكبيرةِ التي تصيبُ الإنسانَ في الآخرةِ، وقَد قرّرَ الفيلسوفُ باسكال هذهِ المعادلةَ فِي ما باتَ معروفاً (بُرهانُ باسكال) ويقومُ هذا الرّهانُ على أنَّ هناكَ إحتمالاً لوجودِ اللهِ، وعليهِ فإنَّ عدمَ الإيمانِ بهِ يؤدِّي إلى خسارةٍ كبيرةٍ في الآخرةِ، وربحٍ يسيرٍ فِي الدّنيَا، في حينِ أنَّ الإيمانَ بهِ يحقِّقُ الرّبحَ الكبيرَ في الآخرةِ، معَ خسارةٍ محدودةٍ في الدّنيا، وما قرّرهُ باسكالُ أكثرُ منطقيّةً ممَّا قرّرهُ صاحبُ الإشكالِ.
وفِي علمِ الكلامِ الإسلاميِّ هناكَ دليلٌ يؤسِّسُ للموقفِ العمليِّ مِنَ الإحتمالِ بوجودِ اللهِ، ويقومُ هذا الدّليلُ على موقفينِ، الأوّلُ: وجوبُ شكرِ المُنعمِ. والثّانِي: دفعُ الضّررِ المُحتملِ، فمَن يحتملُ وجودَ اللهِ وأنّهُ هوَ الذي خلقهُ وأنعمَ عليهِ فهذا يستتبعُ البحثَ عنهُ ومعرفتَهُ مِن أجلِ شكرهِ على هذهِ النّعمِ. وفِي الاِتجاهِ الآخرِ فإنَّ عدمَ الإيمانِ بهِ معَ احتمالِ وجودهِ يستوجبُ ضرراً كبيراً على الإنسانِ فالعقلُ يوجبُ على الإنسانِ البحثَ عنهُ ومعرفتَهُ والعملَ على مرضاتهِ دفعاً لهذا الضّررِ المُحتملِ.
أمَّا القولُ بأنَّ الرّهانَ على وجودهِ يؤدّي إلى خسارةٍ أو كما يعبّرُ صاحبُ الإشكالِ بقولهِ: (ضياعُ وقتٍ ثمينٍ في عبادتهِ وتقديمِ الأضاحي لهُ، والقتالِ في سبيلهِ والموتِ لأجلهِ) فهوَ أمرٌ غيرُ مسلّمٍ بهِ بَل يكشفُ عَن رؤيةٍ سطحيّةٍ لهذهِ التّشريعاتِ، فالعبادةُ في حقيقتِهَا ليسَت عَطاءاً منَ الإنسانِ للهِ، وإنّمَا هيَ فِي الواقعِ عطاءٌ منَ اللهِ للإنسانِ؛ لأنَّ معناهَا حقيقةً ليسَ سلبُ شيءٍ منَ الإنسانِ وإنّمَا تحقيقُ قيمةٍ لهُ. ففِي الرّوايةِ أنَّ رجلاً سألَ الإمامَ الصّادقَ (عليهِ السّلامُ) فقالَ: لِمَ خلقَ اللهُ الخلقَ؟ فقالَ: (إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يخلقْ خلقَهُ عبثَاً، ولم يتركْهُم سُدىً، بَل خلقهُم لإظهارِ قدرتِهِ، وليكلِّفهُم طاعتَهُ، فيستوجبُوا بذلكَ رِضوانهُ، وما خلقَهُم ليجلبَ منهُم منفعةً ولا ليدفعَ بهِم مضرّةً، بَل خلقهُم لينفعَهُم ويوصلَهُم إلى نعيمِ الأبدِ). وعليهِ فإنَّ العباداتِ هيَ التي تؤهّلُ الإنسانَ للحياةِ السّعيدةِ، فبالصّلاةِ يبتعدُ الإنسانُ عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، وبالزّكاةِ يتحقّقُ التّكافلُ والتّرابطُ الاجتماعيُّ، وبالصّيامِ يتعزّزُ شعورُ الإنسانِ بالإنسانِ، وهكذا كلُّ التّشريعاتِ ترفعُ مِن مستوى الإنسانِ كفردٍ وترفعُ مِن مستواهُ كأمّةٍ، ولا يمكنُ أن نتحدّثَ عَن حياةٍ سعيدةٍ للإنسانِ ما لم نتحدّثْ أوّلاً عَن بناءِ الإنسانِ والمجتمعِ.
اترك تعليق