هلِ الإعتقادُ الدّينيُّ يُمثّلُ حالةً دغمائيّةً؟
يقولُ بعضُ العلمانيّينَ: الإعتقادُ الدّينيُّ الدّوغمائيُّ عادةً مَا يقتلُ فِي الفردِ ثقافةَ السّؤالِ وهوَ الطّرفُ الذي يسدُّ فِي وجهِ الفردِ نوافذَ الأسئلةِ وفضاءاتِها الكثيرةَ ويعملُ على مُصادرَتهَا فوراً قبلَ أن تتوالدَ وتتشعّبَ وأشدُّ ما يتوجّسُ ويُحذَرُ منهُ الإعتقادُ الدّينيُّ القائمُ على الغيبيّاتِ واليقينيّاتِ، هوَ الانفتاحُ على تلكَ الأسئلةِ التي تتوالدُ فِي مداراتِ الحيرةِ لأنّهَا الأسئلةُ المعجونةُ بالشّكِّ والتّشهِّي المعرفيّ والتّوقّدِ التّفكيريّ، وهيَ فِي النّهايةِ نقيضُ اليقينِ.
قبلَ الإجابةِ لابُدَّ مِن تحديدِ معنَى (الدّوغمائيّةِ) لنرَى مدَى إنطباقهَا على المعرفةِ الإسلاميّةِ، ولكي نقتربَ مِن مفهومِ الدّوغمائيّةِ لابُدَّ أن نوردَ تصوّراً مُختصراً لذلكَ المفهومِ، ونكتفِي هُنا بتلخيصِ مَا ذكرهُ الدّكتورُ هاشِم صالِح لنظريّةِ (ميلتون روكيش) فيمَا يَخُصُّ مفهومَ الدّوغمائيّةِ. وذلكَ ضِمنَ تقديمهِ لكتابِ مُحمّد أركون (الفكرُ الإسلاميُّ قراءةٌ علميّةٌ) اإنطلقَ روكيش أوّلاً مِن مفهومِ الصّرامةِ العقليّةِ قبلَ أن يتوصّلَ إلى البلّورةِ النّهائيّةِ لمفهومِ الدّوغمائيّةِ أو آليّةِ اشتغالِه. وقَد عرَّفَ الصّرامةَ العقليّةَ كمَا يلِي:
عدمُ قدرةِ الشّخصِ على تغييرِ جهازهِ الفكريّ أو العقليّ عندمَا تتطلّبُ الشّروطُ الموضوعيّةُ ذلكَ، وعدمُ القدرةِ على إعادةِ ترتيبِ أو تركيبِ حقلٍ مَا تتواجدُ فيهِ عدّةُ حلولٍ لمشكلةٍ واحدةٍ وذلكَ بهدفِ حلِّ هذهِ المُشكلةِ بفاعليّةٍ أكبرَ.
ثمَّ تحدّثَ روكيش عنِ الرّوحِ المُنفتحةِ والرّوحِ المُغلقةِ والبُنيةِ التّركيبيّةِ لكلٍّ منهمَا وارتباطِ الثّانيةِ بالعقليّةِ الدّوغمائيّةِ. وأخيراً يدرسُ علاقةَ الأنظمةِ الأيدلوجيّةِ (بغضِّ النّظرِ عَن مضامينِها) بالرّوحِ المُنغلقةِ والعقليّةِ الدّوغمائيّةِ. إنَّ الموضوعَ الذي يهمُّ روكيش ليسَ مضمونَ الأيدلوجيا (هَل هوَ مضمونٌ دينيٌّ أم فلسفيٌّ أم ايدلوجيّ حديثٌ، الخ..) وإنّمَا آليّةَ ارتباطِ العقليّةِ الدّوغمائيّةِ بنظامٍ أيدلوجيٍّ مُعيّنٍ. إنّهُ يحذفُ مِن دائرةِ بحوثهِ مسألةَ المُحتوياتِ والمضامينِ لمصلحةِ الأشكالِ والوظائفِ والآليّاتِ وطرائقِ الاشتغالِ. وبدلاً مِنَ التّحدّثِ عَن نظامٍ أيدلوجيٍّ مَا فإنَّ روكيش يفضِّلُ استخدامَ مصطلحِ (نظامٍ منَ العقائدِ أو الإيمانِ) ويعتبرُ أنَّ العقليّةَ الدّوغمائيّةَ ترتكزُ أساساً على ثنائيّةٍ ضديّةٍ حادّةٍ هيَ: نظامٌ منَ الإيمانِ أو العقائدِ⁄ ونظامٌ منَ اللّاإيمانِ واللّاعقائدِ. بكلمةٍ أخرى أكثرُ وضوحاً فإنَّ العقليّةَ الدّوغمائيّةَ ترتبطُ بشدّةٍ وبصرامةٍ بمجموعةٍ منَ المبادئِ العَقَديّة وترفضُ بنفسِ الشّدّةِ والصّرامةِ مجموعةً أخرى وتعتبرُهَا لاغيةً لا معنَى لهَا. ولذلكَ فهيَ تدخلُ فِي دائرةِ (الممنوعِ التفكيرُ فيهِ) أو المستحيلِ التفكيرُ فيهِ وتتراكمُ بمرورِ الزّمنِ والأجيالِ على هيئةٍ لا مفكَّرَ فيهِ.
وتكونُ هناكَ تشكيلةٌ معرفيّةٌ مَا أكثرُ دوغمائيّةٍ كلّمَا كانَت لا تميّزُ بينَ العقائدِ والإيماناتِ التي ترفضُها. إنّهَا ترميها جميعهَا ضمنَ كتلةٍ واحدةٍ فِي دائرةِ الخطأ.
كمَا تكونُ هناكَ تشكيلةٌ معرفيّةٌ معيّنةٌ دوغمائيّةً أكثرَ كُلّمَا زادَت درجةُ اعتمادِ اليقينيّاتِ الهامشيّةِ على اليقينيّاتِ المركزيّةِ الأساسيّةِ.
وأخيراً تكونُ هناكَ بنيةٌ معرفيّةٌ مَا دوغمائيّةٌ أكثرَ فأكثرَ كلّمَا كانَ منظورهَا الزّمنيّ موجّهاً بشدةٍ نحوَ نقطةٍ بؤريّةٍ أو محرقيّةٍ: أي أنَّ الحاضرَ مُحتقرٌ باستمرارٍ لصالحِ المُبالغةِ بشأنِ الماضِي (مفهومُ العصرِ الذّهبيّ).
ومِن خلالِ مَا تقدّمَ نكتشفُ أنَّ الدّوغمائيّةَ إشكاليّةٌ نفسيّةٌ أكثرَ مِن كونهَا إشكاليّةً معرفيّةً، فالنّفسُ الإنسانيّةُ هيَ المسؤولةُ عنِ التّعصّبِ وعدمِ قبولِ الآخرِ، والإسلامُ كدينٍ يُوصِي أتباعهُ بالانفتاحِ الدّائمِ على العلمِ والمعرفةِ كمَا جاءَ فِي الخبرِ (الحِكمةُ ضالّةُ المؤمنِ أينمَا وجدهَا أخذهَا)، بَل تقومُ فلسفةُ الإسلامِ أساساً على محاربةِ الأفكارِ المُتصلّبةِ التي تشكّلُ أغلالاً للعقلِ (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم)، أمَّا العقيدةُ الإسلاميّةُ فقائمةٌ على ضرورةِ النّظرِ والاجتهادِ ولا يجوزُ فيهَا التّقليدُ والاتّباعُ الاعمى، وإنّمَا يجبُ على كلِّ مسلمٍ تحصيلُ العلمِ فيهَا بالدّليلِ والبرهانِ، وبذلكَ يصبحُ الإسلامُ كدينٍ أبعدَ مَا يكونُ مِن وصفِ الدّغمائيّةِ طالمَا يُطالبُ الجميعُ بضرورةِ النّظرِ والاجتهادِ فِيما يجبُ الايمانُ بهِ. إلّا أنَّ كُلَّ ذلكَ لا يمنعُ مِن وجودِ تيّاراتٍ داخلَ الوسطِ الإسلاميِّ محكومةً برؤيةٍ دوغمائيّةٍ، كمَا هوَ الحالُ فِي التّيّاراتِ السّلفيّةِ التي لا تعترفُ بمَن يُخالفهَا في الرّأي ولا تقبلُ بالبحوثِ العلميّةِ المُحايدةِ، وهناكَ عشراتُ الشّواهدِ التي تعكسُ نماذجَ لعقليّاتٍ دوغمائيّةٍ تحتكرُ الحقيقةَ دونَ أيّ مبرّراتٍ عقلائيّةٍ. مِمَّا يعنِي أنَّ الفكرَ الإسلاميَّ ضِمنَ المنظورِ السّلفيّ لا يخرجُ عَن كونهِ حركةً إجتماعيّةً نفسيّةً تكتسبُ وجودهَا المعرفيَّ داخلَ أسوارِ الجماعةِ الواحدةِ. وهيَ البيئةُ الّتي تنمُو وتترعرعُ فيهَا العقليّاتُ الدّوغمائيّةُ.
أمّا الإسلامُ كدينٍ فقَد شجّعَ على السّؤالِ وأمرَ بهِ قالَ تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). رويَ عنِ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ أنّهُ قالَ: (العلمُ خزائنُ ومفتاحهُ السّؤالُ فسألوا رحمكمُ اللهُ فإنّمَا يؤجَرُ فِي العلمِ ثلاثةٌ القائلُ والمستمعُ والآخذُ)، وعليهِ لا يوجدُ أيُّ مبرّرٍ نَتّهمُ بهِ الدّينَ بالدّغمائيّةِ طالمَا شجّعَ على السّؤالِ وأمرَ بالعقلِ والتّفكّرِ.
اترك تعليق