ما أثرُ الإعتقادِ بالصّفاتِ الذّاتيّةِ والصّفاتِ الفعليّة؟
السلام عليكم ورحمة الله
للوقوفِ على الأثرِ الفعليّ منَ الإعتقادِ بالصّفاتِ الإلهيّةِ وما ينعكسُ على فعلِ العبدِ مِنها، لابدَّ أن نخُصَّ حديثَنا بالأسماءِ الحُسنى لكونِها هيَ المُعبّرةَ عَن تلكَ الصّفاتِ والواسطة بينَ العبدِ وربّه، فالإسمُ في حقيقتِه هو صفةٌ تلبَّسَت بالموصوفِ، أمّا الصّفةُ بما هيَ صفةٌ ليسَت إلّا مفهوماً عامّاً لا ترتبطُ بالواقعِ إلّا في حالِ إتّصافِ الموصوفِ بها، فعندَما نقولُ (عِلم) نحنُ نُشيرُ إلى مفهومٍ مُجرّدٍ، ولكِن عندَما نقولُ (عليم) أو (عالم) نشيرُ حينَها إلى ذاتٍ تلبّسَت بالعلمِ واتّصفَت به، وعليهِ فمنَ الطّبيعيّ أن يكونَ تعلّقُ الإنسانِ بالإسمِ لا بالصّفةِ، فلا يؤمنُ الإنسانُ بوجودِ صفاتٍ مُجرّدةٍ وإنّما يؤمنُ بوجودِ إلهٍ يتّصفُ بهذهِ الصّفاتِ وبالتّالي يتسمّى بها، ولِذا أمرَ اللهُ عبادَه بأن يتقرّبوا إليهِ بأسمائِه حيثُ قالَ: (وَللهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعُوهُ بِها).
وإذا إتّضحَ ذلكَ نعودُ إلى تأكيدِ أنَّ معرفةَ اللهِ تعالى هيَ فعلُه وليسَ للبشرِ صنعٌ فيها، وأنّهُ تعالى لا يُعقَلُ ولا يُتصوَّرُ ولا تحيطُه الأوهامُ، وبالتّالي لا يمكنُ للإنسانِ أن يصفَهُ أو يسمّيهُ مِن تلقاءِ نفسِه، إذ كيفَ يصفُه وبأيّ وسيلةٍ يتصوّرُه وهوَ لا تُحيطُه العقولُ ولا تدركُه الأبصارُ، ولا تتخيّلُه الأوهامُ؟ بَل لَم يجعَل طريقاً إلى معرفتِه إلّا بالعجزِ عَن معرفتِه، فهوَ الدّالُّ على ذاتِه بذاتِه، ومُنزَّهٌ عَن مُجانسةِ مخلوقاتِه؛ بَل هوَ مَن تفضّلَ على عبادِه بأن عرّفَ لهُم نفسَه، وهيَ معرفةٌ تُخرِجُ اللهَ عنِ الحدّين: حدِّ التّعطيلِ وحدِّ التّشبيهِ، بمعنى إثباتِه دونَ إدراكِه، بحيثُ يمتنعُ وصفُه وتسميتُه، ولولا أنَّ اللهَ سمّى نفسَه بأسماءٍ ووصفَها بأوصافٍ؛ لما جازَ لنا أبداً وصفُه وتسميتُه، ومِن هُنا نفهمُ النّصوصَ التي تنهى عَن وصفِ اللهِ بما لم يصِف بهِ نفسَه، فالإنسانُ إذا أرادَ أن يصفَ شيئاً فلا بُدَّ أن يكونَ ذلكَ الشّيءُ معلوماً مُتصوّراً لهُ، أمّا إذا كانَ العقلُ يعجزُ عَن معرفتِه وتصوّرِه، فحينئذٍ محالٌ أن يصفَهُ بصفةٍ، ولو تمرّدَ الإنسانُ وسعى لوصفِ اللهِ سُبحانه بعقلِه، فهوَ في واقعِ الأمرِ لا يصفُ ربّه وإنّما يصفُ ما يتصوّرُه وهوَ غيرُ اللهِ، كما يقولُ الإمامُ الباقرُ (عليه السّلامُ): (كلّما ميّزتموهُ بأوهامِكُم في أدقِّ معانيهِ مخلوقٌ مثلكُم مردودٌ عليكُم) . فإن وصفناهُ بعقولِنا تصوّرناهُ، وإن حاولنا بأوهامِنا تخيّلناه.
وبذلكَ نفهمُ أنَّ اللهَ جعلَ الأسماءَ والصّفاتِ معراجاً لعبادِه وطريقاً لنيلِ رضوانِه، فخلقَ اللهُ لنا هذهِ الأسماءَ وسيلةً بينَه وبينَ خلقِه، لا بوصفِها مُعرّفاتٍ وكاشفاتٍ عنِ الحقِّ تعالى؛ لأنَّ اللهَ أكثرُ ظهوراً مِنها، وإنّما هيَ مُعبِّرةٌ ومُذكِّرةٌ ومُرشدةٌ إلى اللهِ القدّوسِ، الخارجِ عنِ الحدّينِ الظّاهرِ بذاتِه، بعدَ مرتبةِ تعريفِه تعالى نفسَه للعبادِ وليسَ إيقاعاً على الغائبِ المجهولِ.
وهذهِ الأسماءُ مجعولةٌ ومخلوقةٌ وهيَ غيرُ اللهِ تعالى، وإنّما موضوعةٌ بالوضعِ الشّخصيّ في قبالِ الذّاتِ الخارجةِ منَ الحدّين: التّعطيلِ والتّشبيهِ، وهوَ الأمرُ الذي يُعدُّ مِن خصائصِ مدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، بخلافِ كلِّ المدارسِ التي جعلَت هذهِ الأسماءَ عينَ المُسمّى، وهوَ المعنى الذي لا يتحقّقُ معهُ طريقٌ إلى العبادةِ، إذ كيفَ تكونُ العبادةُ وهذهِ الأسماءُ هيَ قائمةً بالذّاتِ، وهَل يجوزُ للعبدِ أن يتشبّهَ أو يتمثّلَ بالذّات.
جاءَ في الرّوايةِ أنَّ رجُلاً سألَ الإمامَ الباقرَ (عليه السّلام) قالَ: (أخبرني عنِ الرّبِّ تباركَ وتعالى لهُ أسماءٌ وصفاتٌ في كتابِه؟ وأسماؤه وصفاتُه هيَ هو؟ فقالَ عليه السّلام: .. فإن قلتَ لم تزَل عندَه في علمِه وهوَ مُستحقُّها فنعَم، وإن كُنتَ تقولُ: لم يزَل تصويرُها وهجاؤُها وتقطيعُ حروفِها، فمعاذَ الله أن يكونَ معهُ شيءٌ غيرُه، بَل كانَ اللهُ ولا خلق، ثم خلقَها وسيلةً بينَه وبينَ خلقِه، يتضرّعونَ بها إليهِ ويعبدونَه) .
وعنِ الإمامِ الرّضا عليه السّلام: (ثمَّ وصفَ نفسَه تباركَ وتعالى بأسماءٍ دعا الخلقَ إلى أن يدعوهُ بها، فسمّى نفسَه سميعاً بصيراً قادراً قاهراً حيّاً قيوماً...، فكانَ اللهُ ولا خلق، وقبلَ أن يخلُقَ اللهُ الخلق، كانَ غنيّاً بذاتِه عارِفاً بنفسِه، فنفسُه هوَ وهوَ نفسُه، فلا يحتاجُ إلى اسمٍ ونعتٍ، ولكِن خلقَها لغيرِه لكَي يعبدوهُ بها، فهيَ بالتّالي غيرُه، ومَن عبدَ هذهِ الأسماءَ فقَد عبدَ غيرَه) .
وفي روايةٍ أُخرى (الإسمُ غيرُ المُسمّى فمَن عبدَ الإسمَ دونَ المعنى فقَد كفرَ ولَم يعبُد شيئاً، ومَن عبدَ الإسمَ والمعنى فقَد كفرَ وعبدَ إثنين، ومَن عبدَ المعنى بإيقاعِ الأسماءِ عليه بصفاتِه التي يصفُ بها نفسَه فذاكَ التّوحيد) .والمقصودُ بعبارةِ المعنى دونَ الإسم، هوَ ما يجدُه الإنسانُ مِن معرفةٍ في واقعِ الفطرةِ، وهيَ المعرفةُ التي تُخرِجُ اللهَ مِن كُلِّ حدٍّ ووهمٍ، وهيَ ذاتُها المعرفةُ التي تفضّلَ اللهُ بها على العبادِ حيثُ فطرَهُم على معرفتِه، فتكونُ الأسماءُ حينئذٍ دالّةً على تلكَ الفطرةِ، ولولا أنَّ اللهَ تفضّلَ علينا بهذهِ الأسماءِ لعجزنا عَن مُناجاتِه وعبادتِه، فسمّى لنا نفسَه بأسماءٍ ووصفَها بصفاتٍ، لكي نتضرّعَ، وندعو، ونعبُدَ اللهَ بها، فأسماؤه تعالى تعبيرٌ وتذكيرٌ وإرشادٌ إلى اللهِ القدّوسِ الخارجِ عنِ الحدّينِ، الظّاهرِ بذاتِه بعدَ مرتبةِ تعريفِه تعالى نفسَه للعبادِ، وليسَت إيقاعاً على مجهولٍ أو مُتوهّمٍ أو مُتصوَّر.
ولكن كيفَ تكونُ هذهِ الأسماءُ طريقاً إلى عبادتِه؟، وما المقصودُ منَ الدّعاءِ بتلكَ الأسماء؟:
أوّلاً: إنَّ هذهِ الأسماءَ ليسَت إعتباراتٍ ذهنيّةً وتصوّراتٍ عقليّةً، وليسَت حروفاً وألفاظاً، بَل هيَ حقائقُ نوريّةٌ واقعيّةٌ يتجلّى اللهُ بها لخلقِه، وهيَ فعلُه تعالى ولا كيفَ لفعلِه.
وإذا نظرنا لها لوجدناها هيَ آياتُ الكمالِ التي يجدُها الإنسانُ ظاهرةً في الخليقةِ، فعندَما نقولُ: عليمٌ، قديرٌ، رحيمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، حيٌّ، قيومٌ ... لا نقصدُ مفاهيمَ ذهنيّةً وصوراً عقليّةً، وإنّما حقائقَ نجدُها ظاهرةً واضحةً في الخلقِ، فاسمُ القدرةِ: هو الذي يجدُه كلُّ إنسانٍ مُتجليّاً في وجودِه الشّخصيّ، وكذا اسمُ العلمِ، فإنَّ اللهَ صنعَ الإنسانَ بقُدرةٍ وبعلمٍ، وهكذا كلُّ أسمائِه، فإنّها تجلّياتٌ في عالمِ الخلقِ. ومِن هُنا أمرنا اللهُ بالتّدبّرِ في آياتِ الكونِ، لكَي يجدَ الإنسانُ أسماءَه الحُسنى ظاهرةً مُتجلّيةً في خلقِه.
ثانياً: إذا وجدَ الإنسانُ حقيقةَ هذهِ الأسماءِ ببصيرةِ القلبِ، مِن غيرِ تصوّرٍ أو توهّمٍ، يجدُ أنَّ نفسَ هذهِ الأسماء هيَ الطّريقُ إلى عبادةِ اللهِ التي هيَ فلسفةُ وجودِ الإنسانِ، قالَ تعالى: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبدُونِ)( )، والعبادةُ في حقيقتِها هيَ طريقُ تكاملِ الإنسانِ والعروجِ بهِ إلى رضوانِ اللهِ تعالى، والأسماءُ هيَ طريقُ هذا التّكاملِ والعروجِ كما سيتّضحُ.
ثالثاً: إنَّ هذهِ الأسماءَ هيَ حقيقةُ الوجودِ وسرُّ بقاءِ الخليقةِ، ولو رفعَ اللهُ هذهِ الأسماءَ لتلاشى الخلقُ وتحوّلَ إلى عدمٍ، لأنَّ قوامَ هذهِ الخِلقةِ بما بسطَهُ اللهُ مِن أسماءِ الكمالِ، مثلَ القُدرةِ والعلمِ والحكمةِ والرّحمةِ ....، فالرّحمةُ مثلاً يعرفُها كلُّ إنسانٍ بوجدانِه لكونِها مُتجلّيةً فيه بمقدار، ولو رفعَها اللهُ منه لاضطربَ الخلقُ؛ حيثُ لا تحنُّ الأُمٌّ على ولدِها ولا الكبيرُ على الصّغيرِ... فتتوقّفُ الحياةُ وتفنى الخليقةُ، وكذلكَ الحالُ لو رفعَ اللهُ اسمَ القُدرةِ لاستحالَ كلُّ شيءٍ إلى عدمٍ، وهكذا بقيّةُ الأسماءِ.
رابعاً: إنَّ حقيقةَ الإنسانِ وسرَّ وجودِه نابعةٌ مِن أسماءِ اللهِ الحُسنى المُتجلّيةِ فيه، وإنَّ قيمتَه بمقدارِ ما يحملُه مِن تلكَ الأسماءِ، فإسمُ العليمِ، والقديرِ، والحيّ، والرّحيمِ، والسّميعِ، والبصيرِ.. لها تجلّياتٌ في واقعِ الإنسانِ، فما يجدُه الإنسانُ في نفسِه منَ العلمِ، والقُدرةِ، والسّمعِ، والبصرِ، والحياةِ، والرّحمةِ، والإيمانِ... هيَ مِن تلكَ الأسماءِ، لأنّها فعلُ اللهِ في الإنسانِ، وهيَ حقيقةُ الإنسانِ وسرُّ بقائِه، فلو رفعَها اللهُ منه لكانَ نسياً منسيّاً.
خامساً: وعليهِ تُصبحُ أسماءُ اللهِ الحُسنى هيَ أسمى معاني الكمالِ والجمالِ، قالَ تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الغيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللهِ عَمَّا يُشرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الخالِقُ البارِئُ المصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ( ). إنَّ المعاني التي نجدُها في هذهِ الآياتِ وما تكشفُ عنهُ مِن أسماءٍ، لهيَ حقيقةُ التّكاملِ التي أرساها اللهُ لبني الإنسانِ، إنّها العلمُ، القُدرةُ، الرّحمةُ، السّلامُ، الأمنُ، الهيمنةُ، العزّةُ، الجبرُ (التّآلف)، الصّنعُ، الجمالُ، العزّةُ والحكمةُ، التي لو تجلَّت في الإنسانِ لابتُعِثَ مكاناً محموداً.
سادساً: إنَّ الدّعاءَ أصلُ العبادةِ، وحقيقةُ العبادةِ التّكامل، وقَد أمرَنا اللهُ أن ندعوه بأسمائِه الحُسنى، فيكونُ التّكاملُ عَن طريقِ تلكَ الأسماءِ، ولا يكونُ الدّعاءُ المقصودُ هوَ مُجرّدَ لقلقةِ لسانٍ، وإنّما دعاءً عمليّاً وتجسيداً فعليّاً لتلكَ الأسماءِ، كما يقولُ تعالى: ﴿اعمَلُوا آلَ داوُدَ شُكراً﴾ ( )، أي شُكراً عمليّاً وتجسيداً خارجيّاً، وليسَ مُجرّدَ كلامٍ، وهكذا كلُّ تلكَ الأسماءِ تكونُ طريقاً إلى مرضاتِه، بالتّجسيدِ العمليّ والفعلِ الخارجيّ، فالذي يسعى للعلمِ أو الذي يكونُ رحيماً في فعلِه أو يسعى لامتلاكِ أدواتِ القُدرةِ أو يحافظُ على الحياةِ أو غير ذلكَ يكونُ قَد دعا اللهَ باسمِ العليمِ والرّحيمِ والقديرِ والحيّ... أمّا الذّكرُ القلبيُّ واللّفظيّ، فهوَ ضروريٌّ لتأكيدِ هذهِ القيمِ واستذكارِها، حتّى تكونَ حاضرةً دوماً في وعي الإنسان.
وبذلكَ نكتشفُ الأثرَ العمليَّ للإيمانِ بصفاتِ اللهِ وأسمائِه حيثُ تُشكّلُ أصلَ العبادةِ والطّريقَ إلى تكاملِ الإنسانِ وقُربِه منَ الله.
اترك تعليق