هل الإمام المهدي (عليه السلام)، عندما يظهرُ، يتعامل مع النّاسِ الضالين بالقوة والسيف من أولِّ وهلة أم يتعامل معهم بالرحمة والهداية أرجو الجوابَ مدعوماً بالدليل؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بالنّسبةِ لتعاملِ الإمامِ المهديّ (عجّل اللهُ فرجَه) معَ النّاسِ فإنّهُ يكونُ على مستوياتٍ :
الطّائفةُ الأولى: ما دلَّ على أنّهُ يستأصلُ أنساباً خاصّةً و سُلالاتٍ مُعيّنةً، وينتقمُ مِن بعضِ النّاسِ، ومِن ذلكَ ما رويَ عنِ الهمدانيّ عَن عليٍّ عَن أبيه عنِ الهرويّ قالَ : قلتُ لأبي الحسنِ الرّضا (عليهِ السّلام): يا بنَ رسولِ الله، ما تقولُ في حديثٍ رويَ عنِ الصّادقِ (عليهِ السّلام) أنّهُ قالَ إذا خرجَ القائمُ قتلَ ذراري قتلةِ الحُسينِ (عليه السّلام) بفعالِ آبائِها؟! فقالَ (عليه السّلام) هو كذلكَ. فقلتُ: وقولُ اللهِ عزَّ وجل: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى)، ما معناهُ؟! قالَ (عليه السّلام): صدقَ اللهُ في جميعِ أقوالِه، ولكنَّ ذراري قتلةِ الحُسينِ يرضونَ بفعالِ آبائِهم ويفتخرونَ بها ومَن رضيَ شيئاً كانَ كمَن أتاهُ ولو أنَّ رجُلاً قُتلَ بالمشرقِ فرضيَ بقتلِه رجلٌ بالمغربِ لكانَ الرّاضي عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ شريكَ القاتلِ وإنّما يقتلُهم القائمُ (عجّل اللهُ فرجَه) إذا خرجَ لرضاهِم بفعلِ آبائِهم...
عيونُ أخبارِ الرّضا (عليه السّلام): ج ١، ص ٢٧٣
الطّائفةُ الثّانية: ما دلَّ على أنّهُ يظهرُ بالسّيفِ و يسيرُ بالقتلِ، و يأخذُ بالشّدّةِ ويُرعبُ النّاسَ، ومِن ذلكَ ما رويَ عَن أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) أنّه يقولُ: يخرجُ (يعني: المهديّ (عليه السّلام)) في إثني عشرَ ألفاً إن قلّوا أو خمسةَ عشرَ ألفاً إن كثروا، فيسيرُ الرّعبُ بينَ يديه، لا يلقاهُ عدوٌّ إلّا هزمَهُم بإذنِ الله، شعارُهم: أمِت أمت، لا يبالونَ في اللهِ لومةَ لائمٍ ، فيخرجُ إليهم سبعُ راياتٍ منَ الشّامِ فيهزمُهم ... الحديثُ. الفتنُ: بابُ خروجِ المهديّ (عليه السّلام) من مكّة ص ١٨٦.
وما رويَ عَن عبدِ اللهِ بنِ سنانٍ، عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام)، قالَ: إذا خرجَ القائمُ (عليه السّلام) لَم يكُن بينَه وبينَ العربِ والفُرسِ إلّا السّيفُ لا يأخذُها إلّا بالسّيفِ ولا يعطيها إلّا به. بحارُ الأنوار ج 52 ص389.
ومفادُ هذهِ الرّواياتِ يتنافى معَ الرّحمةِ التي يقتضيها مقامُ خلافةِ اللهِ تعالى، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ واسعُ الرّحمةِ وخليفتُه لا يكونُ إلّا رحيماً.
في مقامِ الجوابِ على هذهِ الشّبهةِ أذكرُ أموراً:
الأمرُ الأوّلُ:
(لله تعالى أن يُهلكَ مَن يشاءُ مُباشرةً أو بواسطةٍ):
منَ الأمورِ الثّابتةِ أنَّ للهِ تعالى أن يُميتَ جميعَ النّاسِ، وقد قدّرَ تعالى هذهِ الدّارَ ، وهيَ تنتهي بانتهاءِ قدرِها، يقولُ تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتِي لَم تَمُت فِي مَنَامِهَا فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيهَا المَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ). الزّمر 42.
كما أنّه تعالى مَن يُجري جميعَ الأسبابِ الطّبيعيّةِ و مِنها الزّلازلُ والبراكينُ المُهلكةُ للقبائلِ و القاطعةُ للأنسابِ، وخبّرنا القرآنُ عَن إستئصالهِ لمُجتمعٍ كاملٍ في قولِه تعالى: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحيَاهُم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَشكُرُونَ) البقرة 243.
وهوَ مَن أنزلَ عذابَ الإستئصالِ على أُممٍ خلَت فلَم يبقَ منهُم أحداً ، يقولُ تعالى: (فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُم ظَـٰلِمُونَ) و (فَأَغرَقنَـٰهُم فِي ٱليَمّ) الأعراف:136، و (فَأَغرَقنَـٰهُم أَجمَعِينَ) الأنبياء:77، و (فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ ٱلعَرِمِ وَبَدَّلنَـٰهُم بِجَنَّـٰتِهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَىء مّن سِدرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَينَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجزِى إِلاَّ ٱلكَفُورَ) سبأ:16-17،
فهلِ اللهُ تعالى مُرتكبٌ للقبيحِ في كلِّ هذا؟!
الجوابُ: كلّا، لأنَّ اللهَ تعالى مالكٌ للخلقِ ويتصرّفُ في مُلكِه، فهوَ لا يظلمُ بالتّعدّي على مُلكِ غيرِه، نعَم، ما ينزلُه اللهُ مِن ألمٍ على الخلقِ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوّلُ: ما لا يكونُ بعنوانِ العقوبةِ، وإنّما هوَ مِن مُقتضياتِ النّظامِ الأكملِ في الوجودِ، وهذا ليسَ قبيحاً لأنّهُ تصرّفٌ مِن مالكٍ، و ليسَ فيه بخسٌ لحقِّ أحدٍ وهوَ لمصالحَ أهم .
الثّاني: ما يكونُ بعنوانِ العقوبةِ، وحيثُ إنَّ العقابَ لا يكونُ إلّا للمُسيءِ ، فيقبحُ أن يُنزّلَ اللهُ الألمَ بعنوانِ العقابِ و الجزاءِ على مَن لم يرتكِب ما يوجبُ العقابَ، واللهُ تعالى إنّما يُعاقبُ الظّالمينَ المُستحقّينَ فقط.
وإذا جازَ للهِ تعالى أن يُعاقبَ باستئصالِ قومٍ أو عرقٍ أساءَ السّوءَ وارتكبَ ما يستحقُّ العقابَ ، فإنّهُ يجوزُ للهِ تعالى أن يفعلَ ذلكَ مُباشرةً أو بواسطةِ غيرِه كما في إهلاكِ أصحابِ الفيلِ حيثُ جعلَ الطّيورَ واسطةً ، قالَ تعالى: (أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَـٰبِ ٱلفِيلِ * أَلَم يَجعَل كَيدَهُم في تَضلِيلٍ وَأَرسَلَ عَلَيهِم طَيراً أَبَابِيلَ * تَرمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ).
و كما يجوزُ للهِ أن يستأصلَ بواسطةِ الطّيورِ يجوزُ لهُ أن يفعلَ ذلكَ بواسطةِ الإمامِ المهديّ (عليه السّلام)، فأيُّ محذورٍ في أن يقتُلَ اللهُ بالمهديّ (عليه السّلام) كلَّ مَن على الأرضِ إذا كانَ كلُّهم مُسيئينَ مُستحقّين للعقابِ؟!
فلا شكَّ في أنَّ مجموعَ الرّواياتِ يفيدُ العلمَ بأنَّ الإمامَ (عليه السّلام) سيقاتلُ و يقتلُ ، و لكنَّ هذا لا بأسَ فيهِ في نفسِه إذا كانَ دفعاً للفسادِ والظّلمِ بتطبيقِ العدلِ و إرادةِ اللهِ تعالى فإنَّ بعضَ الأمراضِ يتعاملُ معها الأطبّاءُ بشدّةٍ في بعضِ الأحيانِ قَد تصلُ إلى البترِ ، وقَد قالَ عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَليَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ) التّوبة 123.
وقالَ: (إِنَّ اللَّهَ اشتَرَىٰ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ ۖ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ ۚ وَمَن أَوفَىٰ بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ) ؟!
الآمرُ الثاني:
القتلُ لخصوصِ أعداءِ اللهِ تعالى:
دلَّت مجموعةٌ منَ الرّواياتِ على أنَّ الإمامَ الحُجّةَ (عليه السّلام) لا يقتلُ كلَّ النّاسِ، وإنّما خصوصَ أعداءِ اللهِ ، فعَن مُحمّدٍ بنِ أبي عُمير ، عمَّن ذكرَه ، عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام) (في حديثٍ) قالَ : القائمُ لَم يظهَر أبداً حتّى يخرُجَ ودائعُ اللهِ عزّ وجلَّ ، فإذا خرجَت ظهرَ على مَن ظهرَ مِن أعداءِ اللهِ عزّ وجلَّ فقتلَهُم. كمالُ الدّين : ج ٢ ص ٦٤١.
فالإمامُ (عليه السّلام) يظهرُ على أعداءِ اللهِ لا كلِّ النّاسِ ، وبهذا نعرفُ المُرادَ منَ الرّواياتِ التي لا تُحدّدُ مَن يظهرُ عليه الإمامُ كما في ما روى إبراهيمُ الكرخيّ، قالَ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام) ـ أو قالَ لهُ رجلٌ ـ :أصلحكَ اللهُ، ألم يكُن عليٌّ (عليه السّلام) قويّاً في دينِ اللهِ عزَّ وجل؟ قالَ : بلى ، قالَ : فكيفَ ظهرَ عليهِ القومُ، وكيفَ لَم يدفعهُم، وما يمنعُه مِن ذلكَ؟ قالَ: آيةٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ منعته، قالَ: قلتُ: وأيّةٌ آيةٍ هيَ؟ قالَ: قولُه عزَّ وجل: (لَو تَزَيَّلُوا لَعَذَّبنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذاباً أَلِيماً)، إنّهُ كانَ للهِ عزَّ وجلَّ ودائعُ مؤمنونَ في أصلابِ قومٍ كافرينَ ومُنافقينَ، فلَم يكُن عليٌّ (عليه السّلام) ليقتُلَ الآباءَ حتّى يخرُجَ الودائعُ ، فلمّا خرجَتِ الودائعُ ظهرَ على مَن ظهرَ فقاتلَه، وكذلكَ قائمُنا أهلَ البيتِ لَن يظهرَ أبداً حتّى تظهرَ ودائعُ اللهِ عزَّ وجلّ، فإذا ظهرَت ظهرَ على مَن يظهرُ فقتلَه. كمالُ الدّين : ج ٢ ص ٦٤١ و ٦٤٢.
فإنَّ المقصودَ مِن (ظهرَ على مَن يظهرُ فقتلَه) أي ظهرَ على أعداءِ اللهِ تعالى، ويدلُّ على ذلكَ الرّواياتُ الكثيرةُ الدّالّةُ على أنّهُ يسيرُ بسيرةِ رسولِ اللهِ (ص وآله) وسيرتُه ليسَ قتالُ جميعِ النّاسِ وإنّما الدّعوةُ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وقتالُ المُعاندِ المُحاربِ للحقِّ، فعَن محمّدٍ بنِ مُسلمٍ، قالَ : سألتُ أبا جعفرٍ (عليه السّلام) عن القائمِ (عج) إذا قامَ بأيّ سيرةٍ يسيرُ في النّاس؟ فقالَ: بسيرةِ ما سارَ بهِ رسولُ اللهِ (ص) حتّى يظهرَ الإسلام، قلتُ: وما كانَت سيرةُ رسولِ اللهِ (ص)؟ قالَ: أبطلَ ما كانَ في الجاهليّةِ واستقبلَ النّاسَ بالعدلِ، وكذلكَ القائمُ (عليه السّلام) إذا قامَ يُبطِلُ ما كانَ في الهُدنةِ ممّا كانَ في أيدي النّاسِ، ويستقبلُ بهم العدلَ. التّهذيبُ: ج ٦ ص ١٥٤
ويؤيّدُ هذا أيضاً بعضُ الرّواياتِ التي دلَّت على أنّهُ كانَ لا يقتلُ منَ المُتعدّينَ إلّا القتلةَ ولا يقتلُ غيرَهُم، فعَن أبي خالدٍ الكابُليّ، عَن أبي جعفرٍ (عليه السّلام)، قالَ : يخرجُ القائمُ فيسيرُ حتّى يمُرَّ بمرّ ، فيبلغهُ أنَّ عاملَهُ قَد قُتلَ، فيرجعُ إليهم فيقتلُ المُقاتلةَ ولا يزيدُ على ذلكَ شيئاً، ثمّ ينطلقُ فيدعو النّاسَ حتّى ينتهي إلى البيداءِ، فيخرجُ جيشانِ للسُّفيانيّ، فيأمرُ اللهُ عزَّ وجلَّ الأرضَ أن تأخُذَ بأقدامِهم، وهوَ قولُه عزَّ وجل: (وَلَو تَرى إِذ فَزِعُوا فَلا فَوتَ وَأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ).
تأويلُ الآياتِ الظّاهرة : ص ٤٦٧.
وبهذا نظفرُ بقرينةٍ تُقيّدُ الرّواياتِ الدّالّةَ على قتلِ ذُرّيّةِ مَن قتلَ الإمامَ الحُسينَ (عليه السّلام)، وهيَ أنَّ المقصودَ منهُم مَن كانَ مِن أعداءِ اللهِ تعالى، فيكونُ الإطلاقُ غيرَ مقصودٍ، وأمّا سيرتُه في المُستضعفينَ فإنَّ الرّواياتِ قَد تضافرَت في أنّه سوفَ يسيرُ بهِم بالقسطِ والعدلِ، وينعمونَ في دولتِه بالأمنِ والرّخاء
اترك تعليق