اذا كان القران الكريم لايتغير بتغير الزمان والمكان وقوانينه ثابتة فكيف للقرآن ان يواكب التطوارات العلمية والثقافية والتكنلوجية التي يشهدها العالم؟
السلام عليكم ورحمة الله
يُشيرُ السّؤالُ إلى إشكاليّةِ المُوازنةِ بينَ الثّابتِ والمُتغيّرِ، ويبدو أنَّ السّائلَ يفترضُ وجودَ نوعٍ منَ التّناقضِ والمُقابلةِ بينَهُما، فإذا كانَت مضامينُ القُرآنِ ومعانيهِ ثابتةً فلا يمكنُ أن تنسجمَ مع ضروراتِ الحياةِ المُتغيّرةِ، وإذا كانَت مُتغيّرةً فكيفَ يجوزُ نسبتُها للهِ طالما هيَ تتغيّرُ بحسبِ المُعطى العقليّ الإنسانيّ؟ ويبدو أيضاً أنَّ السّائلَ لَم يُفكِّر في العلاقةِ الجدليّةِ بينَ الثّابتِ والمُتغيّرِ، بمعنى أنَّ الثّباتَ والتّغيّرَ في إطارِ الفكرِ والمعرفةِ لا يُفهمانِ ضمنَ علاقتِهما الضّدّيّةِ، التي تجعلُ المعرفةَ إمّا ثابتةً وإمّا مُتغيّرةً، إنّما يجبُ فهمُهما ضمنَ العلاقةِ الجدليّةِ التي تضمنُ حيويّةَ المعرفةِ الإنسانيّةِ، وذلكَ مِن خلالِ التّكاملِ بينَ الثّباتِ والتّغيّرِ الذي يسمحُ بالحركةِ والصّيرورةِ على أُسسٍ ثابتةٍ.
فليسَت الإشكاليّةُ هيَ عدمُ الإعترافِ بالصّيرورةِ والتّغيّرِ فحسب، وإن كانَ عدمُ الإعترافِ بها جموداً وتخلّفاً ورجعيّةً، وإنّما الإشكاليّةُ الأخطرُ هيَ الإيمانُ بالصّيرورةِ دونَ الإيمانِ بوجودِ قيمٍ كُبرى ناظمةٍ لها ومُتحكّمةٍ فيها، فالصّيرورةٌ من دونِ تلكَ القيمِ هيَ مُجرّدُ حركةٍ عبثيّةٍ لا تخلقُ إلّا فوضى معرفيّة. فعندَما يكونُ الدّينُ ثابتاً دونَ أن يكونَ لهُ القُدرةُ على مواكبةِ التّغيّرِ يعني الجمودَ والتّخلّفَ. وعندَما يكونُ مُتغيّراً دونَ أن يكونَ لهُ القُدرةُ على الثّباتِ يعني الضّياعَ وفقدانَ الهويّةِ والملمحِ، والخيارُ الذي يُشكّلُ حدّاً وسطاً هوَ أن يكونَ الدّينُ ثابتاً في تحوّلِه ومتحوّلاً في ثباتِه، وذلكَ مِن خلالِ خاصيّةِ القُرآنِ القائمةِ على ثباتِ الإطارِ وحركةِ المُحتوى، ولكَي يتّضحَ الأمرُ بشكلٍ أكبر لابُدَّ منَ التّأكيدِ على أنَّ القيمَ كما في الإصطلاحِ الحديثِ، أو الحِكمةَ كما في الإصطلاحِ القُرآنيّ، هيَ الأساسُ الذي يُقيمُه القُرآنُ لجميعِ أحكامِه وتعليماتِه، والقيمُ بطبيعتِها تُشكّلُ مركزيّةً للمعرفةِ الإنسانيّةِ، لكونِها القادرةَ على الجري والإنطباقِ في كُلِّ الأزمانِ، والقُرآنُ بهذا الوصفِ يكونُ بمثابةِ النّورِ الذي يكشفُ الظّلمات قالَ تعالى: (يَا أَيّهَا النّاسُ قَد جَآءَكُم بُرهَانٌ مّن رّبّكُم وَأَنزَلنَآ إِلَيكُم نُوراً مّبِيناً) ومِن خاصيّةِ النّورِ أنّهُ يُشرقُ على المُتغيّراتِ التي تتحرّكُ تحتَه مِن دونِ أن تُؤثّرَ في إشراقِه.
ولكَي يتّصفَ الفكرُ الإسلاميّ بالشّموليّةِ والدّيمومةِ، لا بُدَّ أن يكونَ مُستبطِناً لقيمٍ كُلّيّةٍ صالحةٍ للجري مدى الزّمانِ والإنطباقِ على المُتغيّراتِ، ولا يمكنُ أن نتصوّرَ بأيّ شكلٍ منَ الأشكالِ أن يكونَ هُناكَ فكرٌ يتّصفُ بالشّموليّةِ والدّيمومةِ، وهوَ في الوقتِ نفسِه تصوّراتٌ جُزئيّةٌ ومصاديقُ محدودةٌ، فالذينَ فسّروا القُرآنَ إنطلاقاً مِن مرجعيّةٍ تاريخيّةٍ تصوّروا الإسلامَ رُؤىً محدودةً، قَد تجسّدَت في شكلِ صورٍ مثاليّةٍ لسلفِ الأمّةِ، وبذلكَ ابتعدُوا عنِ الإسلامِ في الوقتِ الذي ابتعدُوا فيهِ عنِ الواقع، أمّا الذينَ فسّروا القُرآنَ بمرجعيّةِ الحاضرِ، لَم ينظرُوا إلّا إلى إسلامِ السّلفيّةِ الماضويّةِ، ولذِا تطرّفوا في رفضِه مُتشبّثينَ بقيمٍ جديدةٍ تفرضُها ضرورةُ الحياةِ العصريّةِ، ففي حينِ اقتربُوا منَ الواقعِ ابتعدُوا عَن قيمِ الإسلامِ، وكِلا الخيارين لا يُمثّلانِ تعامُلاً مثاليّاً معَ القُرآنِ، لأنَّ القُرآنَ لا يُفسَّرُ بالواقعِ وإنّما الواقعُ هوَ الذي يُفسّرُ بالقُرآن.
ولكَي تتّضحَ طريقةُ التّعاملِ معَ القُرآنِ، لا بُدَّ منَ البحثِ عَن تلكَ الآليّاتِ التي تكشفُ عنِ القيمِ والسُّننِ المبثوثةِ فيه؛ لأنّها الكفيلةُ بجعلِ القُرآنِ مُشرِفاً ومُهيمِناً على الزّمانِ والمكانِ، فالضّرورةُ الموضوعيّةُ تجعلُنا أمامَ خيارينِ أوّلُهما أن يتشكّلَ النّصُّ وفقَ الواقعِ الزّمانيّ والمكانيّ، وبالتّالي يصبحُ النّصُّ أسيرَ ذلكَ الزّمانِ والمكانِ ومِن ثُمَّ التّراثِ الذي يقفُ حاجِزاً إمّا البُنيةُ التّطوّريّة للنّصّ، وإمّا أن يتشكّلَ الزّمانُ والمكانُ وِفقاً لبصائرِ الوحي، وذلكَ عندَما يمتلكُ النّصُّ خاصيّةً إشراقيّةً تسمحُ بحُرّيّةِ الحركةِ للواقعِ بكُلِّ مكوناتِه في أُفقٍ عقليّ يستوعبُ كلَّ خصوصيّاتِ المرحلةِ، وفي هذهِ الحالةِ لا بُدَّ أن تكونَ تلكَ البصائرُ.. القيمُ.. السّننُ.. الحِكمُ.. واضحةً ومُترتّبةً في شكلِها الهرميّ لكَي تتحقّقَ مركزيّتُها ويصحَّ الرّجوعُ إليها. وبهذا الشّكلِ لا يكونُ هُناكَ تناقضٌ بينَ ثباتِ الدّينِ ونسبيّةِ الحياةِ الإجتماعيّة، فليسَت العلاقةُ هيَ تقابلٌ بين الثّابتِ والمُتحوّلِ وإنّما تكاملٌ بجعلِ المُتحوّلِ يتحرّكُ على محورِ الثّابت.
وبذلكَ نخلصُ إلى أنَّ المنهجَ الذي نُؤكّدُ عليهِ يعتمدُ على التّدبّرِ في القُرآنِ بحثاً عنِ القيمِ المبثوثةِ فيه، فهيَ الكفيلةُ بخلقِ إنسجامٍ بينَ ثباتِ الشّريعةِ وتغييرِ الواقعِ، فبالقيمِ الثّابتةِ نضمنُ للإسلامِ قُدسيّتَه وإطلاقَه، وبنفسِ هذهِ القيمِ نمتلكُ قابليّةَ الإنفتاحِ على الواقعِ وضبطِ كُلِّ مُتغيّراتِه، وبذلكَ نفتحُ البابَ واسِعاً أمامَ العقلِ الإنسانيّ ليستخدمَ كُلَّ صلاحيّاتِه في رصدِ الواقعِ والحُكمِ عليهِ بما يُناسبُ تلكَ القيمَ، وحينَها يتكاملُ العقلُ والنّصُّ في رؤيةٍ واحدةٍ تُؤسّسُ للخطابِ الإسلاميّ في كلِّ مراحلِه.
اترك تعليق