ممكن توضيح العصمةُ وجهادُ النّفس عند الائمة ؟
ألا يُعدُّ إعطاؤهم صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم العصمةَ منَ اللهِ من دونِ مُجاهدةٍ إنتفاءً لأجرِ المُجاهدة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أجبنا في سؤالٍ مُشابهٍ عَن هذا الإشكالِ، ولمزيدٍ منَ التّوضيحِ لابُدَّ أن نفهمَ أنَّ العصمة كمالٌ ينالُه الإنسانُ بوصفِه بشراً، أي أنَّ المعصومَ لا يتخلّى عن بشريّتِه في حالِ عصمتِه، فالعصمةُ تركُ المعصيةِ معَ توفّرِ دواعيها والقُدرةِ على الإتيانِ بها، فما يُميّزُ الإنسانَ عنِ الملائكةِ وعنِ الحيوانِ هوَ كونُه مخلوقاً يحملُ إستعداداً ملائكيّاً وإستعداداً حيوانيّاً، حيثُ خلقَهُ اللهُ قبضةً مِن طينٍ ونفخةً مِن روحٍ، والإنسانُ في حالةٍ منَ الصّراعِ الدّائمِ بينَ مُقتضياتِ الرّوحِ والطينيّةِ، والعصمةُ ليسَت إلّا إنتصاراً لجانبِ الرّوحِ على جانبِ المادّةِ، إلّا أنَّ ذلكَ لا يعني أنَّ المعصومَ أصبحَ مُجرّداً عنِ المادّةِ وعَن تأثيراتِها على النّفسِ، فكونُه لا يخطئُ ولا تصدرُ منهُ المعاصي لا يعني أنّهُ مخلوقٌ مُجرّدٌ كالملائكةِ، قالَ تعالى: (قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثلُكُم يُوحَىٰ إِلَيَّ)، وعليهِ فإنَّ المعصومَ في حالِ عصمتِه يعيشُ حالةً منَ النّزاعِ بينَ مُتطلّباتِ المادّةِ المُتمثّلةِ في الغرائزِ والشّهواتِ وبينَ مُتطلّباتِ الرّوحِ المُتمثّلةِ في القيمِ والأخلاقِ، وعليهِ لا يكونُ معفيّاً عَن جهادِ نفسِه ومُصارعةِ هواه،ولهذا اصبحَ المعصومُ قدوةً ومثالاً لجميعِ المؤمنينَ، قالَ تعالى: (لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ) فإذا لَم يُعاني الأنبياءُ والأئمّةُ هذا الصّراعَ ولم يجاهدوا رغباتِهم ولم يحرمُوا أنفسَهم كيفَ يمكنُ أن يكونوا لنا أسوةً؟ يقولُ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام): (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَاماً يَقتَدِي بِهِ وَيَستَضِيءُ بِنُورِ عِلمِهِ) أي أنَّ الإمامَ وُجدَ أساساً لكي يقتدي بهِ عامّةُ النّاسِ، ممّا يعني أنَّ عصمةَ الإمامِ لا تجعلُه بعيداً عمّا يعاني منهُ جميعُ البشرِ مِن ضغطِ الهوى وصعوبةِ كبحِ الشّهواتِ والرّغباتِ، ولذا يقولُ (عليه السّلام): (أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُم قَدِ اكتَفَى مِن دُنيَاهُ بِطِمرَيهِ وَمِن طُعمِهِ بِقُرصَيهِ أَلَا وَإِنَّكُم لَا تَقدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِن أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ) أي أنّهُ ألزمَ نفسَه بالقليلِ مِن حاجاتِ الجسدِ وحرمَ نفسَه حتّى منَ الحلالِ والمُباحِ ليكونَ قدوةً في جهادِ النّفسِ وتربيةِ الذّاتِ، وبذلكَ هو يعاني أكثرَ ممّا يعانيهِ بقيّةُ النّاسِ ومِن هُنا صرّحَ سلامُ اللهِ عليهِ بقولِه: (أَلَا وَإِنَّكُم لَا تَقدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ )، ثم يكشف امير المؤمنين (عليه السّلام) عَن إمكانيّةِ إشباعِ شهواتِه ورغباتِه بملذّاتِ الحياةِ حيثُ قالَ: (وَلَو شِئتُ لَاهتَدَيتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا العَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا القَمحِ وَنَسَائِجِ هَذَا القَزِّ) والذي يمنعُه مِن ذلكَ ليسَ كونُه غيرَ قادر على الوصولِ إليها أو أنّه فاقدٌ للإحساسِ بهذهِ الملذّاتِ كالملائكةِ مثلاً وإنّما تركها بقوّةِ إرادتِه وجهادِه لأهواءِ نفسِه، ولِذا يقول: (هَيهَاتَ أَن يَغلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالحِجَازِ أَو اليَمَامَةِ مَن لَا طَمَعَ لَهُ فِي القُرصِ وَلَا عَهدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَو أَبِيتَ مِبطَاناً وَحَولِي بُطُونٌ غَرثَى وَأَكبَادٌ حَرَّى) وبذلكَ يتّضحُ أنَّ المعصومَ يعيشُ جهاداً صعباً وصراعاً مريراً في تربيةِ ذاتِه وتهذيبِ نفسِه مِن أجلِ العروجِ بها في مدارِ الكمالِ، والمؤمنُ في جهادِه لنفسِه إنّما يسيرُ في نفسِ الإتّجاهِ الذي سبقَه إليهِ المعصومُ، وهوَ بذلكَ يستحقُّ الفضلَ والأجرَ إلّا أنّهُ يكونُ قاصراً وبشكلٍ دائمٍ عَن بلوغِ ما وصلَ إليهِ المعصومُ مِن جهادِ النّفسِ وتربيةِ الذّات.
اترك تعليق