قال تعالى:(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد أستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها) اذن كيف نادى جبرائيل "وأنفصمت العروة الوثقى" عند استشهادة الامام علي ع
قال تعالى : (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد أستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها) سورة البقرة. الآية. ٢٥٦. وينقل عندما أستشهد أمير المؤمنين. ع. نادى جبرائيل بين السماء والأرض : تهدمت والله أركان الهدى وأنفصمت العروة الوثقى كيف يصح هذا القول اقصد. (انفصمت العروة الوثقى) بينما الآية الكريمة تقول: (فقد أستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها)؟؟ أرجوا التوضيح وجزاكم الله خيرا....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
للإجابةِ لابدَّ أن نقفَ على المعنى العامِّ للآيةِ حيثُ قالَ تعالى: (لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم) فالآيةُ واضحةٌ في بيانِ معنى العروةِ الوثقى، حيثُ أكّدَت على أنَّ الكُفرَ بالطاغوتِ والإيمانَ باللهِ هوَ الذي يُمثّلُ العروةَ الوثقى التي لا إنفصامَ لها، فالذي يلجأ إلى اللهِ دونَ غيرِه ولا يتمسّكُ بحبلٍ دونَ حبلِ اللهِ تعالى فإنّهُ سيتمسّكُ بعروةٍ لا يمكنُ أن تنقطعَ، أمّا الذي يعتقدُ في الطّاغوتِ ويتمسّكُ بحبالِه سيكونُ مصيرُه الهلاكَ لا محالةَ؛ لأنَّ حبلَ الطّاغوتِ ليسَ بينَه وبينَ الحقيقةِ أيُّ عُرىً وثيقةٌ، وإذا كانَ هذا هو المعنى الإجماليُّ للآيةِ فإنَّ علاقتَها تصبحُ واضحةً بأميرِ المؤمنينَ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) لأنَّ التّمسّكَ باللهِ لا يكونُ إلّا عبرَ مَن يُمثّلُ اللهَ مِن أنبياءٍ ورسلٍ وأئمّةٍ، فمَن يتمسّكُ بأولياءِ اللهِ ويجتنبُ الطّواغيتَ يكونُ قَد تمسّكَ باللهِ تعالى؛ وذلكَ لأنَّ الطّاغوتَ الذي اُمرنا بالكفرِ بهِ لهُ مصداقٌ واضحٌ وهوَ الحاكمُ المُتسلّطُ الذي نصبَ نفسَه على العبادِ دونَ إذنٍ منَ اللهِ مثلَ فرعون الذي قالَ اللهُ فيه: (إذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى) فلا بدَّ حينَها أن يكونَ الإيمانُ باللهِ لهُ تجلٍّ خارجيٍّ ومصداقٌ يُمثّلُه وليسَ مُجرّدَ قضيّةٍ نظريّةٍ يحتفظُ بها الذّهنُ، فعندَما ينهانا اللهُ عنِ التّحاكمِ للطّاغوتِ في قولِه تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِه) فلابُدَّ أن يجعلَ لهُ بديلاً نتحاكمُ لديهِ إذ لا يمكنُ التّحاكمُ عندَه مباشرةً، وهذا ما يُفسّرُ لنا ضرورةَ أولياءِ اللهِ، الذينَ يُمثّلونَ أمرَه وسلطانَه، وعليهِ يكونُ معنى الآية: (فمَن يكفُر بالطّاغوتِ ويؤمِن باللهِ)، أي مَن يكفُر بهذا (الذي لا يُمثّلُ اللهَ)، ويؤمِن بهذا (الذي يُمثّلُ اللهَ)، ولا يمكنُ أن يكونَ المقصود مِن قولِه (ويؤمِن باللهِ) أي أن نؤمنَ بقضيّةٍ غيبيّةٍ لا ترتبطُ بواقعٍ ملموس؛ لأنَّه حينَها لا يكونُ هناكَ أيُّ مناسبةٍ بينَ الكفرِ بالطّاغوتِ المُتمثّلِ في فلانٍ منَ النّاسِ، وبينَ الإيمانِ باللهِ كقضيّةٍ غيبيّةٍ ليسَ لها مُمثّلٌ في أرضِ الواقعِ.
ولكي نجدَ مثالاً لذلكَ نقولُ: مَن يكفُر بفرعونَ ويؤمِن بموسى فقَد إستمسكَ بالعروةِ الوثقى، فالإيمانُ باللهِ يتجلّى في الإيمانِ بموسى (ع)، وكذلكَ مَن يكفُر بيزيدَ بنِ معاوية، ويؤمِن بالحُسينِ بنِ علي (ع) وهكذا، فالقضيّةُ مُستمرّةٌ باستمرارِ البشرِ على الأرضِ، تُشكّلُ إبتلاءً حقيقيّاً للإنسانِ المؤمن. فللهُ أولياءُ فرضَ علينا طاعتَهم وأوجبَ علينا إمتثالَ أوامرِهم، ولا يتوقّفُ هذا الأمرُ عندَ الأنبياءِ والرّسلِ، وإنّما هوَ مُستمرٌّ في ولاةِ الأمرِ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم)، فطاعةُ ولاةِ الأمرِ هنُا ليسَ فقط لانتظامِ أمر الجماعةِ وسياسةِ أمورِهم، وإنّما هيَ عنوانُ الإنسانِ المؤمنِ الموحِّد حقّاً، بحيثُ لا يبلغُ الإنسانُ مرتبةَ التّوحيدِ، حتّى يكفرَ بكلِّ الزّعاماتِ التي تتحكّمُ مِن دونِ إذنٍ منَ الله.
وهكذا ينطبقُ هذا الأمرُ على كلِّ مَن حاربَ أهلَ البيتِ (عليهم السّلام) وأزالَهم عَن مراتبِهم التي رتّبَهم اللهُ فيها، يقولُ الإمامُ الباقرُ (عليه السّلام): (إيّاكم والولائجَ، فإنَّ كلَّ وليجةٍ دونَنا فهيَ طاغوتٌ) وقالَ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام) لأبي بصيرٍ في قولِه تعالى: (والذينَ إجتنبوا الطّاغوتَ أن يعبدوها...) أنتُم ُهم، ومَن أطاعَ جبّاراً فقَد عبدَه).
وعلى هذا فإنَّ الإمامَ عليّ (عليهِ السّلام) هو الذي يُمثّلُ حاكميّةَ اللهِ وسُلطانَه، والإيمانُ بهِ هوَ إيمانٌ بالله، والتّمسّكُ بهِ تمسّكٌ بالعروةِ الوثقى، فهوَ حبلُ اللهِ المُتّصلِ بينَ الأرضِ والسّماء، فكلُّ مَن أرادَ اللهَ لا سبيلَ لهُ إلّا بالعودةِ إليه والتّمسّكِ بإمامتِه، أمّا مَن إبتعدَ عنهُ فإنّهُ بلا شكٍّ كفرَ باللهِ ووقعَ في أحضانِ طواغيتِ الأرضِ مِن بني أميّةَ وأمثالِهم، وما زالَ الإمامُ عليّ (عليه السّلام) يُمثّلُ سبيلَ النّجاةِ والعروةَ الوثقى ما دامَ حيّاً يسعى بينَهم، ولكِن عندَما يُقتَلُ ويُسفكُ دمُه الشّريف يكونونَ قد قطعوا أيّ صلةٍ بينَهم وبينَ اللهِ تعالى، وإستحقّوا بذلكَ غضبَ اللهِ والطّردَ مِن رحمتِه تعالى، أمّا مَن كانَ مُتمسّكاً بهِ في حياتِه ويرى فيهِ الإمامَ المُفترضَ الطّاعةِ فإنّهُ بعدَ إستشهادِه سوفَ يتحوّلُ إلى الإمامِ الذي يأتي مِن بعدِه، ففي كلِّ زمانٍ للهِ حبلٌ متينٌ وعروةٌ وثقى يلجأُ إليها كلُّ تائبٍ يسعى لرضا اللهِ تعالى.
والخُلاصةُ: انَّ قولَه تعالى في وصفِ العروةِ الوثقى (لا إنفصامَ لها) أرادَ به إرتباطَ هذا السّبيلِ وهذهِ العروةَ باللهِ تعالى وأنّها لا تُفصمُ وتنفصلُ عنه، وصيحةُ جبرائيلَ (وإنفصمت العروةُ الوثقى) أرادَ أنَّ الشّقيَّ قتلَ سبيلاً وطريقاً إلى اللهِ تباركَ وتعالى، وعروةً وثقى. فالآيةُ بصددِ بيانِ إرتباطِ وعلاقةِ الوليّ باللهِ، والحديثُ بصددِ بيانِ قتلِ الشّقيّ للعروةِ الوثقى، فلا تنافيَ بينَهما.
اترك تعليق